حتمية الاستقلال: الانتقال الاستراتيجي التركي والأسباب والآثار الاقتصادية والعسكرية (2)
في الجزء الأول من هذا المقال، أظهرنا كيف تراجعت الروابط الاقتصادية والعسكرية بين أنقرة وواشنطن: من هبوط حصة أمريكا في التجارة التركية إلى 6.5% من الصادرات و4.8% من الواردات، إلى خسارة برنامج F-35 والعقوبات التي أضعفت الليرة بنسبة 40% عام 2018. هذا التراجع لم يكن حدثاً عابراً، بل مساراً استراتيجياً أعاد تعريف مكانة تركيا داخل الناتو، وحدود اعتمادها على الغرب.
ينطلق هذا الجزء من تلك الخلاصة ليتناول مسار أنقرة البديل: التحوُّل شرقاً. هنا تتضح أرقام جديدة: تجارة بأكثر من 60 مليار دولار مع روسيا مدفوعة بالطاقة، وعجز تجاري يفوق 38 مليار دولار مع الصين، لكنه مقترن بصفقات استثمار وتمويل، وشراكات محدودة مع إيران تحت سقف العقوبات. سنناقش كيف جعلت هذه التحولات تركيا لاعباً أوراسياً بقدر ما هي عضواً أطلسياً، وكيف ترتبت عليها انعكاسات سياسية وعسكرية أوسع من مجرد أرقام التجارة والطاقة.
الانتقال إلى البدائل: روسيا
مع برودة علاقاتها بأمريكا وأوروبا، قوَّت أنقرة روابطها الاقتصادية والاستراتيجية مع قوى، مثل: روسيا والصين وإيران. يتجلى ذلك في بيانات صلبة– أحجام تجارة قافزة، ومشروعات طاقة وبنى تحتية، وترتيبات مالية «تبادل Swap» وعملات لتيسير تجارة لا تمرُّ عبر المنظومة الغربية.
لا يظهر التحول أوضح مما هو مع روسيا. فعلى الرغم من كون البلدين خصمين تاريخيين ووقوفهما على طرفي نزاع في الكثير من الأماكن، مثل: سورية أثناء الحرب السورية، وجد الطرفان قواسم عملية.
بالأرقام، قفزت التجارة الثنائية. في 2019، قبل الجائحة وحرب أوكرانيا، بلغت تجارة تركيا– روسيا 26.3 مليار دولار. وبحلول 2022، وسط عقوبات غربية على روسيا «التي لم تنضمُّ إليها تركيا»، تخطى حجم التجارة 62 مليار دولار– أكثر من الضعف– وفق تصريحات رسمية. جعل ذلك روسيا مصدر واردات تركيا الأول في 2022 «بدلاً من الصين» وسبباً رئيسياً في اتساع عجزها التجاري. ويرجع معظم الارتفاع إلى الطاقة: إذ استفادت تركيا من نفط وغاز روسيين مخفضي السعر أعادت موسكو توجيههما بعيداً عن أوروبا.
ارتقت تركيا من المرتبة 14 إلى الثالثة بين مشتري الخام الروسي بحلول 2022، وشكَّلت الشحنات الروسية 70% من واردات تركيا البحرية من الخام في 2024. كما أصبحت تركيا أكبر مستورد عالمي للمنتجات النفطية الروسية المكررة، بحصة 21% من صادرات روسيا من الوقود– وأعادت تصدير بعضه كمنتجات مكررة «تركية» إلى أوروبا مستغلة ثغرات في العقوبات.
في الغاز الطبيعي، ثبَّتت روسيا وضعها كمورِّد مهيمن. تستورد تركيا تقريباً كل حاجتها، وفي 2024 جاء نحو 42% من غازها من روسيا، ارتفاعاً من 24% في 2019. ويؤمِّن ذلك أنبوبان رئيسيان تحت البحر الأسود: «السيل الأزرق» منذ 2003 و«السيل التركي» منذ 2020. يستطيع «السيل التركي» بمفرده نقل 31.5 مليار متر مكعب سنوياً. كذلك يناقش الجانبان مشروع «مركز غاز» في تركيا لإعادة توجيه وتسعير الغاز الروسي للأسواق العالمية. ورغم العقبات، يعكس الطموح سعي تركيا لأن تكون عقدة طاقة لروسيا.
تُشَدُّ روابط المشاريع الكبرى عُرى الاقتصادين. الأبرز: محطة «أكويو» النووية على المتوسط– مشروع بـ25 مليار دولار تموِّله وتبنيه «روسأتوم» الروسية بالكامل. عند اكتماله بحلول 2028، سيؤمن 10% من كهرباء تركيا، وستديره «روسأتوم» بعقد طويل الأمد، بما يجعل تركيا معتمدة على روسيا لجزء من كهربائها. في نيسان 2023 تسلَّمت تركيا أول شحنة وقود نووي من روسيا لأكويو، لتدخل نادي الطاقة النووية. هذا الاعتماد الطاقي العميق ذو تبعات جيوسياسية: فهو يمنح روسيا نفوذاً، ويمنح تركيا حافزاً للإبقاء على علاقات طيبة لضمان الإمدادات.
أما التعاون الدفاعي فمحدود مقارنة بالاقتصاد، لكنه آخذ في التنامي. صفقة S-400 بقيمة 2.5 مليار دولار كانت توقيعاً سياسياً. سُلِّمت الدفعات الأولى في تموز 2019، ورغم عدم تشغيلها «يقال إنها تمَّ تخزينها تفادياً لعقوبات إضافية»، فقد كانت الصفقة «تصريح موقف». نوقشت احتمالات تعاون أوسع «مقاتلات، محركات دبابات»، دون صفقات كبرى لاحقة.
بالتزامن مع ذلك، ظهرت سمة أخرى: تنسيق ميداني. في سورية منذ 2016، نسَّق الطرفان دوريات واتفاقات فك اشتباك «مسار أستانا» رغم دعمهم فصائل متعارضة. وفي القوقاز، أقرَّت روسيا دعم تركيا لأذربيجان عام 2020 بشكل ضمني، وانتهى الأمر بتقاسم أدوار حفظ السلام. هذه المواءمة البراغماتية مؤشر على تقارب استراتيجي أوسع.
مالياً، خطت تركيا وروسيا خطوات لتجاوز العقوبات الغربية والدولار. بعد عزل بنوك روسية عن «سويفت»، أبقت تركيا قنواتها مفتوحة. تدفقت مليارات روسية إلى البنوك التركية– تقديرات بنحو 4–6 مليارات بعد 2022. وسُجلت مئات الشركات الجديدة: أكثر من 1300 شركة روسية تأسست في تركيا في 2022، بزيادة 670% سنوياً، تراوحت من شركات تجارة صغيرة إلى كيانات أكبر انتقلت إلى تركيا للتهرب من العقوبات، وتعمل في لوجستيات وعقارات وإلكترونيات تسمح لها بذلك.
كذلك اشترى أثرياء روس عقارات بكثافة، فمنذ الحرب، شكَّل الروس أكثر من 20% من مشتريات الأجانب للعقارات «وتمنح تركيا مسار جنسية سريعاً لمشتريات تتجاوز قيمة معينة، وهو ما استفاد منه كثيرون». وعلى صعيد المدفوعات، وافقت تركيا على دفع جزء من الغاز بالروبل– أعلن بوتين في أيلول 2022 أن 25% من الإمدادات ستُسدد بالروبل. يقلِّص ذلك الاعتماد على الدولار/اليورو، وينسجم مع مساعي روسيا لفك الارتباط بالدولار. ورغم ضبابية التفاصيل «وضغوط أمريكية أجبرت بنوكاً تركية على وقف نظام «مير» الروسي للمدفوعات في أواخر 2022»، فإن الاتجاه واضح: بناء بيئة ثنائية أقل عرضة لنفوذ الغرب المالي.
باتت علاقات تركيا– روسيا تتسم بتجارة ضخمة، وصلات طاقة حرجة، ومشروعات استراتيجية، وتداخل مالي. من أكثر من 60 مليار دولار تجارة إلى مليارات من الأموال الروسية الوافدة– تبرز علاقة تعوِّض في جوانب كثيرة برودة الصلات مع الغرب. لكنها ليست بلا جدلٍ داخليٍّ، إذ يثير الاعتماد على روسيا للهيدروكربونات والاستثمار مخاوف نفوذ زائد داخل التيار الموالي للغرب في تركيا. ويراقب الحلفاء الغربيون ذلك بحذر، بعد أن أصبحت تركيا «بوابة خلفية» لكسر العقوبات. بالفعل، في 2023 عاقبت أمريكا شركات تركية لشحن سلع مزدوجة الاستخدام لقطاع الدفاع الروسي، ما يبيِّن مدى إدراك الولايات المتحدة لخساراتها في تركيا.
الانتقال إلى البدائل: الصين
الصين محور آخر للانعطاف شرقاً بالنسبة لتركيا، وإن كانت العلاقة اقتصادية أكثر منها عسكرية. قفزت تجارة تركيا–الصين خلال العقد الماضي، لكن لصالح الصين بصورة شبه كاملة. ففي 2000 كانت التجارة بالكاد مليار دولار. وبحلول 2022 بلغت 38.5 ملياراً، بزيادة بلغت قرابة 13% عن العام السابق. جعل ذلك الصين ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا إجمالاً. غير أن الميزان مختل بشدة: تسجل تركيا أحد أكبر عجوزاتها مع الصين. ففي 2022 قُدرت واردات تركيا من الصين بـ41.4 مليار دولار، فيما بلغت صادراتها للصين 3.3 مليارات فقط. أي نسبة 12.5 إلى 1، بعجز يفوق 38 ملياراً.
تصدِّر تركيا الرخام وبعض المعادن للصين، وتستورد كميات هائلة من إلكترونيات وآلات وكيماويات وسلع استهلاكية. وبحلول 2022 شكَّلت التجارة مع الصين قرابة 60% من إجمالي عجز تركيا التجاري. ورغم إثارة تركيا هذه القضية، فإن المنتجات الصينية مترسخة في السوق التركية من معدات «هواوي» إلى السلع الرخيصة.
ربّما الأهم في هذا السياق، أنّ الصين تحوَّلت إلى مستثمرٍ ومموِّلٍ متنامي الحجم في تركيا، وإن بحجم أقل من التجارة. استهدفت الصين بنية تحتية وتقنية، ومن الاستثمارات البارزة: انضمام تركيا لبنك الاستثمار الآسيوي في البنى التحتية AIIB في 2015 كمؤسِّس، وتمويل صيني لخطوط قطارات ومحطات كهرباء. وفي 2015 اشترى كونسورتيوم صيني 51% من «كومبورت- ثالث أكبر مرفأ حاويات بإسطنبول» بنحو 940 مليون دولار. وفي التقنية، ضخَّت «علي بابا» استثمارات ضخمة في تطبيق مبيعات «ترينديول» الرائد تركياً، بدأت بحصة في 2018 وبحلول 2023 بلغت استثماراتها 1.4 مليار دولار، مع خطط معلنة لإضافة 2 مليارين أخريين في مراكز بيانات ولوجستيات وتصدير من تركيا. وهذه من أكبر الاستثمارات الصينية في تركيا. كذلك تملك «زد تي إي» حصة في ذراع معدات «ترك تيليكوم»، و«هواوي» لها مقر إقليمي في إسطنبول.
وننتقل إلى بعد آخر في مجال التعاون المالي: وقَّعت تركيا والصين خطوط مبادلة عملات وسُبل دفع بالعملات المحلية. أُبرم أول «تبادل Swap» في 2012، وفي حزيران 2021 تضاعف حجمه أربع مرات. وفي 2023 جُدِّد، بما يتيح مبادلة حتى 35 مليار يوان/189 مليار ليرة تركية «قرابة 4.8 مليارات دولار» بين المصرفين المركزيين. يهدف ذلك لتقليص الاعتماد على الدولار، وتمكين تسوية جزء من الواردات باليوان والصادرات بالليرة. وقد فعَّلت تركيا هذا الخط فعلاً في 2021 و2022 لتحصيل مليارات بالعملة الصينية دعماً لاحتياطاتها. وفي 2023 تمّ الاتفاق على إنشاء مركز مقاصّة للعملة الصينية في تركيا. سيُسهِّل هذا تسوية التجارة باليوان ويخفض الكلفة، متماشياً مع «الحزام والطريق». عملياً، موَّلت الصين طرقاً وجسوراً وأنفاقاً، وموَّلت «إكسيم بنك» الصيني بـ 1.3 مليار دولار لتخزين الغاز تحت بحيرة الملح في 2019.
وعلى الصعيد السياسي، اتخذت تركيا مواقف حذرة في قضايا حساسة لبكين، كالأيغور، أملاً في عدم مقاطعة المكاسب الاقتصادية، فقد خفَّضت أنقرة انتقاداتها لسياسات شينجيانغ، وأُشيع التفاوض على اتفاقات تسليم للمطلوبين في الصين، بما يعكس بشكل مباشر أثر تنامي الاتفاقات الاقتصادية. أمّا عسكرياً، فالتعاون محدود جداً. اتفقت تركيا عام 2013 على شراء نظام دفاع جوي صيني «HQ-9» بصفقة بقيمة 3.4 مليار دولار، لكنه أُلغي تحت ضغط الناتو. ومنذ تلك الصفقة ظلَّت المبيعات العسكرية الصينية محدودة.
انعكاسات على الأعمال والقطاع الخاص
أحدثت التحولات في تموضع تركيا آثاراً كبيرة على الشركات والقطاع الخاص داخلياً وخارجياً. في تركيا، تمثَّل الأثر المباشر في التقلبات المالية. إذ رفعت أزمة 2018– حين هوت الليرة وسط تهديدات العقوبات الأمريكية– كلفة الواردات والفوائد. أصبحت شركات ذات مديونية بالدولار «كقطاعي البناء والطاقة» على شفير التعثر. كما تباطأ الاستثمار الأجنبي المباشر من مصادر غربية بعد 2016، حيث جمَّدت شركات متعددة الجنسيات التوسع، أو طلبت علاوات مخاطرة أعلى. ونقلت بعض الشركات الأمريكية مكاتبها الإقليمية خارج تركيا بهدوء، بسبب عدم اليقين السياسي والاحتكاكات المتقطعة «كمثال تعليق التأشيرات المتبادل 2017 الذي عطَّل السفر التجاري».
على الجانب التركي، واجه المصدِّرون بيئة أكثر تعقيداً. فرض فقدان امتيازات GSP في 2019 رسوماً أعلى على صادرات المنسوجات والمجوهرات إلى أمريكا، مما ضغط على الهوامش. كما ضربت تركيا رسوم «القسم 232» على الفولاذ «25%» بشدة، كونها كانت سادس أكبر مورِّد للصلب إلى أمريكا. وفي عام مضاعفة الرسوم «2018» هبطت صادرات الصلب التركية إلى أمريكا 35%، ولجأ المنتجون إلى أسواق بديلة في أوروبا والشرق الأوسط، بنجاح جزئي وبأسعار أقل. كما أثَّرت الرسوم التركية الانتقامية على بضائع أمريكية «خاصة الزراعية والسيارات والمشروبات الروحية» على مستوردين ومستهلكين محليين.
لكن في المقابل، استفادت صناعات تركية من الميل شرقاً. مع روسيا، سدَّ المصدِّرون الأتراك فراغ السلع الغربية المعاقبة. ووجدت الزراعة فرصاً هائلة بعد حظر روسيا للأغذية الأوروبية، فزادت صادرات الأغذية التركية لروسيا من 2.5 مليار في 2021 إلى 3.1 مليار في 2022. كما اكتسب صانعو الأجهزة المنزلية والأثاث والمنسوجات وصولاً أكبر مع انسحاب علامات أوروبية بعد 2022. قفزت صادرات تركيا لروسيا من 5.7 مليارات «2021» إلى 9.3 مليارات «2022»، ثم إلى 10.9 مليارات «2023».
وتعكس السياحة والعقارات خيارات اقتصادية خاصة متأثرة بالجيوسياسة. تراجع قدوم السياح الغربيين 2016–2017 بفعل الهجمات ومحاولة الانقلاب، وعلَّقت أمريكا التأشيرات مؤقتاً 2017. لكن روسيا سدَّت الفراغ: صار الروس الزائر الأول «أكثر من 7 ملايين في 2019» بفضل النظام دون تأشيرة وعلاقة سياسية بين أردوغان وبوتين. وأصبحت أعمال المنتجعات الساحلية معتمدة أكثر على الزبون الروسي. ومع حرب 2022، حافظت تركيا ببراعة على تدفق الروس، وفتحت أبوابها لهم رغم الحظر الأوروبي، ما أدى إلى انتقال عشرات الآلاف من الأثرياء الروس أو إقامتهم الطويلة 2022–2023. أشعل ذلك طفرة عقارية في إسطنبول وأنطاليا، حيث اشترى الروس شققاً لنيل الإقامة فقفزت الأسعار. وفق «توركستات»، بلغت مشتريات الأجانب للعقارات رقماً قياسياً في 2022، وكان الروس في الصدارة بأكثر من 16,000 وحدة «بارتفاع قرابة 203% سنوياً». وهذه نتيجة مباشرة لتقديم تركيا نفسها «ملاذاً» لرؤوس الأموال الهاربة من دول معاقَبة أو مضطربة، بغض النظر عن سلبيات ذلك.
أما الشركات الأمريكية والأوروبية في تركيا فنجد الصورة مختلطة. لم تستهدفها انعطافة أنقرة مباشرة، فتركيا ما تزال تشجِّع الاستثمار الغربي، وما تزال شركات كثيرة تجني أرباحاً، لكنها تتحرك بحذر: وجدت الشركات الأمريكية نفسها أحياناً وسط اشتباكات دبلوماسية «مثلاً: تحقيقات في 2020 طالت بعض شركات التواصل الاجتماعي والبنوك الغربية، رآها البعض وسيلة ضغط». استجابت بعض الشركات بتوطين الإنتاج، أو الشراكة مع شركاء محليين ذوي نفوذ لتخفيف المخاطر. كما أثَّر قانون توطين البيانات مباشرة على شركات التقنية، فارضاً استثمارات في خوادم محلية.
كما خسر المتعاقدون الدفاعيون الغربيون أعمالاً كثيرة: ضاعت صفقة «باتريوت» أمام S-400، ومحادثات بيع ترقيات F-16 علِقت بشروط سياسية، رغم الضغط من قبل الشركات الأمريكية المعنية بألّا تتدهور العلاقة، كمثالها شركات الطيران التي لم ترد أن يتم تهديد صفقة F-16 الكبيرة «نحو 20 مليار دولار لـ40 طائرة جديدة و79 حزمة تحديث».
من جهة التكيف، تبرز شركات الدفاع التركية كفائز كبير. ارتفعت صادرات السلاح بأكثر من 100%، وصارت «بايكار» علامة عالمية «تبيع لأكثر من 35 دولة». استفادت من دعم حكومي ومن الفراغ الذي خلفته القيود الغربية.
الاستمرار في إعادة التموضع
إن نظرنا إلى الأرقام، ستكون السنوات المقبلة كاشفة: إذا استمرت الاتجاهات الحالية، قد تبقى تجارة أمريكا–تركيا في نطاق 30–40 مليار دولار، أو ربّما أخفض، إن حدثت تحوُّلات نوعية «كما حدث حين الاتفاق مع روسيا على منظومات S400». بالمقابل، قد تصل أو تقطع تجارة تركيا–روسيا 100 مليار، وهو الهدف المعلن حكومياً.
بالمثل، قد تتعمق الفجوة الدفاعية– إذ قد يتمُّ إنفاق جزء أكبر من ميزانية تركيا الدفاعية «حوالي 15–20 مليار دولار» محلياً أو مع شركاء غير أطلسيين، وقد تسجل سجلات SIPRI تحويلات شبه صفرية مع أمريكا، إن لم تُبرم صفقات جديدة. في المقابل، من المرجح استمرار صعود صادرات السلاح التركية «بلغت 1.7% من الصادرات العالمية»، مع بيع المسيّرات والسفن عالمياً، بما يبدِّل سوق الدفاع تدريجياً، وقد يعزز ذلك نفوذ تركيا لاعباً مستقلاً في آسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط، حيث تقدم معدات وتدريباً بالفعل.
إنّ توازن القوى في أوراسيا يعني انجراف تركيا إلى تداعيات متعددة الأوجه. فهو يخلق محور تعاون جديد، يمتد من البحر الأسود إلى آسيا الوسطى «تجد فيه تركيا وروسيا وإيران والصين مصالح مشتركة في الالتفاف على الهيمنة الغربية». وهو يعقِّد استراتيجيات الغرب– مثلاً: احتواء روسيا أو إدارة إيران– إذ يمكن لتركيا أن توفر شرايين اقتصادية بديلة «كما أظهرت صفقة الحبوب وتجارة النفط». جوهر الأمر، أن تركيا تفرض دور «قوة محورية» تتطلب مقاربة متعددة الأقطاب من الجميع. وتماسك الناتو لم ينكسر، لكنه يضم اليوم عضواً مستقلاً داخلياً.
في النهاية، ما إذا كان هذا التموضع سيُثبِّت مكانة تركيا أو يتركها «مشدودة» بين قوى كبرى، سيعتمد على براعة دبلوماسية وربما ترميم الجسور. إنّ ما حدث في العقد الأخير من تجارة روسيا وتمويل الصين... قد يعرِّض التقارب الشديد مع قوى غير غربية تركيا لـ«عقوبات ثانوية، وصدمات إمداد، وفقدان نفاذ إلى أسواق الغرب»، فضلاً عن تباعد عن منظومة التحالف الغربي، لكنّ هذا- كما كان في المقام الأول- سيدفع تركيا إلى الاستقلال أكثر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1246