باريس والوهم: حضور دوليّ يتجاوز إمكاناتها ويعكس انقسام واشنطن!
شكّلت فرنسا يوماً ما إحدى القوى التقليدية في النظام الدولي، لكنّ السنوات الأخيرة أثبتت أنّ قدراتها الاقتصادية والعسكرية في انحدار واضح. من هنا يأتي السؤال: لماذا لا يزال اسمها يتردّد في مشاهد كبرى كأفريقيا وأوكرانيا وسورية؟ كيف يمكن لدولة تعاني تراجعاً في أدواتها المادية أن تحافظ على حضورها في قلب الخطاب الجيوسياسي العالمي؟
الإجابة القصيرة: باريس لا تتحدث دوماً باسمها الخالص، بل تظهر في كثير من الأحيان كظلٍّ لقوة أمريكية نافذة ضمن الانقسام القائم في المشهد السياسي في واشنطن. ومن هنا، يصبح حضورها المتكرر في الملفات الدولية انعكاساً لشبكة أوسع من التناقضات والمصالح والاصطفافات تتجاوز قدرتها الذاتية، لا يؤثر إلّا بقدر تأثير الأصيل الذي يحرّكها.
في هذا المقال، نسعى لتحليل هذه المفارقة من خلال ثلاثة ميادين رئيسية: أفريقيا، حيث كشفت التحولات الأخيرة حدود النفوذ الفرنسي؛ أوكرانيا، حيث يتجاوز خطاب باريس إمكاناتها الفعلية؛ وسورية، التي تُمثّل المثال الأوضح على التناقض بين الضجيج الدبلوماسي الفرنسي وواقع التراجع الاستراتيجي.
الركود الاقتصادي والضغوط المالية
وفق مقاييس عديدة، لم تعد فرنسا «محركاً اقتصادياً» كما كانت. فرغم أنّها ما تزال «اسمياً» سابع أكبر اقتصاد في العالم، لكن حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي لا تتجاوز نحو أربعة % فقط. وبالأسعار الثابتة، فإن الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي اليوم أصغر مما كان عليه قبل الأزمة المالية في 2008.
بعد انتعاش ما بعد الجائحة بنسبة نمو بلغت +7 % عام 2021، تباطأ الأداء الاقتصادي الفرنسي. إذ بلغ متوسط النمو نحو 1 % سنوياً في 2023–2024، مع توقّعات بالتراجع إلى 0.6 % فقط نهاية هذا العام 2025. ورغم تراجع التضخم، فإن الزيادات الحقيقية في الدخل تبقى متواضعة.
بالتزامن مع ذلك، تحمل فرنسا ديناً عاماً ضخماً «نحو 113 % من الناتج في 2023، مع مسار صعودي باتجاه 118 % بحلول 2026». أمّا البطالة، التي بلغت 7.1 % منتصف 2023، فمتوقّع أن ترتفع نحو 8–9 % بحلول أواخر 2025. إجمالاً، تصف التوقّعات الرسمية الوضع بأنه «تباطؤ قوي» وإضعاف للاقتصاد المحلي.
وقد نبّه معلّقون بارزون إلى هذا الاعتلال منذ زمن، وذلك سابقٌ حتّى لأزمة كورونا. فقد حذّر مقال نشرته «أتلانتيك كاونسل» منذ 2013، بأنّ الاقتصاد الفرنسي كان «مريضاً»، ولم يسجّل نمواً لخمسة أعوام، مع بطالة شبابية فوق 26 %.
وفي الآونة الأخيرة، لاحظ محللون ماليون أوروبيون، تراجع ثقة الأعمال في فرنسا وتباطؤ الاستهلاك. ورغم استمرار تصنيف فرنسا كبلد ذي دخل مرتفع واقتصاد متنوّع، فإن آفاق نموّها البعيدة الأمد مقلقة: الاستثمار ضعيف، وثقة المستهلك تراجعت مع آثار التقشّف المالي. هذا الركود الاقتصادي يُقوّض ادّعاء باريس وجودها في القيادة العالمية. وكما قالت «شبيغل»، فإن «النموذج الفرنسي بلغ مرحلته النهائية».
تخلّف اقتصاد فرنسا عن نظرائه. وفي المقابل، رفعت قوى صاعدة– كالصين والهند– حصّتها العالمية، بينما تواصل مساهمة أوروبا في الناتج العالمي الانكماش. وتُظهر إحدى البيانات، أنّ حصة فرنسا من الاقتصاد العالمي بالكاد تبلغ اليوم نحو 2.0 %. في هذا السياق، يشكّك كثير من المحللين في قدرة فرنسا على إسقاط القوة بعيداً عن حدودها. وكما نشر مركز SETA التركي للأبحاث، فالأمر بصريح العبارة: أنّ باريس «لم يعد يُنظر لها، في نظر كثير من المراقبين، بأنّها لاعبٌ ثقيلٌ في السياسة الدولية».
من «فرانسأفريك Françafrique» إلى التراجع
عسكرياً، ما تزال فرنسا تحتفظ بقوات لا بأس بها، ناهيك عن أنّ لديها سلاح الردع النووي، لكن مدى عملياتها الخارجية تقلّص. تقليدياً، حافظت فرنسا على عشرات آلاف الجنود في مستعمراتها الأفريقية السابقة. وبحلول عام 2025، لم يبقَ لها على القارة سوى بضعة مئات. فلا تملك فرنسا اليوم في القارة الأفريقية بعد الانسحابات الكبيرة التي شهدتها في العامين الماضيين، سوى 80 مستشاراً في ساحل العاج، و350 جندياً في الغابون، إضافةً إلى حوالي 1,500 جندي في جيبوتي.
تصف تحليلات متعددة تآكل النفوذ الفرنسي في أفريقيا بسرعة، فقد رأت جهات فرنسية رسمية في 2024 أنّ هذه الخطوات شكّلت «المسمار الأخير في نعش» هيمنة فرنسا العسكرية بعد الاستعمار في منطقة الساحل. وعلّق محلّل مركز الأبحاث المرموق «فيريسك مابل كروفت» موساهيد دورماز: «هذا جزء من تحوّل بنيوي أوسع... تواصل فيه القوة السياسية والعسكرية لباريس التراجع». ليحلّ محلّها الروس والأتراك، وبشكل أقل الصينيون.
تبرز أدلّة تراجع فرنسا في أفريقيا بصورةٍ دراماتيكية وحديثة. ففي تقييم واسع، يلاحظ محلّلون أنّ فرنسا «فقدت الوزن في ميزان القوى العالمي» ونقلَت ما تبقّى من قوّتها إلى أصغر الدول الإقليمية. عملياً، انتهت عمليات فرنسا إلى انسحاب أو هزيمة. فبعد سنوات من قتال التمرّدات الجهادية إلى جانب جيوش أفريقية، أُجبرت باريس على الخروج من مالي عام 2022، ثم خسرت قواعدها في بوركينا فاسو والنيجر. وبنهاية 2024، أعلن آخر شريك كبير لها في الساحل، تشاد، إنهاء اتفاقه الدفاعي مع فرنسا، قاطعاً شريان الإمداد لأي انتشار مستقبلي. وفي الوقت نفسه، تعزز روسيا مساعيها لإحلال نفسها محل فرنسا في هذه الساحات، ما يضاعف إظهار عجز باريس.
في أفريقيا– المختبر الأوضح لقوة فرنسا خارج أوروبا– تشهد المعطيات والملاحظات التحليلية معاً على التراجع. تتقلص البصمة، ويحلّ محلّ النفوذ لاعبون آخرون. وهذه الاتجاهات تتطابق مع القصة الأوسع عن الضغوط الاقتصادية: فإذا كانت باريس تكابد للحفاظ على اقتصادها الداخلي، فمن الطبيعي أن تكابد للحفاظ على التزاماتها الخارجية.
فرنسا وحرب أوكرانيا: شريكٌ دون قيادة
عندما أطلقت روسيا حربها ضدّ الغرب في أوكرانيا مطلع 2022، انضمّت فرنسا إلى ائتلاف الغرب في العقوبات والدعم، لكن إسهامها وتأثيرها بقيا محدودَين مقارنةً بأمريكا وألمانيا. فقد أدانت فرنسا روسيا وقدّمت بعض الدعم العسكري «مدفعية وأنظمة دفاع جوي، إلخ»، لكنها لم تقدّم سوى جزء صغير من إجمالي دعم «الناتو/الاتحاد الأوروبي».
تشير قراءة إلى أنه خلال العامين الأولين من الحرب، شكّل الدعم الألماني ربع المساعدات الأوروبية «نحو 10 مليارات يورو»، في حين بلغ الدعم الفرنسي قرابة 2.7 مليار يورو– أي نحو 6.5 % من الإجمالي الأوروبي. عملياً، موّلت فرنسا التزامات أقل من دول أصغر بكثير؛ إذ لم تتجاوز تعهّداتها في 2024 مبلغ 3 مليار يورو، بالكاد أعلى من تعهّدات هولندا 2.0 مليار.
وتُبرز هذه الأرقام نقطة أساسية: فرنسا التي اختارت الاصطفاف إلى جانب الغرب في حربه ضدّ روسيا، ليست قائداً في صفّها. وكما كتب ديلان موتين في «Responsible Statecraft»، فإن نبرة ماكرون التصعيدية «حتى التلميح بإرسال قوات» بدت في جزءٍ منها محاولةً لحفظ ماء الوجه. وينبغي «عدم النظر إليها إلا باعتبارها محاولة للتغطية على واقع، أنّ فرنسا ليست بوضوحٍ في صفّ القادة بين داعمي أوكرانيا». بمعنى آخر، تتكلّم فرنسا بصوتٍ عالٍ– لكن الحقائق تُظهر أنّ نفوذهم على كامل العملية ليس ذي قيمة كبيرة. بل إنّ قمة 2024 الأوروبية في باريس كشفت، في نظر كثيرين، أنّ ماكرون «بالغ في تقدير نفوذ فرنسا» كقوة موازنة مستقلة في مواجهة روسيا.
أما دبلوماسياً، فظلّ دور فرنسا محكوماً بقوى أكبر. فقد دعا ماكرون مراراً مسؤولين أوكرانيين وروساً إلى محادثات، لكن هذه المبادرات لم تغير المعادلة. وعندما سُرّب في مطلع 2024 أنّ باريس تدرس إرسال مستشارين أو حتى قوات إلى أوكرانيا، سارعت «الناتو» وأمريكا إلى التهدئة، ثم أوضحت فرنسا لاحقاً أنّ أي نشر سيكون محكوماً بشروطٍ ضيقة. عملياً، تمثّل الدور الأبرز لماكرون والفرنسيين في استضافة زيلينسكي للصور والدعوة الإعلامية إلى مزيد من الدعم، بينما ظلّ صنع القرار الحقيقي– في نقل الأسلحة الثقيلة وإعادة الإعمار وتحديد المسار الاستراتيجي للحرب– في يد أمريكا.
لقد بات ضعف الدور الفرنسي في أوكرانيا مادّةً للتعليق والسخرية لدى أنصار موسكو. فقد كتبت العديد من وسائل الإعلام الروسية، بأنّ تصريحات الفرنسيين حول مساعدة أوكرانيا، أو إصدارها توجيهات للأوكران «منفصلة عن الواقع». وكما قال ألكسندر بيريندزييف، مثل هذه التصريحات: «غير واقعية وهدفها توتير الروس وإخافتهم».
وتُبرز مثل هذه الانتقادات الفجوة بين جعجعة باريس وقدراتها. وعلى الأرض، يقدّر قادة أوكرانيا دعم فرنسا، لكنهم يعلمون من هم المانحون الكبار. عملياً، يظهر اسم فرنسا في قصة أوكرانيا بوصفها جزءاً من الائتلاف الغربي الأوسع، لا كقطب كبير أو مستقل.
فرنسا وسورية: تهميشٌ تحت ظلال القوى الكبرى
يتكرّر المشهد نفسه في المشرق. ففي الحرب السورية وما بعدها، أطلقت فرنسا مواقف أخلاقية ودبلوماسية، لكن قوّتها الفعلية على الأرض هامشية. فمنذ 2011، نددت باريس بالنظام السوري وشاركت في بعض عمليات مكافحة «داعش»، لكنها لم تنشر قوات برية كبيرة. وحتى عندما انتقدت بقوة توغّل تركيا عام 2019، اعترف الرئيس ماكرون علناً وبصراحة بأن فرنسا أُزيحت جانباً فعلياً. وأسف لأنّ أوروبا تتصرّف كـ «شريك صغير»، وأنّ «الواقع... أنّ من خرجوا منتصرين بفرض قوتهم في المنطقة هم تركيا وروسيا وإيران». وفقاً لكلامه، فقد ابتعد ميزان القوى عن الغرب في سورية، وفرنسا خلف الركب.
وكان ردّ تركيا على انتقادات فرنسا واضحاً. فقد سخر الرئيس رجب طيب أردوغان من ماكرون بعدما أثار مسألة تضامن «الناتو» إثر التوغّل التركي في مناطق شمال شرق سورية. والأدقّ، أنّ أردوغان شكّك علناً في شرعية الوجود الفرنسي في سورية، قائلاً: «ماذا تفعلون هناك؟ ليس لكم حقّ بالبقاء... لم يدعُكم النظام أيضاً». بمعنى آخر، أوضح الزعيم التركي، أنّ فرنسا ليست طرفاً في أي مسار سلام محلي، ولا مرحّباً بها كقوة متدخّلة. أما القليل من المستشارين والضباط الفرنسيين الخاصّين، فكانوا عملياً ضمن المظلّة الأمريكية؛ وتصرّ أنقرة على أنّ الولايات المتحدة هي الطرف الخارجي الوحيد ذي الصلة بقضية الأكراد السورية.
وقد تأكّد هذا المعنى بعد سقوط سلطة الأسد. ففي كانون الثاني 2025 استبعد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أي دور لفرنسا في فكّ الاشتباك أو حفظ السلام. وقال للصحفيين إنّ أنقرة «لا تتفاوض إلا مع الولايات المتحدة» بشأن شمال شرق سورية، وصنّف فرنسا على أنها بلدٌ «يحاول أن يدفع بمصالحه في سورية وهو يختبئ وراء أمريكا». وهذا التصريح العلني من حليف في «الناتو» لافت. إذ يعني أنّ صوت فرنسا في سورية يُرى كصدىً للسياسة الأمريكية، لا كموقف مستقل. فتركيا ترى أنّ باريس لا تملك نفوذاً مباشراً هناك– بل نفوذها قائم بقدر ما هي جزء من الائتلاف الذي تقوده أمريكا، ومن هنا علّقت وسائل الإعلام على أنّ تركيا ضغطت على السلطة في دمشق لعدم المشاركة في باريس مرة أخرى في الحوار مع قسد. وبغضّ النظر عن مدى تجاهل فيدان للانقسام الداخلي التركي، وأنّ هناك جزءاً من جهاز الدولة التركي- مثله مثل فرنسا- ينطق باسم الأمريكيين، وليس باسم مصالح الشعب التركي، فإنّ توصيفه لمحاولات فرنسا في سورية صحيح.
لهذا علينا أن ندرك بأنّ تصريحات فرنسا في سورية بخصوص تأييد قسد، ورغم أنّها قد تصبّ بشكل أو بآخر في صالح تعظيم مصالح فرنسا في سورية، تنبع قيمتها من أنّها تمثّل صوت قسم نافذ في السياسة الأمريكية، وهو قسمٌ قويّ يعبّر عن نفسه ضمن الانقسام الأمريكي الحاصل في التعامل مع جميع الملفات الدولية، بل وحتى الداخلية في الولايات المتحدة ذاتها.
فرنسا تابعة في المحصلة
إذا جمعنا أفريقيا وأوكرانيا وسورية، يظهر نمط متسق: لم تعد فرنسا قوةً كبرى تعمل منفردة. فقد خسرت وزنها الاقتصادي، ولم يعد جيشها قادراً على ضمان أمن الدول الحليفة منفرداً، وغالباً ما تأتي مبادراتها الدبلوماسية ضمن إجماع الاتحاد الأوروبي/الناتو، بدلاً من فعلٍ مستقلٍ لم تعد قادرة على تحمّل تكلفة المضيّ به. وليس ذلك بالمستغرَب: فبعد عقودٍ من الاتّكال على الأمريكيين، تمّ تجريف القدرات الفرنسية، لهذا تجد فرنسا صعوبة في الخروج عن الصف.
خلاصة القول، يمكن لَمس تراجع نفوذ فرنسا العالمي بشكل واضح، ويتبدّى ذلك من الأرقام الإحصائية وتوالي والأحداث. فأداء اقتصادها يترنّح تحت الدين والركود، وحملاتها العسكرية باتت دفاعية أو رمزية مع انسحابها من أفريقيا، واكتفائها بدورٍ مساندٍ في نزاعاتٍ كأوكرانيا، أو جعجعتها في سورية. ويمكننا أن نخلص من هذا إلى أنّ باريس لم تعد قوةً عظمى إلّا في الإعلام، وحتّى مقعدها الدائم في مجلس الأمن لا تستحقه مقارنة ببقيّة القوى الصاعدة.
إنّ أيّ ظهور لفرنسا ضمن غير هذه القراءة هو مضلل، فحتّى عندما فرض ترامب رسومه الجمركية بشكل مذلّ على الاتحاد الأوروبي، ورغم تعليقات المسؤولين الفرنسيين على هذه الاتفاقية بأنّها مذلّة، لم تتمكن فرنسا من سحب أوروبا، أو حتّى نفسها بشكل مستقل. من هنا يمكننا أن ندرك أن فرنسا تتحرّك ضمن كتلةٍ غربية تقودها أمريكا. ولهذا علينا أن ندرك أنّه في ساحات التماس من الساحل إلى دونباس إلى دمشق، الآخرون يرسمون المسار– وفرنسا تتبع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1240