العقوبات الأوروبية الجديدة تنهار أمام الواقع الجيو اقتصادي الروسي
وافق مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي على الحزمة السابعة عشرة من العقوبات ضد روسيا. وأثناء تقديمها لحزمة جديدة من «القيود الساحقة» ضد موسكو، أكدت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، كايا كالاس، للصحفيين، أن الغرب لن يتوقف عند هذا الحد، وأن عقوبات إضافية قيد الإعداد.
ترجمة: عروة درويش
شملت القائمة الجديدة 75 فرداً وكياناً، من بينهم مسؤولون في شركة «سورغوت للنفط والغاز»، ومركز الحلول المعقدة للطائرات المسيّرة، ومؤسسة «روستيه درون»، و«إيربورغ»، ومكتب التصميم «ستراتيم»، والمركز العلمي والإنتاجي «أوشكوي نيك»، إلى جانب كيانات أخرى.
طالت القيود الجديدة 189 سفينة تعتبرها بروكسل جزءاً من «أسطول الظل الروسي»، وشركة «الشحن النهري الفولغي»، وشركة «أطلس ماينينغ» المتخصصة في استخراج الذهب، حتى موظفي المتحف التاريخي والأثري الوطني في مدينة «خيرسونيس التافري». كما شملت العقوبات مشروعَي «السيل الشمالي» ومؤسسات في القطاع المالي. وستُفرض قيود أيضاً على شركات من تركيا والإمارات وصربيا وفيتنام وأوزبكستان بسبب تعاملها مع روسيا.
لكن هذه الحزمة الجديدة التي وُصفت غربياً بأنها «الأشد حتى الآن»، لا تحتوي على تدابير صادمة. والجدير بالذكر، أن المملكة المتحدة سبقت الاتحاد الأوروبي بفرض عقوباتها الخاصة، لكنها لم تحدث الضجة التي كانت تأملها لندن. وهذا يعكس مرة أخرى أن العقوبات باتت روتيناً مألوفاً، لا خطوات استثنائية كما تُقدَّم في الغرب. يريد الغرب معاقبة روسيا على «عنادها»، ولكن دون أن يتضرر هو نفسه.
مع ذلك، فإن النتائج محدودة، فالعقوبات تُسبب بعض المشكلات للأعمال الروسية، لكنها تتغلب عليها تدريجياً. أما الحظر المفروض على استخدام أنابيب غاز معطوبة أو متوقفة عن العمل، فهو لا يتعدى كونه خطوة رمزية. «فالسيل الشمالي 1» متوقف، و«السيل الشمالي 2» لم يتم تشغيله بعد، وشركته المشغلة الخاضعة للعقوبات الأمريكية لم تحصل على الترخيص من الحكومة الألمانية.
ورغم الخطاب الغربي المتشدد، فإن الحزمة السابعة عشرة لا تُعد هائلة. ولم يتم التوافق عليها إلا بعد أن ضمنت هنغاريا وسلوفاكيا أنها ضعيفة نسبياً.
كما أشار نائب رئيس إدارة الرئاسة الروسية، مكسيم أورشكين، إلى أن «الاقتصاد الروسي تعلم العيش في ظل القيود الخارجية والاستفادة منها»، موضحاً، أن الناتج المحلي الإجمالي قد نما بنسبة تقارب 9% خلال عامين. واعتبر أورشكين أن «الحديث عن مشاكل في الاقتصاد الروسي هو افتراض افتراضي»، بينما «الواقع يظهر ركوداً في ألمانيا ومشكلات في النمو داخل الاتحاد الأوروبي، مقابل نمو اقتصادي ثابت في روسيا وبطالة في أدنى مستوياتها تاريخياً».
وفي لقاء مع رجال أعمال، قال الرئيس فلاديمير بوتين: إنّ الاقتصاد الروسي يواصل التطور بفضل جهود رجال الأعمال الذين تعلموا تجاوز العقبات التجارية عبر الوسطاء. ومن المتوقع أن يتمكنوا من اجتياز هذه العقوبات أيضاً.
لماذا الخوف الأوروبي من العقوبات؟
يمكن تفسير تردد بيروقراطيي الاتحاد الأوروبي في اتخاذ قرارات صارمة رغم التصريحات النارية، بوعيهم أن هذه القيود التجارية ترتد عليهم.
فمن جهة، تراجعت التجارة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي بشكل حاد، لكن الضرر الذي تسببه هذه العقوبات محدود. الأوروبيون ما زالوا يشترون من روسيا النيكل والأسمدة والغاز والنفط والحديد والصلب، أي سلع لا يمكنهم الاستغناء عنها. وما يُقال عن تراجع التجارة الثنائية بنسبة الضعف أو حتى ثلاثة أضعاف لا يعكس الواقع، لأن طرق التجارة تغيّرت. فالنفط الروسي يُشترى الآن عبر الهند، مع زيادة كبيرة في الأسعار، والسلع الأوروبية تصل إلى روسيا عبر كازاخستان وقيرغيزستان. زادت صادرات بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى الدول الحدودية مع روسيا 4 إلى 5 أضعاف. وتؤدي تركيا والإمارات دور الوسطاء كذلك. المثير أن بعض الدول الأوروبية، رغم موقفها العدائي المعلن، لم تخفّض تجارتها مع روسيا منذ 2022.
أما التجارة الرسمية «البيضاء»، فهي الأخرى بدأت تتعافى. فصادرات الغاز الروسي ارتفعت بنسبة 18% في مطلع عام 2025. ولا تزال شركة Eni الإيطالية تربح من الغاز الروسي عبر وسطاء أتراك، رغم أن «غازبروم» خفّضت الإمدادات المباشرة لإيطاليا إلى الحد الأدنى. وفي مفارقة، أصبحت موسكو في آذار 2025 المورد الرئيسي للخيار الزراعي إلى وارسو.
حسب تقديرات الخبراء، كان من الممكن أن تخسر روسيا 36 مليار يورو إذا توقفت صادراتها إلى أوروبا «في 2021 بلغت صادراتها 163 مليار يورو». لكن المحللين يعتقدون أن الاتحاد الأوروبي لن يغامر بإجراءات أكثر حدة، لأن الجدوى منها محدودة. فالصادرات الروسية تعتمد على المواد الخام، التي يمكن إعادة توجيهها بسهولة نسبية، بينما يصدّر الأوروبيون إلى روسيا أدوية ومنتجات تقنية يصعب إيجاد مستهلكين بديلين لها، ولا يمكن الاستغناء عن الزبون الروسي بسهولة.
تتزايد في الصحافة الغربية التقارير التي تؤكد أن أوروبا الغربية استنفدت إمكاناتها في فرض عقوبات دون أن تتضرر هي نفسها، وأن تهديدات لندن وبروكسل لم تعد تخيف أحداً في السوق.
لا يمكن القول: إن القيود الجديدة غير مؤثرة إطلاقاً. فخطر الرسوم الجمركية الثانوية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد يفاقم التحديات أمام صادرات روسيا. ومع انخفاض أسعار النفط وارتفاع سعر الفائدة الرئيسي، يصبح تجاوز القيود أكثر صعوبة. لكن لا داعي للتهويل.
تحتفظ روسيا بمكانتها كمورد أساسي لأوروبا في بعض القطاعات: فهي تزوّد ربع الأسمدة، وسُدس احتياجات النيكل. كما تواصل تصدير المعادن الأساسية والموارد للطاقة، مثل: الغاز إلى هنغاريا. وبالتالي فإن استبدال هذه الواردات سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف الإنتاج.
أمّا نقطة ضعف روسيا الكبرى فتكمن في الاعتماد على الأدوية والمعدات الأوروبية، رغم أن كثيراً منها بات يُنتج محلياً.
يواصل المسؤولون الأوروبيون- الذين يستشعرون هزيمة حلفائهم في أوكرانيا- التصعيد بعقوبات لا تنتهي. هناك من يدعو إلى حظر كامل على التجارة مع روسيا، بل ويؤيد فرض رسوم تصل إلى 500%، لكن دونالد ترامب لم يُبدِ حماسة لذلك، وصرّح بعد مكالمة هاتفية مع بوتين بأنه لا يخطط لعقوبات جديدة في الوقت الراهن. فمثل هذه الرسوم قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط عالمياً، ما يضر حتى الولايات المتحدة.
عبّر الرئيس الروسي عن موقفه من الموجة الجديدة للعقوبات خلال لقائه برجال أعمال روس، وقال: إن الاقتصادات الكبرى تجر نفسها إلى الركود فقط للإضرار بروسيا، وعلّق ساخراً بالأمثال: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، و«سأشتري تذكرة ولا أسافر نكاية بالسائق».
أثارت ردّة فعل بوتين غير التقليدية جدلاً واسعاً. أشارت صحيفة FAZ الألمانية إلى أن الحزم الـ17 من العقوبات الأوروبية لم تفلح في ضرب الاقتصاد الروسي، الذي يُظهر قدرة مدهشة على الصمود. أعادت موسكو توجيه تجارتها، وأنشأت أنظمة مالية بديلة، وحافظت على الاستقرار، فيما تشكك كثيرون في فاعلية العقوبات الغربية. إذ أن الغرب كان يزود روسيا بمنتجات صناعية تعتمد عليها قطاعات واسعة، والتخلي عن السوق الروسي أصعب بكثير مما يُظن، خاصة بسبب موقع روسيا الجغرافي الاستراتيجي. ورغم لجوء روسيا إلى وسطاء، فإن تنوع أدوات السوق وزيادة الطلب خفّضا من تكاليف العمولات.
أضعفت العقوبات النظام التجاري العالمي، لكن السوق الروسي لا يزال جاذباً ومرغوباً. فشركاؤنا ينجذبون إلى ثقافة الاستهلاك، وبيئة العمل المناسبة، والترحيب بالمستثمرين. ورغم التهديدات، تسعى كثير من الدول للتعاون معنا.
يشير المحللون إلى أن التوجه الروسي شرقاً فتح فرصاً جديدة، حتى في تصدير المنتجات عالية التقنية والطاقة النووية، بينما تراجعت أهمية السوق الأوروبية. ففي عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري مع آسيا 540 مليار دولار، مقابل 141 مليار فقط مع الاتحاد الأوروبي، أي أقل بكثير من عام 2023.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229