مقابل حلم صناعي مشكوك فيه… ترامب يخاطر بمنظومة الاقتصاد العالمي
في عطلة نهاية أسبوع واحدة، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب. تمرّ سوق الأسهم الأمريكية بتقلبات حادة تشبه الأفعوانية. قام بعض المحللين في وقت سابق بتحليل المنطق الكامن وراء سياسات ترامب الجمركية والقوى الدافعة خلفها، وحذّروا من مخاطر محتملة في سوق الأسهم. لكنّ الصورة القاتمة التي رسمها هؤلاء لنتائج الحرب التجارية التي أطلقها ترامب لم تصل إلى حدّ ما حدث في أسواق الأسهم الأمريكية وحول العالم بشكل متتابع. توقّع هؤلاء - وأنا منهم - أن تتأثر الأسواق، لكن أن تنهار خلال يومين فقط، لم يكن الأمر في حسبان إلّا قلّة قليلة من المحللين.
ترجمة: عروة درويش
وفقاً لما نقلته شبكة CNN، فقد قدّر البعض أن مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» خسر 5 تريليونات دولار أمريكي من قيمته خلال يومي 2 و3 نيسان، وإذا ما أضفنا باقي الأسهم الأمريكية خارج هذا المؤشر، فإن الخسارة الإجمالية لسوق الأسهم الأمريكية خلال اليومين قد تصل إلى 7 تريليونات دولار أمريكي.
حتى تاريخ 8 نيسان، ارتفع العائد على سندات الخزانة الأمريكية الآجلة لعشر سنوات، بمقدار 42 نقطة أساس منذ أدنى مستوى له في 4 نيسان. عندما صبغ اللون الأحمر شاشة كمبيوترات متابعة أسواق الأسهم الأسبوع الماضي، وهو اللون الذي يدل على هبوط أسعار الأسهم في السوق الأمريكية، يخطر ببال المتابع سؤال طريف، لكنه مهم: كم تساوي منظومة الصناعة التحويلية التي تمتلكها الصين حالياً؟
من خلال هذا الانخفاض السريع في سوق الأسهم الأمريكية خلال أيام معدودة، يمكن القول إن ترامب مستعد للمراهنة بـ7 تريليونات دولار أمريكي على إمكانية أن تبني الولايات المتحدة منظومة صناعية مشابهة لما تملكه الصين حالياً. وهذه الفرصة، كما أرى، تقل عن نسبة 50 بالمئة بكثير.
انهيار سوق الأسهم الأمريكية خلال الأيام الماضية هو الأكبر منذ انهيار السوق في آذار 2020 نتيجة جائحة كورونا. لا يصعب تخيّل أن المعارضين لترامب داخل الولايات المتحدة أصبحوا أكثر غضباً، ما دفعهم إلى تنظيم مظاهرات حاشدة في أنحاء البلاد خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية.
لكن ما يهمّني أكثر هو ردود أفعال الجهات التي كانت في الأصل من داعمي ترامب تجاه القرار الجمركي الجديد وانهيار السوق. وحتى الآن، لا توجد استطلاعات رأي موثوقة تعبّر عن رأي قاعدة الناخبين المحافظين المؤيدين لترامب، لذلك يمكننا أن نحاول فهم المشهد من خلال تصريحات بعض الشخصيات البارزة.
إيلون ماسك، الداعم لحملة ترامب الانتخابية، ورئيس «قسم كفاءة الحكومة»، والممثل عن رأسمال وادي السيليكون، كان خلال الأشهر الأخيرة من أبرز الشخصيات التي تمهّد الطريق لترامب وتدعمه بقوة، وساهم بشكل نشط في «تطهير» الجهاز الفيدرالي الأمريكي. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، لم يكتفِ بالتعبير عن رغبته بخفض الرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة وأوروبا، بل سخر على وسائل التواصل الاجتماعي من المستشار التجاري المتشدد نافارو Navarro، مشككاً في مستوى ذكائه. بدوره، ردّ نافارو عليه قائلاً إن ماسك مجرد رجل يركّب سيارات. أما شقيق ماسك، كيمبال ماسك - عضو مجلس إدارة تسلا، فقد وجّه انتقاداً علنياً على وسائل التواصل، معتبراً أن إجراءات ترامب الجمركية ما هي إلا «ضريبة دائمة» على الشعب الأمريكي.
أمّا نجم وول ستريت ومدير صندوق التحوّط المعروف بيل آكمان Bill Ackman، والذي أعلن دعمه لترامب في حملته الرئاسية لعام 2024 بعد محاولة الاغتيال، فقد وجّه أيضاً انتقادات شديدة للسياسة الجمركية خلال عطلة نهاية الأسبوع. وصرّح بأن هذه السياسة ستجلب «شتاءً نووياً اقتصادياً» للولايات المتحدة، واتهم وزير التجارة الأمريكي لوتنيك بأنه غير مبالٍ بانهيار سوق الأسهم لأنه يملك استثمارات ضخمة في سندات الخزانة الأمريكية، والتي ترتفع قيمتها عند انخفاض السوق، ولهذا فهو يدفع باتجاه فرض التعرفة الجديدة. وعلى الرغم من أن آكمان تراجع عن هجومه الشخصي على لوتنيك يوم الإثنين 7 نيسان، إلا أنه تمسّك برأيه بأن سياسة التعرفة خطأ جسيم، وأكّد أنه أصبح هدفاً لهجوم إلكتروني من مؤيدي ترامب.
أمّا المؤسس الشريك لسلسلة بيع أدوات البناء والمواد «هوم ديبوت The Home Depot» – كينيث لانغوني Ken Langone – وهو من كبار ممولي الحزب الجمهوري على مدى عقود، قال في 7 نيسان إن السياسة الجمركية الجديدة تفتقر إلى المنطق ومتطرفة للغاية، مشيراً إلى أن ترامب تلقّى نصائح اقتصادية غير معقولة.
ومن جانب آخر، كانت ولاية آيوا – وهي ولاية جمهورية بامتياز منذ عام 2016 – ممثلةً بالسيناتور الجمهوري المخضرم تشارلز غراسلي Charles Grassley، قد تقدّمت بمقترح قانون مع مجموعة من النواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، يهدف إلى الحد من سلطة الرئيس في فرض الرسوم الجمركية بشكل أحادي. إلا أن تمرير هذا المشروع عبر الكونغرس لا يزال موضع شك، وقد هدّدت حكومة ترامب باستخدام الفيتو لعرقلته.
الأمثلة المذكورة أعلاه تم اختيارها بعناية لتُظهر أن حتى بعض أكثر داعمي ترامب ولاءً أصبحوا يرفضون سياسته الجمركية. بالطبع لا يزال هناك كثيرون من المحافظين يدعمون هذه السياسة، لكن يمكن أن نلاحظ بوضوح أن وحدة الجبهة المؤيدة لترامب بدأت تشهد تصدعات عميقة.
هل حقاً تؤلم الآن وتنفع لاحقاً؟
من الطبيعي أن تأثير انهيار السوق لم يصل بعد إلى غالبية مؤيدي ترامب من أصحاب الدخل المنخفض، فهم بعيدون نسبياً عن الاستثمار في الأسهم، كما أن تأثير الرسوم الجمركية لم يظهر بعد على الأسعار. ولهذا، لا يزال الكثيرون منهم يصدقون خطاب ترامب بأن الرسوم الجمركية ستؤلم الآن لكنها ستجلب الفائدة لاحقاً.
ولو تأملنا في التصريحات السابقة، سنلاحظ أن انتقادات ماسك وآكمان وغيرهم توجّهت نحو المستشارين الاقتصاديين المحيطين بترامب مثل نافارو ولوتنيك. نستنتج من ذلك أنّ الرسالة الضمنية هي أن ترامب اتخذ قرارات خاطئة فقط لأنه تلقّى نصائح سيئة، ما يشير إلى أن مكانة ترامب في صفوف المحافظين لا تزال قوية، رغم وجود انقسامات عميقة حول سياساته.
حالياً، أبرز نقطة قوة لدى ترامب هي الوقت، إذ إن الانتخابات القادمة - النصفية - لا تزال تبعد أكثر من عام ونصف. حتى ذلك الحين، لن يواجه مقاومة سياسية حقيقية داخل البلاد، ولا يملك معارضوه وسائل فعّالة لإيقاف تنفيذ سياساته. ولكن الزمن أيضاً هو نقطة ضعفه الكبرى: خلال هذين العامين فقط، من غير الواقعي أن ينجح ترامب في تحويل المجتمع الأمريكي من «أصحاب البدل الرسمية» إلى عمال مصانع.
بالنسبة إلى المرحلة القادمة من الحرب التجارية، فإن تصريحات مسؤولي حكومة ترامب توحي ببعض المعلومات الهامة. في 7 نيسان، صرّح وزير الخزانة الأمريكي بيسينت بأن هناك أكثر من 70 دولة تسعى إلى التفاوض مع الولايات المتحدة. إذا ربطنا هذا مع تصريحات ترامب بأنه يود فرض رسوم جمركية على الصين بينما يتفاوض مع دول أخرى، يتضح أن الهدف هو محاولة عزل الصين.
ربما يتوقع العديد من القراء كيف ستردّ بقية دول العالم على سياسة «العصا الغليظة» الجمركية. ومن يعرف شيئاً بسيطاً عن نظرية الألعاب يدرك أن بعض الدول ستتجنب الرد بالمثل، وستحاول عبر تقديم تنازلات أن تكسب مزايا تجارية مقارنة بدول أخرى. لكن رفض الولايات المتحدة مقترحات من فيتنام والاتحاد الأوروبي تقضي بتخفيض الرسوم الجمركية المتبادلة إلى الصفر، يوضح أن ترامب هذه المرة يريد من الآخرين أن يدفعوا ثمناً باهظاً للغاية، قد يفوق تخيلات الكثيرين.
تخيلوا أن دولاً مثل المكسيك وكندا، التي ترتبط ارتباطاً اقتصادياً وثيقاً بالولايات المتحدة وسبق لها أن وقعت اتفاقيات تجارة حرة معها بعد مفاوضات مباشرة مع ترامب، فرضت عليها رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة قبل أسابيع. أما أستراليا، التي تُعد من أقرب حلفاء أمريكا دبلوماسياً وعسكرياً، وقدّمت تنازلات في الميزان التجاري لصالح واشنطن، فقد فُرضت عليها رسوم بنسبة 10 بالمئة. بل حتى «إسرائيل»، التي بادرت بخفض رسومها على الواردات الأمريكية إلى الصفر، لم تسلم من رسوم إضافية بنسبة 17 بالمئة.
إذاً، ما هو حجم الثمن الذي على الدول الأخرى دفعه لإرضاء ترامب؟ وما هو الثمن المطلوب كي يضمنوا أن ترامب لن يتراجع عن الاتفاق بعد توقيعه؟ المستشار الاقتصادي لترامب ستيفن ميـران Steven Miran، اقترح على الدول الراغبة بتفادي الرسوم الأمريكية خمس خطوات رئيسية يمكن تلخيصها بكلمة واحدة: «ادفعوا أكثر».
أولاً، يمكن لتلك الدول قبول فرض رسوم على صادراتها إلى أمريكا دون رد، ما سيوفر عائدات لوزارة الخزانة الأمريكية تُستخدم في تمويل المنتجات العامة. والعبرة هنا أن أي رد بالمثل لن يؤدي إلا إلى تفاقم العبء بدلاً من تخفيفه، وسيجعل من الأصعب تمويل المنتجات العامة العالمية.
ثانياً، يمكنهم فتح أسواقهم بشكل أكبر للسلع الأمريكية، وشراء المزيد منها، بهدف إنهاء الممارسات التجارية «غير العادلة» «والضارة».
ثالثاً، يمكنهم زيادة إنفاقهم الدفاعي وشراء المزيد من الأسلحة الأمريكية، ما سيخفف العبء عن الجنود الأمريكيين ويخلق وظائف جديدة في الداخل الأمريكي.
رابعاً، يمكنهم الاستثمار داخل الولايات المتحدة وافتتاح مصانع فيها. وبهذا، يمكنهم تجنّب الرسوم المفروضة على صادراتهم.
خامساً، يمكنهم ببساطة إصدار شيك لوزارة الخزانة الأمريكية للمساهمة في تمويل المنتجات العامة العالمية.
اليابان والخسارة
من منطلق «الذهب لا يشتري العظام، لكن يدفع ثمنها»، أعلن وزير الخزانة بيسينت أن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية لليابان في مفاوضات التجارة. ولتهيئة الأجواء لهذه المفاوضات ولإرسال رسالة إيجابية إلى الأسواق المالية، أمر ترامب بإعادة النظر في صفقة استحواذ شركة يابانية على شركة أمريكية للصلب. أما شركة تويوتا اليابانية فقد أعلنت أن أسعار سياراتها في السوق الأمريكية لن ترتفع رغم الرسوم الجديدة. هذا الإعلان دفع مؤشر نيكاي الياباني للارتفاع بنسبة 6 بالمئة عند افتتاح السوق يوم الثلاثاء.
مع ذلك، من الجدير بالانتباه أن بيسينت شدد في تصريحاته على أن المفاوضات مع اليابان ستشمل أربعة محاور: «الرسوم الجمركية، والحواجز غير الجمركية، وقضايا العملة، والدعم الحكومي. وهذا يؤكد أن خفض الرسوم فقط غير كافٍ، فكما أن اتفاقية «بلازا» السابقة لم تنجح في خفض الفائض التجاري الياباني مع الولايات المتحدة، فإن ترامب يسعى إلى إعادة المحاولة مرة أخرى.
عام 2024، بلغ الفائض التجاري الياباني مع أمريكا 68.5 مليار دولار أمريكي، علماً أن اليابان هي أكبر حامل لسندات الخزانة الأمريكية، وتملك أكثر من تريليون دولار منها. وإذا عدنا إلى التحليل الذي عرضته سابقاً حول رؤية بيسينت وميـران لاتفاق نقدي دولي جديد، يمكننا أن نخمن أن اليابان قد تكون أول من يُطلب منه توقيع ما يسمى بـ «اتفاقية مارالاغو».
لكن إذا كانت هذه الاتفاقية كما وصفها ميـران في مقالاته، فهل سترضى اليابان بأن تتحول تريليون دولار من سنداتها الأمريكية إلى «ورق بلا فائدة» لا يُباع ولا يُسترد ولا يُعطى عليه أي عائد على مدى مئة عام؟
بالنسبة لتأثير ذلك على السوق المالية، فقد شهدت السوق الأمريكية بعد الانهيار الكبير يومي 2 و3 نيسان حالة من الذعر عند افتتاح الأسواق الآسيوية يوم الإثنين 7 نيسان، إذ اندفعت بعض رؤوس الأموال نحو البيع العشوائي بسبب الحاجة العاجلة للنقد، مما أدى حتى إلى انخفاض بنسبة 0.13 بالمئة في صناديق أسواق المال المدعومة بأدوات الدين الأمريكية قصيرة الأجل، والتي تعتبر عادة الأكثر أماناً.
في الظروف الطبيعية، من الصعب أن نشهد ذعراً مشابهاً في سوق الأسهم خلال المدى القريب. لكن بما أن تأثير الرسوم لم ينتشر بعد، يُنصح المستثمرون باتباع نهج محافظ، والتركيز على تقليل المخاطر في قراراتهم الاستثمارية.
أما على مستوى الاقتصاد الحقيقي، فبغض النظر عن مزاعم ترامب حول التقدم في المفاوضات، فإن التحدي الأوضح أمام الصين هو احتمال حدوث فك ارتباط تجاري حاد مع الولايات المتحدة. وأكثر الحلول وضوحاً في هذه المرحلة هو تعزيز الطلب المحلي. وفي هذا السياق، فإن دعم السياسات من الحكومة المركزية يصبح أمراً بالغ الأهمية.
وقد كنتُ قد تناولت في السابق عدة تصورات لسياسات محتملة، مثل: زيادة الإنفاق على شبكات الضمان الاجتماعي لتقليل قلق المواطنين من المستقبل، ما يؤدي إلى تحرير جزء من المدخرات وتحفيز الاستهلاك، كما حدث في أمريكا عام 1965 عند إطلاق نظام التأمين الصحي لكبار السن أثناء فترة قاعدة الذهب. أو تصميم سياسات شاملة لتشجيع الاستثمار في الموارد البشرية، عبر تقديم مبالغ نقدية صغيرة تشجع المواطنين على التعليم المهني والنشاط البدني، مع إجراء تقييمات دورية. وهي فكرة شبيهة بما تقوم به بعض شركات التأمين الصحي في عدة دول، حيث تقدم حوافز مالية مقابل التزام المشتركين بممارسة الرياضة وإجراء الفحوصات الدورية.
كما يمكن تنفيذ إصلاحات مالية محلية تعتمد على تصنيف المناطق واستخدام التقنيات الحديثة لتقليل الهدر في الإنفاق العام. لكن بغض النظر عن المسار المتبع لتحفيز الطلب، فإن قدرة المواطنين على زيادة الاستدانة وصلت إلى الحد الأقصى، ما يعني أن الخيار الأكثر واقعية أمام الصين الآن هو الاستخدام الفعال والمكثف للموارد المالية التي تملكها الحكومة المركزية.
* اتفاقية «مارالاغو» (Mar-a-Lago Agreement) ليست اتفاقية حقيقية وموثقة حتى الآن، بل هي مصطلح افتراضي يُستخدم في المقال الصيني. الاتفاقية المفترضة تُحاكي ما يشبه نسخة متشددة جداً من «اتفاقية بلازا» (Plaza Accord) التي جرى توقيعها عام 1985 بين أمريكا وعدد من شركائها الاقتصاديين الكبار، والتي أجبرت اليابان حينها على خفض قيمة الين مقابل الدولار. لكن اتفاقية مارالاغو، بحسب المقال، قد تكون أكثر قسوة وظلماً.
* تشين تشونغ: بروفسور في كلية الاقتصاد في جامعة تسينغهوا، وزميل مشارك في معهد ماساشوستس. حائز على عدد من الأوسمة، منها جائزة بكين للإنتاج العلمي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1222