لماذا يستهدفون الأونروا؟ الشروط الأمريكية-الصهيونية للإغاثة و«المنظَّمات غير الحكومية»
ليزا بونغاليا ليزا بونغاليا

لماذا يستهدفون الأونروا؟ الشروط الأمريكية-الصهيونية للإغاثة و«المنظَّمات غير الحكومية»

في 28 تشرين الأول الماضي، صوّت الكنيست «الإسرائيلي» على إغلاق عمليات «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى: الأونروا»، وتصنيفها كـ«منظمة إرهابية». لفهم علاقة «إسرائيل» والولايات المتحدة بـ«الأونروا»، ومكانتها ضمن النظام الأوسع لمُنظَّمات المساعدات في فلسطين، وتسييس وتوظيف إيصال المساعدات، تمّ إجراء مقابلة مع «ليزا بونغاليا Lisa Bhungalia»، مؤلّفة الكتاب الجديد «الإمبراطورية المرنة: إعادة صياغة الحرب عبر المساعدات في فلسطين»، وهي أستاذة مساعدة في الجغرافيا والدراسات الدولية بجامعة ويسكونسن-ماديسون الأمريكية، وباحثة في الحروب الحديثة والقانون. ورغم أنّ المقابلة أُجريت قبل تصويت الكنيست «الإسرائيلي»، ففيها الكثير من الشرح والتوضيح لفهم آلية عمل المساعدات الغربية ومحاولتها إدامة الهيمنة الإمبريالية. وإليكم أبرز ما جاء في المقابلة.

ترجمة: قاسيون

في 28 تشرين الأول الماضي، صوّت الكنيست «الإسرائيلي» على إغلاق عمليات «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى: الأونروا»، وتصنيفها كـ«منظمة إرهابية». لفهم علاقة «إسرائيل» والولايات المتحدة بـ«الأونروا»، ومكانتها ضمن النظام الأوسع لمُنظَّمات المساعدات في فلسطين، وتسييس وتوظيف إيصال المساعدات، تمّ إجراء مقابلة مع «ليزا بونغاليا Lisa Bhungalia»، مؤلّفة الكتاب الجديد «الإمبراطورية المرنة: إعادة صياغة الحرب عبر المساعدات في فلسطين»، وهي أستاذة مساعدة في الجغرافيا والدراسات الدولية بجامعة ويسكونسن-ماديسون الأمريكية، وباحثة في الحروب الحديثة والقانون. ورغم أنّ المقابلة أُجريت قبل تصويت الكنيست «الإسرائيلي»، ففيها الكثير من الشرح والتوضيح لفهم آلية عمل المساعدات الغربية ومحاولتها إدامة الهيمنة الإمبريالية. وإليكم أبرز ما جاء في المقابلة.

جاك غروس: في كانون الثاني، أنهت الولايات المتحدة تمويلها للأونروا. ما الذي يجب أن نفهمه حول هذا القرار وتأثيره على تقديم المساعدات في فلسطين المحتلة؟

نعم، في كانون الثاني أوقفت الولايات المتحدة تبرعاتها للأونروا بعد مزاعم قدمتها «إسرائيل» بأن 12 من موظفي الأونروا (وزاد العدد لاحقاً إلى 19) البالغ عددهم نحو 30,000، لديهم صلات بـأحداث 7 أكتوبر. رغم أن «إسرائيل» لم تقدّم أدلّة موثوقة تدعم ادّعاءاتها، قامت الولايات المتحدة، مع 15 دولة أخرى، بتعليق تبرعاتها لوكالة اللاجئين الفلسطينيّين. أعادت معظم الدول تمويلَها بعد تحقيقات مستقلّة في مزاعم «إسرائيل»، لكن في بعض الحالات، تم تخصيص الأموال المُعادَة لإدارة المخَاطر «أيْ تعزيز سياسات مكافحة الإرهاب وآليات المراقبة في تدفقات المساعدات المدنية».

في الولايات المتحدة، وقّع بايدن في آذار قانون HB 2882، أو قانون الاعتمادات الموحّدة لعام 2024، الذي يتضمّن بنداً يحظر استخدام الأموال لصالح الأونروا. وبالتالي، أصبح هناك قَطع شامل ومصرَّح به قانونياً للتمويل الأمريكي للأونروا. وكانت الولايات المتحدة أكبر مموّل للوكالة، حيث وفرت أكثر من ربع ميزانيتها. إضافة لذلك، أقر «الإسرائيليون» مؤخراً تشريعاً يصنف الأونروا كـ«منظَّمة إرهابية» ويمنعها من العمل في الأراضي الخاضعة للسيطرة «الإسرائيلية». تعني هذه الخطوة عواقب كبيرة، لأنّها تُفعّل سياسة «عدم الاتصال»، ما يمنع أيّ تفاعل مباشر بين «إسرائيل» والأونروا. يعدّ ذلك خطيراً للغاية، حيث تعتمد الأونروا على التفاعل الهيكلي مع «إسرائيل» لتنفيذ عملياتها الإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

جاك غروس: الفلسطينيون يعتمدون بشكل كبير على المساعدات، وتسييس هذا الواقع ليس جديداً. ما هي الأونروا، وما هو المشهد العام للمساعدات في فلسطين المحتلة؟

يعتمد الفلسطينيون بشدّة على المساعدات بسبب عمليات التهجير المستمرة والاحتلال الطويل الأمد، الذي أدّى إلى تدمير قدرتهم على بناء اقتصادٍ ذاتيٍّ مستدام. تمّ تضمين هذا الأمر بشكلٍ هيكلي في اتفاقيات أوسلو. بعد توقيع هذه الاتفاقيات في التسعينيّات، حدثت زيادة حادة في المساعدات الخارجية التي قيل إنّها تهدف إلى بناء مؤسَّسات دولةٍ فلسطينية مستقبلية. ولكن مع استمرار الاحتلال، لم تتحقّق هذه الإمكانية السياسية.

يمكننا أن نبدأ بالأونروا. تأسست الوكالة في عام 1949 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عقب تأسيس «إسرائيل» والتهجير المتزامن لأكثر من 700,000 فلسطيني. كُلِّفَت الأونروا بمهمّة تقديم المساعدة والحماية للفلسطينيين الذين فقدوا «المنازل وسبل العيش» ولذرّيتهم. وتُعتبَر الوكالة المنظَّمة الوحيدة التابعة للأمم المتحدة التي تُعنى حصراً بمعاناة الفلسطينيين. تقدِّم الأونروا مساعدات إنسانية حيويّة تشمل المساعدات الغذائية والإغاثة والخدمات الأخرى للّاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والدول العربية المحيطة مثل سورية والأردن ولبنان.

يختلف تفويض الأونروا عن تفويض المفوَّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، الذي يسعى إلى إنهاء وضع اللاجئين من خلال «الاندماج المحلّي في البلد المضيف، أو إعادة التوطين في بلد ثالث، أو العودة إلى الوطن عند الإمكان». أمّا الأونروا، فلديها تفويضٌ يتمثل في إدارة المساعدات والحماية للاجئين الفلسطينيين حتى يتمّ التوصل إلى تسوية عادلة لقضيّتهم، وهو ما يشمل خيار العودة إلى المنازل التي هُجِّروا منها، كما ينص عليه القرار 194 للأمم المتحدة. بناءً على ذلك، لا تسعى الأونروا إلى إنهاء وضع اللّاجِئ الفلسطيني إلّا إذا تحقَّق هذا الحلّ السياسيّ. وهذا يجعل الأونروا فريدةً من نوعها، حيث تلتزم منذ زمن طويل تجاه مجموعة واحدة من اللاجئين، الفلسطينيين، الذين يبلغ عددهم اليوم نحو 5.9 مليون شخص مؤهَّلين للحصول على خدماتها. تدير الأونروا اليوم أزمةً إنسانية كان من المفترض أن تكون قصيرة الأمد، لكنها استمرّت سبعة عقود ولا تزال قائمة.

إلى جانب الأونروا، هناك العديد من الجهات الفاعلة في مجال المساعدات، بما في ذلك وكالات ثنائية ومتعددة الأطراف، ومنظمات غير حكومية دولية، ومنظمات غير حكومية فلسطينية، ومقاولون من القطاع الخاص، ومنظمات قاعدية. تعمل كل هذه الجهات ضمن سياقات وضغوط قانونية ومؤسَّسية ووطنية محدَّدة. سأركّز في نقاشنا اليوم بشكل رئيسي على «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: USAID»، خصوصاً أنّ واشنطن أشارت إلى نيّتها إعادة توجيه المساعدات بعيداً عن الأونروا نحو USAID وشركائها على الأرض.

كان على USAID أن توزّع نحو 500 مليون دولار بين عامي 2021 و2024 في غزة والضفة الغربية. يجب وضع نقطة أساسية أخرى في الاعتبار، هي أن كل ما نناقشه اليوم يجب أن يُفهم ضمن السياق الأوسع للدعم العسكري الأمريكي لـ«إسرائيل»، والذي يبلغ 3.8 مليار دولار سنوياً. قدمت الولايات المتحدة أكثر من 228 مليار دولار كمساعدات عسكرية «لإسرائيل» منذ تأسيسها، ومنذ تشرين الأول وحده، تلقت «إسرائيل» أكثر من 17.9 مليار دولار كمساعدات. يجب النظر إلى كل شيء في ضوء هذه الأرقام والعلاقة التي تكشفها.

ديلان سابا: يدرس كتابُكِ كيف أثّرتْ إجراءاتُ مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة على كل جزء من منظومة المساعدات في فلسطين، حيث حوّلت الأنشطة المعتمدة على المساعدات -من التعليم إلى المشاركة المدنية إلى البقاء اليومي- إلى مجال آخر للمراقبة والسيطرة من قبل الاحتلال. كيف تطوَّرت (الأَمْنَنَة/التدخُّل الأمني Securitization) في المساعدات منذ السنوات الأولى «للحرب على الإرهاب»؟

هناك الكثير ممّا يمكن قوله هنا، والولايات المتحدة ليست الوحيدة التي استخدمت المساعدات للفلسطينيين كسلاح، لكنها لاعب ذو نفوذ كبير، وأطلقت عمليات «أَمْنَنَة» متزايدة للمساعدات، تم تقليدها بدرجات متفاوتة من معظم وكالات المساعدات الغربية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

القوانين الأمريكية لمكافحة الإرهاب جزءٌ مهمّ جداً من القصة. تمّ دمج هذه القوانين والقوائم السوداء في تدفقات المساعدات المدنية الأمريكية المقدَّمة للفلسطينيين، وتأثيرُ ذلك هو ما درستُه وكتبتُه في كتابي. وقد تعزّزت سياسات مكافحة الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول، فهي ليست جديدة بأيّ حال. في الواقع، كما أوضحتُ في كتابي، تم وضع الأساس لكل ما حدث بعد 11 أيلول خلال التسعينيّات، وخصوصاً في اتفاقيات أوسلو.

يعود الأمر إلى ما قبل ذلك أيضاً. ينصّ قانون المساعدات الخارجية الأمريكي لعام 1969 على أنّ الأونروا يجب أن تضمن عدم توجيه أيّ مساعدات أمريكية لأيّ لاجئ تلقَّى تدريباً عسكريّاً من عضو في «جيش التحرير الفلسطيني» أو كان مشاركاً في أيّ «عمل إرهابي». كما أشار «داريل لي» في تقرير نُشر بالشراكة بين Palestine Legal ومركز الحقوق الدستورية، هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها مصطلح «الإرهاب» في قانون اتّحادي أمريكي.

شهدت التسعينيّات فترةً حرجة تمّ فيها إنشاء الأساس القانوني لهذا الهيكل. في عام 1996، أصدر الكونغرس قانون «حظر الدعم المادي» كجزء من قانون مكافحة الإرهاب وعقوبة الإعدام الفعّالة. وقبل ذلك، وقّع «بيل كلينتون» في عام 1995 الأمرَ التنفيذي رقم 12947، الذي جمّد أصول «الإرهابيين الذين يهدّدون عملية السلام في الشرق الأوسط» داخل الولايات المتحدة. فرَضَ هذا الأمرُ التنفيذي عقوباتٍ على كيانات معيَّنة ومنع التعامل معها، حيث حدّد 12 منظَّمة، بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني وحزب الله، و18 فرداً مرتبطين بها كـ«إرهابيين خاصِّين محدَّدين SDTs».

يمثل هذا بدايةَ التحوُّل إلى نَهجٍ يعتمد على «القوائم» لتجريم دعم «الإرهاب»، حيث يتم اعتبار أيّ دعمٍ أو اتصال مع الكيان المدرَج على القائمة السوداء غير قانونيّ بموجب القانون الأمريكي.

في فترة ما بعد 11 أيلول، تم توسيع لغة الارتباط في قانون «حظر الدعم المادي»، ممّا زاد بشكل كبير من الأنشطة والعلاقات التي يمكن اعتبارها غير قانونية بموجب القانون الأمريكي. وقد كان لهذا الإطار «الارتباطي» آثارٌ مدمِّرة بشكل خاص في فلسطين، حيث تقوم العديد من المنظَّمات غير الحكومية والمتعاقدين الذين يتلقون أموالاً أمريكية بفرض رقابة شديدة للتأكّد من أنّهم لا يخالفون قوانين العقوبات وسياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية.

ديلان سابا: هل يمكنكِ أن تخبرينا أكثر عن الدور المهمّ الذي تلعبه USAID هنا؟ كيف تعمل في فلسطين، وما دورها في تنفيذ النظام القانوني لمكافحة الإرهاب الذي وصفتِه؟

تعمل USAID بشكل شبه حصري من خلال ما أسمّيه «المجال الوسيط intermediary sphere» - وهو شبكة واسعة من المنظمات غير الحكومية الدولية والمتعاقدين من القطاع الخاص الذين يحصلون على منح وعقود USAID، ثم يقومون بتنفيذ مشاريع المساعدات في فلسطين، سواء عبر شراكات مع منظمات محلّية أو من خلال التنفيذ المباشر على الأرض. تمثّل هذه الهيئات بنيةً تحتية حاسمة يتم من خلالها نقلُ قوانين مكافحة الإرهاب الأمريكيّة وتسليطها على الأجسام والأماكن البعيدة.

العلاقة التعاقدية التي يتم إشراك هذه الهيئات فيها تتبلور بشكل أفضل في وثيقة تمَّ دمجُها في بعثة USAID في الضفة الغربية وغزة عام 2003، وهي «الأمر الإداري 21». يعمل هذا الأمر كأداةٍ لنقل المخاطر، حيث يتم تحميل المسؤولية عن الالتزام بنظام مكافحة الإرهاب الأمريكي للهيئات الدولية التي تتعامل مع أموال المساعدات الأمريكية.

من بين المهام التي يُطلَبُ مِن هذه الوكالات التعاقدية تنفيذُها: جمعُ المعلومات الشخصيّة عن الأفراد والمنظَّمات الرئيسيّين الذين يتلقّون أموالَ المساعدات الأمريكيّة، وفحصُهم أو التحقُّق منهم عبر قواعد بيانات الاستخبارات ومكافحة الإرهاب الأمريكية، والحصول على شهادة «مكافحة الإرهاب» من المستفيدين المحتمَلين من المنح، والتي يتعين عليهم فيها نبذ «الإرهاب» والتعهد بعدم العمل أو الارتباط بأفراد أو مجموعات مدرجة على القوائم السوداء، والالتزام بالشروط التقييدية في اتفاقيات التمويل.

1202-16

بسبب المخاوف من انتهاك قوانين مكافحة الإرهاب الأمريكية، قامت العديد من المنظمات غير الحكومية والوكالات التعاقدية التي تتلقى أي نوع من التمويل الأمريكي ببناء آليات مراقبة واسعة وإجراءات شُرَطيّة ضمن برامج مساعداتها، مثل الفحوصات الأمنية، والشهادات، والبنود التعاقدية التقييدية. وفي بعض الحالات، تم استبعاد مناطق بأكملها أو بلديات كاملة «تُرمز باسم derog» من تدفّق المساعدات لتجنّب انتهاكاتٍ قانونيّة أو تدابير عقابية ذات صلة. كما قال مدير إحدى المنظمات غير الحكومية الدولية التي تدير أموالاً أمريكية في فلسطين: «الأموال لا تذهب لأيّ شيء يُعتبر محفوفاً بالمخاطر من الناحية القانونية».

تمييز مهمّ يجب تسليط الضوء عليه هنا؛ هو بين الأموال الأمريكية التي يتم توجيهها من خلال منظمة متعددة الأطراف، مثل الأونروا أو أيّ وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة، وتلك التي تُدَار ثنائياً عبر USAID. الأونروا ليست مستثناةً من تفويضات الأمن وسياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية، إلّا أنّ «أمْنَنَة» المساعدات في السياق الأممي تتمّ بشكل مختلف إلى حَدّ ما. لطالما نوقِشَت الاحتكاكات الناتجة عن التناقضات بين أنظمة مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة وتلك الخاصة بالدول المانحة الفردية في الأوساط القانونية والسياساتيّة.

تمّ تكليف الأونروا بالالتزام بسياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية وشروطها منذ أواخر الستينيّات. على سبيل المثال، يحدد إطار التعاون بين الولايات المتحدة والأونروا أنّ الأونروا يجب أنْ تتخذ «كلَّ التدابير الممكنة» لضمان عدم استخدام أيّ جزء من الأموال الأمريكية «بشكل مباشر أو غير مباشر لدعم أفرادٍ أو كياناتٍ مرتبطة بالإرهاب». ومع ذلك، يتمّ توفير مستوى معين من الحماية للوكالات الأمميّة لضمان ألّا تطغى السياسات المرتبطة بمكافحة الإرهاب للدول الأجنبية تماماً على الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية الأخرى، بما في ذلك تلك المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني.

هذا الوضع لا ينطبق بالضرورة على تدفّقات المساعدات الثنائية الأمريكية، حيث إنّ المنظمات غير الحكومية، والمقاولين، وغيرهم من الوسطاء الذين يتلقّون منحاً وعقوداً أمريكية يتعاملون بشكل رئيسي مع واشنطن ويخضعون لمساءلتها بشكل أساسي. وكما ورد في دراسةٍ نُشِرَت من قِبَل مشروع مكافحة الإرهاب والقانون الإنساني، فإنّ الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية الدولية «لا تتعامل عادةً مع تدابير مكافحة الإرهاب كقضية مستقلة بذاتها» بل تراها كعنصرٍ واحد ضمن مجموعةٍ أوسع من الاعتبارات التي يجب مراعاتها عند تنفيذ البرامج والممارسات الإنسانية.

من ناحية أخرى، تبدأ التشريعات المتعلّقة بمكافحة الإرهاب من فرضية أنّ طرفاً معيناً في الصراع هو «أو قد يكون» مجرماً، وبالتالي يمكن استبعادُه من تلقّي المساعدات. علاوةً على ذلك، حتى لو تم اعتبار شخصٍ ما مقاتلاً وبالتالي تمَّ استبعادُه من تلقّي المساعدات بموجب القانون الدولي الإنساني، فإنّ علاقَة الاستبعاد هذه لا تمتد عادة إلى عائلةِ المقاتِل أو المُعالِين من قبَله. لكن هذا ليس الحال بالضرورة مع قوانين وسياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية والمنطق الارتباطي الواسع الذي يدعمها.

لذلك، يمكن أن تؤدي إعادة توجيه التمويل الأمريكي من الأونروا إلى USAID ووكالات أخرى إلى ظهور أشكال جديدة من الاستبعاد داخل مجتمعِ اللاجئين الفلسطينيين. إنّ تداعيات مثل هذا الاحتمال خطيرة للغاية، سواء فيما يتعلق بتلبية الاحتياجات الإنسانية الفورية في غزة، أو بالنسبة لآفاق إعادة التأهيل وإعادة الإعمار في المستقبل.

جاك غروس: يصف كتابُكِ عدة حالاتٍ لعب فيها الامتثالُ لقوانين مكافحة الإرهاب دوراً في خلق انقساماتٍ تعجيزية بين المجموعات الفلسطينية التي تحاول تنظيم نفسها سياسياً وتطويرَ برامجَ لمجتمعاتها. هل يمكنكِ أن تخبرينا عن كيفيّة تأثير أمْنَنَة المساعدات على المجتمع المدنيّ الفلسطيني وكيف يتنقّلُ الناس بين مخاوف العقوبات والانقسامات التي تولِّدها هذه المخاوف؟

تبنّى الفلسطينيون العديد من الاستراتيجيات للتعامل مع تعميق عمليات أمْنَنَة المساعدات. بعضهم اختار رفضَ التمويل الأمريكي كليّاً. في عام 2003، على سبيل المثال، أعلنت شبكة المنظَّمات غير الحكومية الفلسطينية (PNGO) مقاطعة USAID ردّاً على إدراج «شهادة مكافحة تمويل الإرهاب» في المِنَح والاتفاقيّات التعاونية التي يتعيَّن على المنظمات الفلسطينية توقيعُها قبل الدخول في اتفاقيات التمويل.

وعبّرت هذه الشبكةُ عن قلقها من أنّ المنظمات الفلسطينية تُجبَر على توقيع وثيقةٍ تنصُّ على قَطع العلاقات مع الكيانات والأفراد الذين تصنّفهم واشنطن على أنّهم إرهابيون - وهي تصنيفات، كما ذكرتُ سابقاً، تشمل العديد من الشخصيّات والحركات والأحزاب التي تُعتبَر جزءاً لا يتجزّأ من النضال التحرّري الفلسطيني.

من الواضح للفلسطينيّين أنّ أيّ نشاط، أو تصرّف أو حتى خطاب، يعترضُ على موقعهم «المُخضَع» ضمنَ النظام السياسي الحاليّ في فلسطين يُعتبر تهديداً أمنيّاً، وغالباً ما يُساوى بالإرهاب. يُنظَرُ إلى توقيع شهادة مكافحة تمويل الإرهاب كتصديقٍ مباشر على الموقف المشترَك بين واشنطن و«تل أبيب»، الذي يجرِّمُ كل شيء ما عدا الامتثال الفلسطيني في ظلّ استمرار التهجير. كما قال لي أحدُ المتحدثين: «لا أحد يريد بالفعل استخدام الأموال لدعم الإرهاب. بدلاً من ذلك، هذه معركة حول المبادئ. من لديه السلطة ليحدّد؟». بكلمات أخرى، اعتُبرَتْ هذه الشهادة من قبل الكثيرين في فلسطين أداةً للمواجهة المضادّة والحرب بالوكالة.

وتجدُ بعضُ المجموعات الفلسطينية نفسها واقعةً في التناقض بين قبول التمويل الأمريكي (مع متطلّباته الأمنيّة) وبين التمسّك بمبادئِها الوطنيّة. على سبيل المثال، طوّرت منظمة شبابية فلسطينية مشروعاً لـ«مجلس ظِلّ شبابي» بهدف تعزيز السياسة المحلية وتمكين الشباب الفلسطيني، خاصةً في ظل تأثر المجال الوطني بسبب التداخل العميق بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل». أكملوا المرحلة الأولى من المشروع بتمويلٍ أوروبي. ولكن عندما انتهى التمويل، اتصلت بهم منظمة دولية ترغب في التعاون معهم لإكمال المرحلة الثانية باستخدام أموال من USAID. فأثار هذا الاقتراح سلسلة طويلة من المناقشات المكثفة داخل تلك المنظمة الفلسطينية حول ما إذا كان ينبغي رفض التمويل الأمريكي بالكامل أو العمل ضمن قيود الامتثال ولكن دون التضحية بمبادئهم. دار جزء من النقاش حول الاعتراف بأنّ المساعدات الأجنبية مشروطة دائماً، سواء جاءت من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو جهات مانحة أخرى، وركّزوا على تحديد القيود التي يمكنهم العمل ضمنها. في النهاية، قررت المنظمة قبول التمويل من USAID. ولكنْ ماذا كانت النتيجة؟ ما يثير الاهتمام في هذه الحالة هو أنّ هذه المنظَّمة الفلسطينية لم تتمكّن، باستخدام التمويل الأمريكي، من إنشاء مجالس ظلِّ شبابية في أيّ بلديةٍ تضمُّ أعضاء منتخبين في المجلس البلدي ينتمون إلى مجموعات مدرَجة على قوائم الإرهاب الأمريكية. بناءً على ذلك، كان على المنظَّمة استبعادُ أيِّ بلديّةٍ تنطبقُ عليها هذه المعايير مسبَقاً أثناءَ تنفيذِ مشروع «الديمقراطية للشباب». وكما هو متوقَّع، أثارت هذه الخطوة عدداً من المعضلات الأخلاقية للمنظمة وعلاقاتها طويلة الأمد على الأرض مع «البلديات المحظورة». بالإضافة إلى ذلك، صاغَتْ متطلباتُ مكافحة الإرهاب الأمريكية شكلَ المشروع بشكل عميق، حيث اضطرّت المنظمة إلى حصر عملها بشكل رئيسيّ في البلديات الأصغر التي لا تضم أعضاء مجلس بلديّ ينتمون إلى المجموعات المحظورة. علاوة على ذلك، لم تغب السُّخرية عن المنظمة وقاعدة الشباب المستفيدة منها، حيث كان يتمّ فرض حظرٍ أجنبي على إدراج الأحزاب السياسيّة في مشروعِ ديمقراطيّة مخصَّص للشباب الفلسطيني. أدَّى ذلك إلى تآكل مصداقية المنظَّمة على الأرض.

في العديد من الحالات، تؤدّي زيادة أمْنَنَة المساعدات إلى إنتاج أنواعٍ ملموسة من التجزئة والانقسام على الأرض، بما في ذلك فراغٌ في الخدمات والمساعدات الحيوية في الأماكن التي تحتاج إليها بسبب وجود بلديّة تضمّ مقاعد في المجلس البلدي لمجموعة محظورة، سواء كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو الجهاد الإسلامي، أو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أو أي مجموعة أخرى، وليست حماس فقط، رغم أنها الأكثر استشهاداً بها في هذه السياقات.

هذه التجزئة، وهذه الجغرافيا من الانقسامات والعزلة، تَنتج على مستويات متعددة وفي مواقع مختلفة في فلسطين. من الواضح أنّنا رأينا ذلك في حالة غزة، وسنراه بشكل أكثر وضوحاً إذا تم تكليف الوسطاء في مجال المساعدات بإعادة الإعمار في غزة -بما في ذلك المتعاقدون من القطاع الخاص الذين تروّج لهم واشنطن حالياً في خططها الأخيرة- علماً بأنّ غزة مكانٌ لا مفرَّ من وجود حماس فيه.

ديلان سابا: تتجاوز التزامات النظام الإغاثي السلبي حدودَه، ممّا يقوِض المهمّة الإيجابية للمشروع في تقديم المساعدات الإنسانية للسكان المحتاجين. هل تَرين أنّ ذلك نتيجةُ انحرافٍ عن المهمة الأصلية؟ أم أنّ السيطرة على المساعدات تُستخدَم كاستراتيجيّة لتحقيق أهدافٍ سياسيّة معيَّنة؟

إنّه سؤال عظيم، لكن من الصعب الإجابة عليه بشكل قاطع. يمكنني تقديم بعض التأمّلات حول كيفية فهم التغيّرات الأخيرة وإعادة تشكيل تدفّقات المساعدات «ووقفِها» خاصّةً فيما يتعلق بالأونروا.

الدور المحوري الذي تلعبه الأونروا في الحفاظ على التصنيف السياسيّ للّاجئ الفلسطيني ليس خافياً على «إسرائيل». منذ زمن طويل، قادت «إسرائيل» حملات، والآن أكثر من أيّ وقت مضى، تدعو إلى حلّ الأونروا. كما صرّح نتنياهو بوضوح في 2017 بعد اجتماع مع السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي: «حان الوقت لتفكيك الأونروا ودمجها مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين».

إذا وضعنا التصعيد الأخير في الهجمات على الأونروا ضمن هذا السياق الأوسع، يتّضح أنّ هذه الهجمات ليست جديدة. على سبيل المثال، يوضّح حسن براري، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة قطر، أنّ هذه الهجمات ليست سوى استمرار لمحاولات «إسرائيلية» طويلة الأمد «لخفض تمويل الأونروا من أجل إزالة ملف اللاجئين من أيّ مفاوضات مستقبلية».

بالنظر إلى إعادة تشكيل تدفّقات المساعدات الأمريكية في الأشهر الأخيرة، بما في ذلك إنهاء المساهمات الأمريكية للأونروا، وإعادة توجيه بعض المساعدات عبر وزارة الخارجية الأمريكية، وUSAID، وشركائها على الأرض، وغيرها من وكالات الأمم المتحدة، يمكن قراءة ذلك كإشارة واضحة على أنّ واشنطن اختارت تسهيل هدف انهيار الأونروا بشكل مباشر من خلال شكلٍ من أشكال «الانهيار المُدَار». يتم ذلك عبر تفكيكٍ تدريجيّ للوظائف الأساسية التي تقوم بها الأونروا، ونقلها إلى وكالات أخرى ثنائية ومتعدّدة الأطراف، والتي لا تخدم بشكل خاص التصنيف السياسي للّاجئ الفلسطيني.

هذه الاستراتيجية ليست جديدة، كما كشف موظَّفٌ سابق في الأونروا خلال نقاش أجريناه في الصيف الماضي. بل هي خطّة تمّت مناقشتها في الدوائر الحكومية العليا لسنوات. تسعى هذه الخطّة إلى حلّ الأونروا كمؤسسة مع الاستمرار في تقديم وظائفها من خلال وكالات أخرى، والتي، كما هو واضح، لا تلتزم بالولاية الخاصة بالأونروا فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين.

ديلان سابا: الحرب الحالية جلبت دماراً لا يوصف، سواء في الأرواح البشرية أو البنية التحتية. يُنظَر إلى ذلك عموماً من خلال عدسة التدمير العشوائي والإبادة الجماعية. ولكن هناك بُعدٌ آخر يظهر من خلال تدفّقات المساعدات: الحاجة الماسّة لإعادة الإعمار تخلقُ فراغاً سياسيّاً تستغلُّه أنظمةُ مكافحة التمرّد. ما الذي تركّزين عليه عندما تفكّرين في إعادة إعمار غزة؟ وكيف يرتبط استهدافُ الأونروا بالاستراتيجية الأوسع لـ«إسرائيل»؟

تبدو استراتيجيّة «إسرائيل» متماسكةً على عدّة مستويات؛ الأول يتعلق بالقضاء على تصنيف «المدنيّ» من غزة - خطابياً وفعلياً. يهدف جزء من هذه الاستراتيجية إلى دمج كل شيء وكل شخص في غزة ضمن مفهوم «مرتبط بالإرهاب». يشمل ذلك البنية التحتية: المستشفيات، والأحياء بأكملها، والمدن، وحتى من يشارك في مجموعة «واتساب» معينة. الهدف، سياسياً ومادياً، كما يبدو واضحاً للغاية، هو إفراغ قطاع غزة تدريجياً من سكّانه. نرى هذا بشكل أكثر عدوانية الآن في الشّمال، مع تقسيم القطاع، والقصف المستمر، والحصار شبه الكامل على جميع المساعدات.

الهجمات على الأونروا هي جزء من هذه الاستراتيجيّة. هنا نرى محاولةً لتدمير التصنيف السياسي للّاجئ الفلسطيني من خلال انهيار الوكالة التي تدعمُ مادياً حياة اللاجئين. انهيار الأونروا لن يغيِّر القانون الدولي، لكنّه سيقضي على البنية المؤسَّسية التي تدعم حياة اللاجئين. الأونروا يجب أن تكون في مركز أيّ نقاش حول ما يحدث الآن - ليس فقط لدورها الحاسم في الحفاظ على حق العودة الفلسطيني، ولكن أيضاً لدورها في تلبية الاحتياجات الأساسية للاجئين.

هناك نيّة واضحة لإضعاف الأونروا، وربّما إلى حدّ انهيارها، مع إعادة توجيه تدفُّقات المساعدات إلى وكالات أمميّة أخرى لا تلتزم بالولاية الخاصة بالأونروا تجاه الشعب الفلسطيني.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1202
آخر تعديل على الجمعة, 29 تشرين2/نوفمبر 2024 19:59