كيف أصبحت «الصهيونية» قابلة للهزيمة؟
لكي نفهم لماذا أصبحت إيران وحزب الله الآن في موقف يسمح بتسريع تفكيك الدولة الاستيطانية «الإسرائيلية»، يتعين علينا أن ننظر إلى التأثيرات التي جعلت الصهيونية ضعيفة إلى هذا الحد. علينا النظر إلى التحولات الاقتصادية، والتغيرات في ميزان القوى العالمي، والعوامل الاستراتيجية التي جعلت انهيار الصهيونية أمراً لا مفرّ منه، وبالتالي ضمان استعادة فلسطين. إن قصة وصول الصهيونية إلى هذه النقطة المميتة تُعلّم الشيوعيين كيفيّة الفوز بالنضال.
ترجمة: قاسيون
لكي تتمكن الدولة العرقية اليهودية من البقاء داخل فلسطين، فإنّها تحتاج إلى اقتصاد قوي، ونمو مستمر في عدد المستوطنين حتى يتسنى لها ضمان التفوّق الديموغرافي، ووحدة كافية بين العناصر المختلفة في المجتمع الاستيطاني. لكن كلّ هذه الأمور الثلاثة أصبحت مستحيلة بسبب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، التي أدت إلى التعجيل بانهيار الصهيونية التي كانت قد بدأت أزمتها قبل ذلك بالفعل.
بسبب التصعيدات التي شهدها الصراع في العام الماضي، انكشفت نقاط الضعف في أنظمة الدفاع التي تتبناها الدولة الاستيطانية مرات عديدة، كما اضطرت أعداد هائلة من المستوطنين إلى مغادرة «إسرائيل». انزلق الاقتصاد «الإسرائيلي» إلى الفوضى، الأمر الذي جعل المشروع الصهيوني أكثر عجزاً. مع اقتراب احتمالات إقامة دولة فلسطينية مستقلة، تجد الحكومة «الإسرائيلية» نفسها محاصرة، وقد تضطر قريباً إلى الامتثال للمطالب الدولية بتقليص حجم المشروع الاستيطاني. هذا من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، لأن المستوطنين المدججين بالسلاح في الضفة الغربية سوف يبدؤون في مهاجمة حكومتهم إذا ما طُلب منهم التخلي عمّا سرقوه. وهم لا يريدون التراجع، حتى ولو لم يترك الواقع للصهيونية أي خيار سوى التراجع.
إن إقامة دولة فلسطينية من شأنه أيضاً أن يعجّل بالأزمة الديموغرافية التي تعاني منها الصهيونية، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الفلسطينيين قادرين على الازدهار وإعادة إعمار وطنهم. كلّ ما يمكن أن ينتج عن هذا هو أن تصبح «إسرائيل» عاجزة عن الاحتفاظ بالتفوق اليهودي، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الفلسطينيين قادرين على حكم أنفسهم بعد تفكك الدولة الصهيونية. وحتى لو حصل الصهاينة الليبراليون على حلّ الدولتين، فلن يكون هذا هو النصر الذي يأملون، بل سيكون مجرّد خطوة أخرى نحو فلسطين الحرة بالكامل، مع عدم قدرة ما تبقى من «إسرائيل» على الاستمرار.
إن القوى المناهضة للإمبريالية سوف تفوز بالمرحلة التالية من الصراع ضدّ «إسرائيل» للسبب ذاته الذي من أجله سوف تنتصر روسيا على أوكرانيا الفاشية: الجانب المؤيد للإمبريالية لا يمكنه إلا أن يؤذي نفسه. لقد ارتكبت كل من أوكرانيا و«إسرائيل» أخطاء استراتيجية من خلال استفزاز أعدائهما دون حذر. كانت المعارك التي اختاروها غير واقعية بالنسبة لهم للفوز بها، لأن الخصوم الذين يقاتلونهم، سواء روسيا أو إيران أو الحوثيين، يمثلون جميعاً الاتجاه التاريخي ذاته. هذا هو الاتجاه نحو المستقبل، حيث بدأ يفرط عقد رأس المال المالي الاحتكاري الدولي، ولم يعد بإمكان أي دولة إخضاع دولة أخرى. إنّه الجهد الجماعي من قبل جميع القوى ذات المصلحة في الإطاحة بالإمبريالية، والتي اكتسبت مزايا استراتيجية غير مسبوقة خلال الجيل الأخير فقط.
لم تكن حماس لتتمكن من إلحاق مثل هذا الضرر الذي لا يمكن إصلاحه بالمشروع الصهيوني لولا نهضة أوراسيا. ولأنّ الصين وروسيا انتزعتا من الولايات المتحدة الهيمنة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي لم تكن موضع شك، فقد أصبح أغلب العالم غير خائف من العمل تضامناً مع فلسطين. لم يعد أصدقاء فلسطين النشطون يقتصرون على البلدان التي تقاتل الإمبريالية الأميركية بشكل فعلي، مثل: إيران وكوريا الشمالية، بل إن أغلب العالم يساهم الآن بشكل ملموس في تحرير فلسطين من خلال تعزيز المشروع الرامي إلى منح فلسطين دولة.
سقوط «إسرائيل» بداية سقوط الإمبريالية بأسرها
يأتي هنا دور «إسرائيل» لسحب الإمبريالية الأمريكية معها. قال بلينكن: إن واشنطن ستتوقف عن تمويل برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إذا تم إنشاء دولة فلسطينية. هذا يعني فعلياً أنّ الولايات المتحدة تنوي توسيع عقوباتها، واستخدام المجاعة كعقاب على عمل الجنوب العالمي على إنهاء الصهيونية. إذا مضت واشنطن قدماً في هذا، فإنّها ستجعل نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى، مما يؤدي إلى تدمير أسسها الاقتصادية والاجتماعية.
بالفعل، إنّ تراجع الصهيونية ينتقل إلى الولايات المتحدة، مثلما تؤدي كلّ خسارة عالمية أخرى تشهدها واشنطن إلى تفاقم الأزمات الداخلية للإمبريالية. إنّ تصميم الحكومة الأمريكية على الحفاظ على قاعدتها العسكرية «الإسرائيلية» في غرب آسيا يزيد من تكاليف الحرب بالوكالة في أوكرانيا. وهو ما يستفزّ المقاومة من جانب الشعب الأميركي، وبالتالي يسرّع من حملة القمع من السلطات ضد المعارضة. يقترب هذا النظام الليبرالي من الانهيار، ممّا يدلّ على أنّه لم يعد قادراً على تحمّل المرونة في التظاهر بالديمقراطية.
تأمل الدولة الإمبريالية في إجبار السكان على التركيز على الحروب الثقافية مرة أخرى، لكنّ الوعي الجماعي تطوّر بعيداً جدّاً عن نمط الخطاب القديم. أدّت أزمة التضخم في الداخل الأمريكي، والحروب التي تزيد من تفاقمها، إلى تحويل الخطاب نحو اتجاه أكثر ثورية. عندما تتفاعل واشنطن مع خسائرها الجيوسياسية التالية بشنّ حرب فعّالة على الجنوب العالمي بأكمله، فإنّ كلّ هذه المشاكل التي تواجه الإمبريالية ستصبح أكثر صعوبة.
هذا هو السبب وراء سعي الطبقة الحاكمة إلى استخدام انتخابات 2024 كمحفز لتصعيد الحرب الثقافية. كفرصة لحشد الناس، سواء على اليمين أو اليسار، نحو أحداث جديدة من نوع الهجوم على مبنى «الكابيتول». عندها ستكون وسائل الإعلام قادرة على خلق المزيد من الانقسامات الثقافية، ويمكن للدولة الأمنية قمع كل من تعتبره تهديداً. تستعدّ الدولة لهذه المرحلة التالية من القمع من خلال مداهمة منازل وأماكن عمل المعارضين. لكنّ هذا القمع سيزيد العمل للإطاحة بالنظام.
كان على الذين يقاتلون «إسرائيل» حتّى يتمكنوا من الوصول إلى ما وصلوا إليه، بحاجة إلى المساعدة في رعاية التحوّل نحو التعددية القطبية، والشراكة مع الصين وروسيا حتى تتمكن هذه البلدان من المساعدة بشكل أفضل في إضعاف الصهيونية. بسبب الطريقة التي بنت بها هذه الشراكة العالمية نظاماً اقتصادياً جديداً، مستقلاً عن الهيمنة، وقادراً على دعم كلّ من يتحدى الإمبريالية، أصبحت «إسرائيل» غير قابلة للدفاع عنها. جعلت قوة التوازن التي توفرها أوراسيا دولاً، مثل: كولومبيا، واثقة بما يكفي للانسحاب اقتصادياً من «إسرائيل»، ممّا أدى إلى إزالة مجالات التجارة الحاسمة التي يحتاجها مجتمع المستوطنين.
إن عملية طوفان الأقصى، وأعمال المقاومة الكبرى التالية التي سينفذها حزب الله وإيران، تمثّل لحظة في التاريخ حيث انقلبت موازين القوى. ما كان لحماس وبقيّة محور المقاومة أن يحققوا مثل هذا النجاح قبل عشرين عاماً، عندما بدأت أوراسيا والتعددية القطبية للتو في تهديد القوة المهيمنة. كان لا بدّ من تغيير الطريقة التي تعمل بها علاقات القوة العالمية، وعندها فقط يمكن للجزء المسلح من المقاومة أن يوجه ضربة قاتلة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1188