زنزانة أوروبا والدول التي ستزيد عصيانها
تخلق أمريكا وتفرض وتطبق العقوبات ضدّ روسيا، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، وبالتالي، دفع الشركات الأوروبية إلى الانتقال إلى أمريكا، حيث الضرائب، واللوائح المتعلقة بالسلامة والبيئة، وحقوق العمال، أقل بكثير، وبالتالي، فإن الأرباح ستكون أعلى بكثير بالنسبة للمستثمرين. علاوة على ذلك، تستطيع أمريكا توفير احتياجاتها من الطاقة.
ترجمة: قاسيون
على هذا، فإنّ سلاسل التوريد أقلّ خطورة في الولايات المتحدة منها في أوروبا. الآن لم يعد هناك سبب يدعو الشركات إلى القيام بأي شيء في أوروبا باستثناء البيع للأوروبيين، الذين أصبحوا يائسين على نحو متزايد للحصول على كل ما يستطيعون شراءه، بعد أن أصبحت روسيا، التي كانت تزودهم بأدنى تكاليف الطاقة والسلع الأخرى، تخرج من الأسواق الأوروبية بسبب العقوبات. والواقع، أن الأموال قادرة على التحرك حتى عندما لا يستطيع مالكها التحرك.
وسوف يتخلف الشعب الأوروبي الآن أكثر فأكثر عن الركب مع فرار ثروات أوروبا ــ في المقام الأول إلى أمريكا. تعاون زعماء أوروبا مع زعماء أمريكا للتسبب في هذا التراجع الأوروبي. ذكرت صحيفة هاندلسبلات اليومية الألمانية للأعمال في سبتمبر/أيلول: «إنّ المزيد والمزيد من الشركات الألمانية توسع مواقعها في أمريكا الشمالية: فواشنطن تجتذب الشركات الألمانية بالطاقة الرخيصة والضرائب المنخفضة. وهذا ينطبق قبل كل شيء على الولايات الجنوبية. برلين منزعجة ــ وتريد اتخاذ تدابير مضادة».
رغم أن الاقتصاد الأمريكي يبدو في حالة جيدة الآن، من خلال انتزاع وظائف التصنيع من الاتحاد الأوروبي، ومن خلال فرض تكاليف الطاقة هناك، وتشجيع أصحاب العمل الأوروبيين على التصنيع في أمريكا، فإنّ كل هذا الضرر الذي ألحقته الولايات المتحدة بالاقتصادات الأوروبية يحفّز دول الاتحاد الأوروبي على إنهاء كونها «مستعمرات» للولايات المتحدة، وأن تصبح أكثر ارتباطاً بمنطقة أوراسيا، وأقل ارتباطاً بالتحالف العسكري الأمريكي المناهض لروسيا. تتمّ معاملة دول الاتحاد الأوروبي على نحو متزايد من قِبَل حكومة الولايات المتحدة باعتبارها مستعمرات تستغلها اقتصادياً، وليس سياسياً فحسب. والواقع أن أحد الموضوعات الرئيسية التي تناولها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مراراً وتكراراً في خطاباته، كان أنّ الولايات المتحدة وحدها هي «لا غنى عنها»، وهو ما يعني أن كل الدول الأخرى «يمكن الاستغناء عنها».
في فبراير/شباط، أعلنت أورسولا فون دير لاين، أنّ الاتحاد الأوروبي «سيضمن حصوله على الكمية الكافية من المواد والتفوق التكنولوجي الذي قد نحتاجه في المستقبل». وتابعت قائلة: إن الكتلة تنوي تعزيز المجمع الصناعي العسكري للاتحاد الأوروبي. وأوضحت رئيسة الاتحاد الأوروبي خطتها بعبارات لا لبس فيها: «يجب أن يكون هناك مبدأ بسيط في صميم هذا الأمر: يتعين على أوروبا أن تنفق أكثر، وأن تنفق بشكل أفضل، وأن تنفق بطريقة أوروبية».
إنّ الإنفاق الإضافي ضد الأعداء الذين خلقتهم ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة لن يأتي من جيوب النخبة الغربية. في 4 أغسطس 2024، نشر كونور غالاغر مقالاً بعنوان «لماذا يزيد الاتحاد الأوروبي الضغط على ميلوني في إيطاليا؟»، وذكر: في 24 يوليو/تموز، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها وجّهت إلى إيطاليا إشعاراً بسبب أوجه القصور المزعومة في «سيادة القانون»، وهو ما قد يعرّض تماسك الاتحاد الأوروبي، وأموال التعافي المخصصة لروما للخطر. من الناحية النظرية، من المفترض أن يكون التحذير موجها إلى المعايير الديمقراطية، والفساد، واستقلال النظام القضائي، وسلامة الصحفيين. لكن في الواقع، يُستخدم التهديد بقطع بعض أموال الاتحاد الأوروبي كشكل من أشكال الابتزاز المالي، لمنع دول الكتلة من الانحراف عن العقيدة النيوليبرالية وأولويات حلف الناتو.
أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين هذا الأمر، عندما أصدرت تهديدها الضمني باستخدام «الأدوات» قبل الانتخابات الإيطالية في 2022 التي جلبت رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني وحزبها «إخوان إيطاليا» إلى السلطة. إنّ استخدام أدوات الحكم والقانون لأغراض أخرى غير الغرض المقصود منها واضح أيضا في حالة المجر وبولندا. فقد استخدمت المفوضية مليارات الدولارات من الأموال المحتجزة في وقت سابق من هذا العام لرشوة أوربان، ولحمله على التراجع عن الأموال التي كان يحتجزها لصالح مشروع أوكرانيا.
كانت حكومة ميلوني تُشرف على موجة من عمليات الخصخصة، بما في ذلك البنية التحتية الأساسية للاتصالات لشركة الاستثمار الخاصة المرتبطة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وخطط لمزيد من شركة السكك الحديدية الحكومية فيروفي ديلو ستاتو، وبوستي إيتالياني، وبنك مونتي دي باشي، وشركة الطاقة العملاقة إيني. في العام الماضي، اختارت ميلوني يوم العمال للإعلان عن ترويج حكومتها لعقود العمل قصيرة الأجل، فضلاً عن إلغاء برنامج الدخل الأساسي في إيطاليا، الذي كان يوفر للعاطلين عن العمل متوسطاً 567 يورو شهرياً. على الرغم من أنّ البرنامج يوفر حافزاً بسيطاً للاقتصاد، إلا أنّ ميلوني التي ظهر أنّها وفيّة ومرضي عنها أوروبياً رغم كلّ ما شاع أثناء الانتخابات، قالت: إن إلغائه سيجبر الناس على العودة إلى العمل. وتساءلت: «أين الركود في الاقتصاد والتوظيف؟».
لكنّ ميلوني لم تذكر أن نحو 40% من العمال الإيطاليين يكسبون أقل من 10 يورو في الساعة في البلاد، حيث انخفضت الأجور المتوسطة بنسبة 2.9% منذ عام 1990. يهاجر ملايين الإيطاليين بحثاً عن فرص أفضل، في حين تراجعت ميلوني عن موقفها الصارم بشأن الهجرة من أجل جلب المزيد من العمال، والحفاظ على نموذج قمع الأجور في البلاد على المسار الصحيح. ناهيك عن الإجراءات المستمرة منذ ما قبل ميلوني، وتشمل خصخصة الخدمات العامة المحلية ونقل السلطة من المسؤولين المنتخبين إلى البيروقراطيين في هيئة المنافسة الإيطالية التي تشرف عليها بروكسل.
لكن، لو فكرت ميلوني بعكس هذا المسار والاستفادة من الشراكة مع الصين مثلاً، فهل ستستطيع؟ إنّ بروكسل وواشنطن ستعملان على تنصيب حكومة جديدة في روما بسرعة. كتب تشو بو مقالاً العام الماضي: «إنّ ساحة المعركة لن تكون في الجنوب العالمي، حيث خسرت الولايات المتحدة الكثير أمام الصين، وخاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية... بل ستكون في أوروبا، حيث يوجد معظم حلفاء الولايات المتحدة، وحيث تعدّ الصين أكبر شريك تجاري. بالتدريج، سوف يتراخى التحالف العابر للأطلسي. وحتى لو كان تراجع أمريكا تدريجياً، فإنّها لا تستطيع تحمّل وجود عسكري عالمي. سوف تضطر إلى الانسحاب من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك من الشرق الأوسط وأوروبا، للتركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ. طلب الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون، جمهوريون وديمقراطيون على حدّ سواء، من الأوروبيين أن يتحملوا قدراً أكبر من المسؤولية عن أمنهم. بعبارة أخرى، لابد أن تتمتع أوروبا بالاستقلال الاستراتيجي، حتى لو لم تكن تريد ذلك. إنّ حقيقة أنّ أوروبا تتخذ الصين شريكاً ومنافساً في الوقت ذاته، تقول المزيد عن ارتباك أوروبا».
ميلوني تتخبط بشأن عدم قدرتها على تغيير الحقيقة الوحيدة التي تهمّ حقاً. إنّ عودتها إلى الصين بعد انسحابها بثقة من مبادرة طريق الحرير في العام الماضي، هي واحدة من أكثر الأمور التي تحيرها. ولعلّ إشعار سيادة القانون الذي أصدرته لجنة أورسولا كان مجرّد ذريعة لتذكير ميلوني بمن هو المسؤول الحقيقي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1188