«متلازمة» غزة ستلاحق الأمريكيين وتهدم عرشهم
لم تتّضح بعد نتائج الحرب في غزة، ولكن ليس من السابق لأوانه إجراء تقييم مؤقت. إنّ التكلفة المروعة من حيث القتلى والجرحى والنازحين الفلسطينيين لم يسبق لها مثيل في الصراع المستمر منذ 75 عاماً بين الدولة «الإسرائيلية» والفلسطينيين. وحتى نكبة 1948 لم تشهد هذا المستوى من الموت والدمار.
ترجمة: قاسيون
لذا فإن النقطة الأولى والأكثر وضوحاً هي أن «الإسرائيليين» لن يتعرضوا لهزيمة عسكرية صريحة بالمعنى التقليدي للهزيمة العسكرية. وهذا ليس بالأمر المستغرب، إذ إنّهم ينشرون قوات عسكرية حديثة ضد شعب غير مسلّح إلى حدّ كبير. لكن حتّى في السجل العسكري، لم يكن «للإسرائيليين» بأي حال من الأحوال قدرة على تسيير الأمور على طريقتهم. ونظراً لعدم تناسق الأسلحة، فقد تكبدوا خسائر عسكرية كبيرة.
لم تنجح «إسرائيل»، وليس من المرجح أن تنجح، في تدمير حماس أو قطع رأس قيادتها. بل إنّ الطبيعة القاسية والوحشية للهجوم الذي يشنه الجيش «الإسرائيلي» سيضمن استمرار حماس في تجنيد الأفراد لعقود قادمة. بعيداً عن مسرح العمليات العسكرية، فإنّ الميزان العام ليس في صالح «الإسرائيليين». من الناحية السياسية، فقد استنزفوا الدعم في جميع أنحاء العالم، وهي حقيقة تبلورت من خلال التحقيق الجاري الذي تجريه محكمة العدل الدولية بشأن «إسرائيل» بتهمة الإبادة الجماعية.
هذه المفارقة الفلسطينية – الهزيمة العسكرية والنصر السياسي – ليست غريبة في تاريخ النضال التحرري. كان هجوم تيت الفيتنامي عام 1968 بمثابة فشل عسكري، ولكن من المتفق عليه على نطاق واسع أنّه كان بمثابة نقطة تحول سياسية جعلت الولايات المتحدة غير قادرة على حشد الدعم للحرب كما فعلت من قبل.
كان قرار جنوب أفريقيا بإحالة قضية الإبادة الجماعية إلى محكمة العدل الدولية تاريخياً في حدّ ذاته. قدّمت جنوب أفريقيا، التي سارت مع موجة الغضب العالمية ضدّ إسرائيل، تحدياً مذهلاً لكون «إسرائيل» فوق الحساب. إنّ الرواية القائلة إنك إذا انتقدت «إسرائيل» فلا بد أنك معاد للسامية، والتي تم ترسيخها في السياسة الغربية - والبريطانية من قبل الجناح اليميني لحزب العمال في معركته ضد جيريمي كوربين - قد أصبحت في حالة من الفوضى.
ويجسد حكم محكمة العدل الدولية عزلة دولة إسرائيل وحلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا. إنّ «إسرائيل» وأنصارها يشكّلون أقليّة صغيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد أدّى التطهير العرقي الذي يمارسه الجيش «الإسرائيلي» في غزّة إلى إجبار حتى الاتحاد الأوروبي إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من خطورة هذا التراجع بالنسبة «لإسرائيل» وحلفائها الغربيين، إلا أنه لا يأتي بمفرده، بل كجزء من اتجاه تنحسر فيه قوة الولايات المتحدة.
خطأ استراتيجي أمريكي
لا تزال الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر إنفاقاً على الأسلحة في العالم، حيث تنفق أكثر من الدول العشرة التالية لها مجتمعة، بما في ذلك الصين. لكنّ تفوقها العسكري لم يعد مصحوباً، كما كان الحال في القسم الأعظم من القرن العشرين، بهيمنة اقتصادية ساحقة. ربما لا تزال الأرقام تشير إلى أنّ اقتصادها هو الأكبر، لكنّها تواجه تحدياً مستمراً من الصين، ومن المقرر أن تتخلّف عن منافستها بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. أصبحت الاقتصادات الناشئة، وأبرزها الهند، وأمريكا اللاتينية الآن مراكز مستقلة لتراكم رأس المال، ولم تعد تعتمد بشكل مباشر على الروابط مع الولايات.
إنّ هذا التناقض بين القوة العسكرية الساحقة وتراجع الهيمنة الاقتصادية يشكّل السبب الأكثر أهميّة وراء تزايد عدوانية الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة. وكما تم تدوينه في مشروع القرن الأمريكي الجديد، كان الهدف هو استخدام القوة العسكرية لإعادة ضبط الملعب الاقتصادي لصالح الولايات المتحدة. هذا هو الهدف الذي كان من المفترض أن تدور حوله حرب العراق، حيث كانت الحرب الأفغانية بمثابة مقدمة لها على المستوى السياسي ولكنّها غير ذات أهمية على المستوى الاقتصادي. لكنّ كلاً من الحدث الأفغاني الذي رفع الستار والحدث العراقي الرئيسي تحولا إلى كوارث سيئة السمعة.
بعد إنفاق الكثير من الدماء والأموال، عادت أفغانستان إلى ما لم يكن من المفترض أن تكون عليه، دولة تحكمها طالبان. وكانت النتيجة في العراق أسوأ من ذلك، ليست الدولة المستقرة المأمولة والموالية للغرب والغنية بالنفط، بل هي بلدٌ غير مستقر ترأسه حكومة تطالب مراراً وتكراراً بمغادرة القوات الأمريكية أراضيها. والحقيقة أنّ الأثر الوحيد الأكثر أهمية الذي خلفته حرب العراق كان تضخيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. هذه الحقيقة واضحة للغاية فيما يتعلق بالصراع في غزة، حيث تشتبك القوات المتحالفة مع إيران الآن، بدرجة أو بأخرى، عسكرياً مع «إسرائيل» وحلفائها في غزة، وعبر الحدود الجنوبية اللبنانية، وفي البحر الأحمر، وفي الجنوب، وفي العراق وسورية.
كان الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي ارتكبته الولايات المتحدة هو الإصرار على سياستها العسكرية الحالية من خلال الدعم الشامل «لإسرائيل»، وكأنّ الشرق الأوسط ما زال على حاله قبل حرب العراق. يبدو أنّه لم يتمّ أخذ أي اهتمام بالضرر الدبلوماسي والسياسي الذي سببته الهزيمة في أفغانستان والعراق، ناهيك عن تأثير الكوارث في ليبيا وسورية، أو حقيقة أن اليمنيّين قد تغلبوا على القوات المدعومة من الغرب، والتي تضم تسع دول، في حربٍ استمرّت لأعوام.
متلازمة غزة
يبدو الآن أنّ متلازمة غزة ستُضاف إلى متلازمة العراق، وأنّ عزلة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدم فعالية تفوقهما العسكري، إن لم يكن تدميره، سوف تتعزز. والأسوأ من ذلك أنّ الحرب الأخرى التي شنتها الولايات المتحدة بالوكالة ضد أوكرانيا قد فشلت. هذه ليست حرباً اختيارية بالنسبة لأوكرانيا، بل هي حرب قوى حلف الناتو. مرّة أخرى، يتم نشر الكثير من الأموال والدماء الأوكرانية لمحاربة روسيا. وعلى الرغم من أن الدعاية الغربية تبالغ في التركيز على تهديد بوتين باعتباره «هتلر الجديد»، فهو ليس كذلك.
إذاً خاضت الولايات المتحدة سلسلة من الحروب في الشرق الأوسط، والتي لم يكن ينبغي لها خوضها، والتي هُزمت فيها وعانت من أضرار سياسية هائلة. وقد أضافت إلى ذلك حرباً بالوكالة في أوكرانيا الغارقة في مأزق مكلف.
من ناحية أخرى، فإن المنافس الحقيقي للقوة العالمية للولايات المتحدة، الصين، ينمو الآن عسكرياً بسرعة أكبر من نموه الاقتصادي. وفي حين أنّ المنافسة مع الولايات المتحدة كانت توضع في إطار التوقيت الذي ستصبح فيه الصين أكبر اقتصاد في العالم، فإنّ التهديد الآن يأتي على نحو أكبر من ضخامة الصين. والقوات المسلحة المتنامية، غير المثقلة بالصراعات التي لا طائل من ورائها، والهزائم التي يمكن تجنبها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1161