«انتفاضة» الرياض ليست مجرّد نزوة!
ديمتري مينين ديمتري مينين

«انتفاضة» الرياض ليست مجرّد نزوة!

اتخذت السعودية في آذار ونيسان عدداً من الخطوات «التاريخية» البارزة لاختراق نظام الهيمنة الأنغلوساكسونية على سياساتها: قدمت طلبات رسمية وافقت عليها الحكومة للانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة بريكس. ثمّ كسرت مبدأ فرق تسد الأنغلوساكسوني المطبّق عليها وتصالحت مع إيران عبر الوساطة الصينية، وما نتج عن ذلك من إيقاف الحرب في اليمن. كما أعادت العلاقات مع دمشق بعد أن فرض المشروع الأمريكي لتدويل الأزمة السورية القطيعة بين سورية والعرب، الأمر الذي يحرم بالمحصلة القوات الأمريكية في سورية من أيّة شرعية إقليمية. وفي منظمة أوبك وافقت السعودية على خفض آخر في الإنتاج النفطي، وهو ما يقوّض – بحسب تعبير واشنطن نفسها – الجهود الغربية لمحاصرة روسيا.

ترجمة: أوديت الحسين

كان ردّ فعل الولايات المتحدة عنيفاً وشبه هستيري. في منتصف نيسان زارت أربعة وفود أمريكية الرياض لمدّة أربعة أيام، وبصوت واحد دعوا جميعاً ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي استقبلهم، إلى إعادة النظر في هذه القرارات، وهي المحاولات التي يمكن حتّى لمراقب خارجي أن يدرك على الفور بأنّها معبّر عن «سقوط يائس». في البدء وصل مدير المخابرات المركزية الأمريكية ويليام برنز إلى السعودية. ثمّ في 11 نيسان استقبل وليّ العهد عضو مجلس الشيوخ الأمريكي ليندسي غراهام، الصقر الجمهوري، في جدّة وكأنّهم أرادوا أن يظهروا للسعوديين بأنّهم متوافقون حزبياً في مطالبهم. في 12 نيسان استقبل محمد بن سلمان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان. في 13 و14 نيسان زار السعودية منسّق مجلس الأمن القومي الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بريت ماكغورك «وهو من المبعوثين السابقين لإشعال سورية»، ومعه عاموس هوشستين الممثل الأمريكي المنسّق الأمريكي الخاص لشؤون الطاقة الدولية. كما ضمّ الوفد الممثل الأمريكي الخاص في اليمن تيم ليندرغكينغ.
لكن الهجوم «الكمّي» الأمريكي لم يتحوّل إلى أيّ شيء «نوعي»، بل أظهر عوضاً عن ذلك مدى الفوضى السائدة في الإدارة الأمريكية، وأقنع السعوديين مرة أخرى بأنّ واشنطن لم تعد كما كانت. تواصل ولي العهد بعد ذلك مع الرئيس الروسي بوتين، ليقوم على ما يبدو بإعلامه «بالقفزات الغريبة» من جانب الأمريكيين، وليؤكد له التزام الرياض بقراراتها وعدم التراجع عنها.
بالنسبة للشرق الأوسط، استمرّت هيمنة الإمبراطورية البريطانية، والتي تلتها الولايات المتحدة وحلّت تدريجياً مكانها بشكل كلي، لمدّة قرن على الأقل بداية من الحرب العالمية الأولى. من الناحية الرمزية ارتبط تأسيس الحكم البريطاني بأنشطة لورنس العرب الشهير، الذي حشد الحكام العرب المحليين للثورة ضدّ الإمبراطورية العثمانية. وعلى الرغم من أنّ لورنس نفسه أيّد مطالب العرب بالاستقلال في مؤتمر فرساي 1919، فقد تمّ تجاهل هذا المطلب كالعادة، ليعيد التأكيد على أنّ الاستعمار يستخدم الجميع ليحقق مصلحته وحده في النهاية.
لطالما عانت دول الشرق الأوسط من الإرادة المفروضة عليها من الخارج ومن «القيم» الغربية التي يسعى الغرب والولايات المتحدة لإنفاذها، ولهذا نما الاتجاه المناهض للغرب بشكل جديد مع تراجع القوة الاقتصادية والعسكرية للغرب. قبل أكثر من عقد، وبتحريض مباشر من الولايات المتحدة، كانت محاولة تغيير المنطقة تحت شعارات تحوي داخلها جميعها ثورات ملونة، في محاولة لعكس ما يحدث، ولكن دون جدوى.

الانتقال إلى القوى الصاعدة

اليوم بدأت تستنفذ إمكانات الثورات الملونة التخريبية نفسها تماماً في العالم العربي، ليكون ذلك علامة على بداية «انتفاض» الشرق الأوسط، وحلحلة التصدعات المدمرة. يمكن أن نأخذ عودة سورية الوشيكة إلى مؤسسات العالم العربي ومحادثات الصلح بينها وبين جيرانها في جميع أنحاء المنطقة إشارة على أنّ الأجندات الغربية في المنطقة قد استنفدت نفسها.
كانت نتيجة عقد مضطرب أنّ دول الشرق الأوسط، بما في ذلك أبرزها وأهمّها مثل السعودية، استمرّت في السعي إلى السيادة الكاملة بقوّة وزخم أكبر، فالنخب المحليّة تدرك جيداً من أين جاءها الهجوم. لكنّ هذه النقطة ليست فقط تعبيرات ظاهرية تعكس خيبة أمل هذه الدول وقيادتها في «القيادة الأخلاقية» للولايات المتحدة، بل أيضاً في العمليات الأعمق. يسمي السعوديون مسارهم الجديد: طريق تنويع العلاقات الدولية.
تجاوزت التجارة بين السعودية والصين «87 مليار دولار» في عام 2021 التجارة مع الولايات المتحدة «25 مليار دولار» بأكثر من ثلاثة أضعاف. يقترب هذا الرقم اليوم من 4 أضعاف. الصين هي الشريك التجاري الأكبر للسعودية، وهي أكبر من الغرب بأسره. إنّ تأخر انتقال الرياض في تجارتها مع بكين إلى اليوان طبيعي ومبالغ بمقداره. إنّ ظهور عامل مثل الإتجار بالنفط باستخدام عملة اليوان في الأسواق الدولية هو أحد الضربات الرئيسية لمكانة الدولار الاحتكارية في التمويل العالمي.
لدى السعودية علاقات وثيقة مع روسيا عبر أوبك ومصالحهما المشتركة في تجارة النفط. كما لاحظت صحيفة «نيوزويك»، فالقرار السعودي الأخير بتخفيض إنتاج النفط بمقدار 500 ألف برميل إضافية يومياً كان بمثابة صفعة تشديد التوتر بين واشنطن والرياض، وقد أدّى تفاقمها في ظلّ إدارة الرئيس جو بايدن إلى اقتراب السعودي بشكل أسرع من روسيا والصين.
إنّ «استعراض» جلد روسيا الذي أتى على شكل العقوبات ومصادرة الأموال والأصول الأجنبية، والذي كان من المفترض به بحسب خطة الأمريكيين أن يخيف الجميع، بما في ذلك السعودية، كان له تأثير عكسي. حاول السعوديون القيام بهذا الدور وأدركوا أنّه بدون روسيا كعامل مؤثر في السياسة العالمية، يمكن للولايات المتحدة أن تجبرهم على خفض سعر النفط وحرمانهم من ممتلكاتهم، عبر إلغاء سنداتهم من جانب واحد على سبيل المثال، حيث يستثمر العرب مئات المليارات من الدولارات في سندات الخزينة الأمريكية. لن يعدم الأمريكيون الذريعة ويمكن أن يختلقوا أيّ شيء، سواء أكان قصة خاشقجي نصف المنسية، وصولاً إلى العقوبات التي تفرضها الدولة السعودية على أنصار مجتمع الميم. لذلك كان رفض العقوبات على موسكو يلبي بشكل مباشر المصالح الوطنية للرياض.
الزمن سيثبت أنّ تغيير المسار بالنسبة للسعودية ليس مجرّد «نزوة». تعلّم السعوديون درسهم في العقود الأخيرة من التصريحات والأفعال المتناقضة للرؤساء الأمريكيين، بأنّه لم يعد بإمكانهم الوثوق بالولايات المتحدة. كتبت صحيفة Die Zeit الألمانية: «في الوقت الحالي لا يمكن للغرب تقديم أيّ عرض مغرٍ للسعودية، فلا الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة قادرين على شراء كمية كبيرة من النفط السعودي، ولا يمكنهم فتح تحالفاتهم الغربية لملكيّة استبدادية مثل السعودية. إذا أصبحت السعودية جزءاً لا يتجزأ من التحالف الصيني الروسي، فستكون هذه الأخبار غاية في السوء بالنسبة لغرب».
لا يزال اعتماد السعودية على الولايات المتحدة في المجال العسكري كبيراً، وبشكل خاص توريد الأسلحة، حيث تحتل السعودية المرتبة الخامسة في العالم من حيث الإنفاق الدفاعي «75 مليار دولار». توفّر المملكة 78٪ من وارداتها من الأسلحة عبر الولايات المتحدة، وتحتاج هذه الأسلحة باستمرار إلى قطع غيار وخدمات. لن تتمكن الصين من سدّ هذه الفجوة بسهولة وبسرعة.
ليس السعوديون مستعدين بعد للتخلي نهائياً عن الأمريكيين، ولكن هذا أيضاً يمكن أن يتغير في حال النهاية غير الناجحة للولايات المتحدة في الصراع الذي أشعلوه في أوكرانيا. هذا بالمناسبة لا يتعلق فقط بالسعودية، بل أيضاً بالضرر المحتمل للعلاقات العسكرية للأمريكيين مع الكثير من البلدان التي لن تريد أن تقاتل حتّى «آخر أوكراني».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1121
آخر تعديل على الثلاثاء, 09 أيار 2023 10:49