هل تنتحر الصين اقتصادياً؟
لو سيي لو سيي

هل تنتحر الصين اقتصادياً؟

نُشرت مؤخراً سلسلة من التقارير والأبحاث الغربية التي تزعم بأنّ الاقتصاد الصيني سيفقد معدلات نموه خلال عقد، وسيقع في مصيدة «الدخل المتوسط» وينهار. صدرت أشهر هذه التقارير عن صندوق النقد الدولي وغولدمان ساكس وبلاك روك. إليكم أهمّ ما جاء في مقال بحثي طويل للو سيي، الباحث الأستاذ في مؤسسة جامعة تشونغيانغ للعلوم المالية، والذي يبحث الذرائع التي استندت إليها هذه التقارير، ويصل إلى نتيجة مفادها: الطريقة الوحيدة لحدوث ذلك أن تنتحر الصين اقتصادياً.

ترجمة: أوديت الحسين

إنّ التقارير التي ظهرت تنطلق جميعها من أسس خيالية يتمّ افتراض وجودها، ثمّ القفز إلى نتائج تكون خيالية بدورها. فالحديث عن ضعف الإنتاجية في الاقتصاد الصيني ونقص الابتكار، وعدم أهلية العمالة، هي جميعها أسس مضحكة، فأيّ تتبع إحصائي واستطلاعي للسنوات الأخيرة سيثبت بأنّها مجرّد خيال، أو أماني ربّما. لكنّ تقرير غولدمان ساكس هو الوحيد الذي يحاول أن يعطي مصداقية لتقريره، وهو الوحيد الذي يستحق أن يتمّ تحليل الأساس الذي استند إليه وهو: الانخفاض المتوقع في حصة الاستثمار في الاقتصاد الصيني، فهو أساس له وجود تاريخي في علاقة الولايات المتحدة مع بقيّة العالم.
توقّع تقرير غولدمان ساكس أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي للصين من وسطيه السنوي 6٪ بين 2013 و2022 إلى معدل 3,4٪ بين 2023 و2032، والسبب هو انخفاض الاستثمار الرأسمالي من 42٪ في 2022 إلى 35٪ في 2032. إنّ انخفاضاً بقيمة 7٪ من الاستثمار في الناتج المحلي الإجمالي لمدة 10 أعوام سيؤدي دون شك إلى سقطة هائلة في معدلات نمو الاقتصاد الصيني، ولهذا فحساب غولدمان ساكس ليس خاطئاً هنا. لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا ستقوم الصين بالانتحار اقتصادياً بأن تُخفّض الاستثمار لهذا الحد؟
السبب الذي يُسوّقه التقرير، أنّ الاستثمار كحصة من الناتج المحلي الإجمالي في بلدان الدخل المتوسط العليا التي وقعت في الفخ هو 34٪ وسطياً. لكنّ هذا منطق عجيب، فلطالما تفوقت الصين على بقية اقتصادات الدخل المتوسط العليا، فلماذا ستغيّر مسارها الناجح اليوم وتتبنى مساراً أثبت أنّه أقل نجاحاً؟ المنطق السليم هنا أنّ بقيّة بلدان الدخل المتوسط العليا يجب أن تغيّر مسارها وتتبنى المسار الصيني الناجح.
لا أدري كيف يمكن لباحث أن يُخرج بحثاً فيه هذا النهج الغريب، ولكن هناك مشاكل أخرى في الافتراض. فمتوسط حصة الاستثمار من الناتج الإجمالي لبلدان الدخل المتوسط العليا هو 34٪ بسبب الصين، فإذا ما استثنينا الصين يصبح الوسطي 20٪ في جميع بلدان الدخل المتوسط العليا الأخرى. لكن هل من طريقة أخرى يعتقد كاتب التقرير فيها أنّ الصين ستخفّض حصّة الاستثمار من الناتج الإجمالي غير الانتحار الاقتصادي؟ قد يكون لبعض التاريخ الاقتصادي رأي هنا.

القتل والانتحار الاقتصادي ليسا واحداً!

في واقع الحال لا جديد في قيام الولايات المتحدة بإبطاء اقتصادات منافسيها من خلال تخفيض مستوى استثمارهم من الناتج المحلي الإجمالي، فقد جربت الولايات المتحدة كلّ أنواع ووسائل القتل الاقتصادي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن الحالات التي يمكن تدريسها على نجاح الأمريكيين: ألمانيا في الخمسينيات والستينيات، واليابان في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، واقتصادات «النمور» في شرق آسيا في السبعينيات ونهاية التسعينيات.
كان على الأمريكيين أن يتصرفوا حيال تخطي منافسيهم الرأسماليين لهم في النمو، ففي 1955 تمكنت ألمانيا الغربية من تحقيق نمو بنسبة 8,9٪ سنوياً مقارنة بـ 4,6٪ في الولايات المتحدة، وبحلول 1965 نما الاقتصاد الياباني بنسبة 9,4٪ سنوياً مقارنة بـ 5,1٪ في الولايات المتحدة. لهذا استخدم الأمريكيون مزيجاً من الوسائل الاقتصادية والعسكرية لتحقيق إبطاء نمو الاقتصادات المنافسة. أدّت هذه الوسائل إلى قيام ألمانيا بتخفيض حصة الاستثمار من الناتج المحلي من 30,6٪ في عام 1964 إلى نسبة 22٪ في عام 2021. أمّا اليابان فانخفض الاستثمار من الناتج المحلي من 41,2٪ في عام 1969 إلى نسب 25٪ في عام 2021.
بعد الانتهاء من ألمانيا واليابان كمنافسين، واجهت الولايات المتحدة ظاهرة مماثلة عن نمو اقتصادي تخطى نموها الاقتصادي بسبب معدلات الاستثمار المرتفعة لدى هذه الاقتصادات: النمو السريع في اقتصادات «النمور الآسيوية». لقد حققت دول النمور مستوى استثمار ثابت أعلى من الذي حققته ألمانيا الغربية واليابان بكثير، ففي 1991 وصلت سنغافورة إلى 46.2٪ من ناتجها المحلي في الاستثمار، وكوريا الجنوبية إلى 39٪. وكانت النتيجة نمواً سريعاً يتخطى 8,5٪ لسنغافورة، و9,7٪ لكوريا الجنوبية.
كانت مشكلة «النمور» الأكثر أهميّة أنّهم لم يملكوا ادخارات محلية كافية لتمويل مستويات الادخار المرتفعة هذه، وكانت تعتمد في تمويل جزء كبير من تراكمها الرأسمالي على الخارج، مثل: القروض من البنوك الغربية والبنوك المحلية المرتبطة بالغربية، بدلاً من الاستثمار في رأس المال الأجنبي وغيره من أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر. جعل هذا من السهل على الولايات المتحدة أن تضغط على هذه الاقتصادات للبرلة حسابات رأس مالها الدولي وإزالة ضوابط رأس المال، ما أدّى إلى وقوعهم في الأزمة.
إن أيدي الولايات المتحدة متسخة في تعميق أزمة النمور لدرجة أنّها وقفت بحزم ضدّ الاقتراح الياباني عام 1997 إنشاء «صندوق تمويل آسيوي» من شأنه توفير التمويل اللازم للتخفيف من الأزمة. وطبعاً كانت النتيجة النهائية انخفاض حصة الاستثمار من الناتج المحلي الإجمالي: من 37.5٪ إلى 23.2٪ في سنغافورة، ومن 37.5٪ إلى 31.4٪ في كوريا الجنوبية، ومن 42,5٪ إلى 19,3٪ في ماليزيا، ومن 41,7٪ إلى 23,6٪ في تايلاند.
لكن جميع هذه التجارب التي نجح فيها الأمريكيون في إبطاء نمو الاقتصادات المنافسة كانت عبر «القتل الاقتصادي»، فهل يمكنهم أن يفعلوا الأمر نفسه مع الصين؟ إنّ جميع التجارب التي تحدثنا عنها كانت مرتبطة وتابعة بشكل أو بآخر سياسياً أو عسكرياً أو كليهما بالولايات المتحدة، ما مكّن الأمريكيين من إجبار هذه الدول على التصرّف عكس مصالحها الوطنية.
بينما الصين ليست معتمدة عسكرياً على الولايات المتحدة، وليس لدى الأمريكيين الوسائل العسكرية- السياسية القادرة على إجبارهم على التصرّف عكس مصالحهم بإعادة تقييم عملتهم بشكل هدّام لاقتصادهم، أو اعتماد سياسات تخفّض معدّل الاستثمار الصيني كحصة من الناتج المحلي الإجمالي. كما أنّ الصين لا تعتمد كلية على تدفق رأس المالي الخارجي لتمويل استثماراتها المحلية، كما كانت عليه الحال لدى «النمور»، بل على العكس من ذلك، فالصين تدير فائضاً دائماً في ميزان المدفوعات، يجعل ادخارها المحلي أكبر حتّى من استثماراتها المحلية. لهذا يمكننا أن نستبعد باطمئنان قدرة الأمريكيين على «قتل» الاقتصاد الصيني، يبقى لدينا الانتحار.
ربّما آمال قيام «الصين» بالانتحار نابعة من تجربة الاتحاد السوفييتي أيام غورباتشوف، حيث تمّ تطوير تيارات داخل الحزب الشيوعي– بقيادة يلتسين قبل فترة طويلة من مغادرته الحزب– تعمل بجد من أجل استعادة الرأسمالية، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة. لكنّ وضع الصين اليوم أبعد ما يكون عن التشبه في الاتحاد السوفييتي في آخر أيامه، فالحزب الشيوعي الصيني، وشي جين بينغ- مقابل غورباتشوف ويلتسين– يقودان الصين نحو تعزيز الاشتراكية في الصين وليس العكس. فهل بعد هذا «تنتحر» الصين اقتصادياً؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1117
آخر تعديل على الخميس, 13 نيسان/أبريل 2023 11:06