البرازيل عند مرحلة الانعطاف التاريخي
بعد تأخير زيارة الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا إلى الصين عدّة مرات لأسباب صحيّة، تمّت الزيارة أخيراً لتجذب الانتباه العالمي بشدّة لكونها نقطة تعبير عملي عن الشعار الذي رفعه لولا منذ عدّة أشهر: «البرازيل عادت». لطالما كانت الفوارق الكبيرة بين الأثرياء والفقراء في البرازيل، واللامركزية وموجات الخصخصة تحت تأثير النيوليبرالية أمثلة سلبية يسوقها اليسار العالمي عموماً، ومع عودة لولا وإعلانه الصريح عن أولوية العلاقات مع الصين على برنامج أعماله بات الحديث عن فرصة البدء بالانقلاب على هذه المشكلات واقعاً. يعلّق الباحث والمحلل البرازيلي من جامعة ساو باولو، ماركو فرنانديز على بعض سمات هذه المرحلة في لقاء مع صحيفة «شبكة المراقبين» الصينية، وتقدّم لكم قاسيون أبرز ما ورد في لقائه.
ترجمة: قاسيون
ما رأيك في أعمال الشغب التي حدثت في البرازيل بعد تولي لولا الرئاسة في كانون الثاني الماضي؟ فقد أظهرت التشظي والانقسام السياسي في البرازيل، فهل سيتمكن لولا من تخطي هذه الانقسامات؟
هذا صحيح: البرازيل تعاني من انقسام وتباين سياسي شديد الخطورة. فبعد وعوده بأن يتخطى نصره في الرئاسة فارق مليون صوت، لم ينتصر إلّا بفارق ضئيل مليوني صوت «البرازيل: قرابة 214 مليون نسمة». لهذا فحكومة لولا ستواجه تحديات كبيرة. لا يزال بولسنارو وأنصاره قادرين على القيام ببعض التحركات، لكنّ تحركاتهم ينقصها التنظيم والقيادة المركزية. ما يجعل هذه التحركات خطيرة أنّها تحوز على دعم قوي جداً بما في ذلك في الجيش وبرجوازية القطاع الزراعي البرازيلي. وهؤلاء لديهم تأثير كبير على وسائل التواصل الاجتماعي لدرجة أنّ 10 إلى 20٪ يتبعونهم بشكل أعمى.
لكن إن تمكّن لولا من أداء مهامه التي يعلن عنها مثل استعادة الاقتصاد والتوظيف والتعليم والرعاية الصحية والإسكان وغيرها، فسيكسب ودّ الكثيرين من مؤيدي بولسنارو، فالسبب الذي دفع الكثيرين للتصويت لبولسنارو لم يكن لأنّ هؤلاء فاشيون أو يمينيون متطرفون، بل لأنّهم يعتقدون بأنّ أداء حكومة بولسنارو الاقتصادي لم يكن سيئاً جداً. لكنّ هؤلاء يشاركون البقيّة في إيمانهم بأنّ البرازيل تحتاج إلى إعادة هيكلة وبناء، وكلّما نجح لولا في إعادة الهيكلة حاز على المزيد من الدعم من مؤيدي المعسكر الآخر. وحتّى ضمن هذه الفترة القصيرة، هناك إجماع على أنّ موقف بولسنارو بات أضعف بعد أعمال الشغب، وموقع لولا اليوم أقوى ممّا كان عليه في كانون الثاني.
يتحدث لولا عن مقاومة الجوع والفقر، ما هي الإجراءات التي يمكنه القيام بها بشكل واقعي، وهل لدى البرازيل خطط للتعاون مع الصين في هذا الشأن؟
قبل البدء بمقاومة الجوع والفقر، يتعيّن على حكومة لولا أن تستعيد القطاع الحكومي المتشظي. دعني أعطيك مثالين لأوضّح وجهة نظري. قامت الحكومة البرازيلية مؤخراً بإعادة إطلاق وزارة التنمية المتدرجة ووزارة التنمية الاجتماعية. هاتان الوزارتان هامتان لحل مشكلات الفقر في البرازيل، ولكن تمّ إغلاقهما من قبل بولسنارو فيما سبق. لذلك سيكون على حكومة لولا أن تعيد بناء التشريعات الخاصة بهما وأن تعيّن موظفين قادرين على إنجاز المهام من الصفر.
أعلنت حكومة لولا بأنّها ستكثّف الدعم «للمزارع صغيرة الحجم» أو ما يسمى بالمزارع العائلية. هذا مهم ويجدر وضع ثقل الحكومة خلفه، فـ 70٪ من الغذاء يتمّ إنتاجه في المزارع الصغيرة، أمّا المزارع الكبيرة فتنتج فول الصويا وقصب السكر وغيرها من المواد الزراعية المعدّة للتصدير. ولهذا على الحكومة أن تبذل أقصى ما تستطيع لدعم هذه المزارع. وبرأيي فإنّ هناك الكثير من المجالات التي يمكن لحكومة لولا أن تتعاون مع الصين فيها لإنجاح هذه الخطوات. لقد بدأت البرازيل بالفعل بمفاوضات مع وزارات صينية من أجل تأمين ماكينات زراعية خاصة بالحقول الصغيرة، ولأنّ الزراعة الصينية تعتمد بدورها على المزارع صغيرة الحجم، فهناك عدد هائل من الماكينات المخصصة لهذا النوع من الزراعة. هذه الميزات المتوفرة في الصين للزراعة الصغيرة ليست متوفرة في البرازيل، ولهذا يمكن للبلدين التعاون بشكل جيّد هنا.
كما أنّ هناك مجالات أخرى يمكن للبرازيل أن تستفيد منها في الصين، وتحديداً في مجال المنتجات الزارعية الإيكولوجية، فقد حققت الصين نجاحات كبيرة في هذا المجال. كمثال، لدى الصين «يوان لونغبينغ: أب الأرز الهجين» والذي حقق اختراقات تاريخية في إنتاج أنواع جديدة من الأرز في الصين التي لا تحتاج إلى أسمدة أو مبيدات كيميائية. يمكن للبرازيل أن تختصر سنوات من التعلّم عبر التعاون مع الصين من أجل التخفيف السريع من مشكلات الجوع.
ماذا عن العالم متعدد الأقطاب؟
لطالما كانت البرازيل تحت قيادة لولا أحد اللاعبين الرئيسيين في السياسة العالمية، فقد التزمت بتعزيز التعددية القطبية منذ بدايات القرن الحالي وجعلتها واحدة من معايير السياسة الخارجية للبلاد. لم ينتظر لولا طويلاً للعب أوراقه هنا، فبعد انسحاب بولسنارو من «سيلاك: مجتمع أمريكا اللاتينية» أعلن عودة البرازيل إليها، وقطع خطوات في التحضر لإعادة إطلاق ميركسور، المنظمة الاقتصادية والتجارية الأكبر في أمريكا اللاتينية. ناهيك عن وضع بريكس وتوقيع اتفاق التبادل التجاري بالعملات المحلية مع الصين. لا شكّ بأنّ البرازيل عادت وبقوة كأحد اللاعبين الهامين في العالم متعدد الأقطاب.
لكنّ ارتباط هذه المبادرات بالرؤساء وليس بالدول يعطي نظرة لعدم استقرارها، المثال الذي ذكرته عن سيلاك، حيث شهد الكثير من الانسحابات وليس البرازيل فقط، وتمّ تعليق اجتماعات قادته ما بين 2018 و2021. ما رأيك؟
إنّ عدم الاستقرار السياسي في أمريكا اللاتينية والكاريبي هي أحد المشكلات الكبيرة، ولهذا كانت السنوات القليلة الماضية قاسية على المنظمات السياسية في المنطقة. وليست هذه المشكلة حاضرة في البرازيل فقط، فلننظر إلى المثال الكولومبي حيث لم يحقق الرئيس اليساري الأول للبلاد غوستاف بيترو النصر سوى بهامش 2٪. وإذا أردنا أن نفهم المسبب الرئيسي لعدم الاستقرار هذا: إنّه التدخل الأمريكي في المنطقة، فالإمبريالية الأمريكية تتدخل في المنطقة منذ عقود أبعد حتّى من هذا القرن. الولايات المتحدة بالتعاون مع النخب المحلية تقف بشراسة ضدّ إنشاء وإكمال المشاريع الوطنية التي تطوّر البلاد.
الأمر الآخر هو الحاجة الماسة لتعزيز التكامل الإقليمي في المنطقة وتحسينه. كمثال: التجارة فيما بين دول أمريكا اللاتينية وبلدان الكاريبي بالكاد تشكّل 15٪ من مجمل تجارة هذه البلدان الخارجية. في هذا السياق قد يكون تعزيز «سيلاك» فكرة جيدة للبدء بخلق منصّة لكامل الأمريكيتين ما عدا الولايات المتحدة وكندا، وذلك في سبيل استبدال «منظمة الدول الأمريكية» التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. المشكلة أنّ «سيلاك» لا تزال تفتقد الاتفاقيات المؤسساتية والأقسام التي تضمن لها آلية عمل فاعلة. ويمكن هنا للحكومات اليسارية اللاتينية أن تدفع هذا العمل قدماً. ومن الواضح أنّه يمكن الاستفادة من الهيئة التي تمّ تشكيلها منذ عدّة سنوات: «الصين-سيلاك» والتي اجتمع قادتها في كانون الثاني الماضي، ويمكن للرئيس لولا أن يلعب دوراً هاماً في جمع الأطراف وتوجيه عملها، فالبرازيل في نهاية المطاف هي الاقتصاد الأكبر في جنوب القارة، وقد وقعت بالفعل عدّة اتفاقيات هامة مع المؤسسات الصينية مثل البنك المركزي الصيني.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1118