نقاط في ملفات التعاون والتنافس التركي الروسي
أوديت الحسين أوديت الحسين

نقاط في ملفات التعاون والتنافس التركي الروسي

ربّما التطوّر الأهمّ في الأزمة السورية في هذه الأيام هو الوساطة الروسية لدفع الاتفاق التركي السوري قدماً. إنّ تفكيك المصاعب التي تقف أمام الوصول إلى حلّ سياسي في سورية هو أمرٌ مهم لروسيا وتركيا لإيجاد سابقة ثابتة لحلّ الكثير من «الملفّات» الأخرى التي تهدد كلاً منهما؛ فالأزمة السوريّة اليوم ليست هي «الملفّ» الوحيد الذي تتقاطع وتتشابك فيه مصلحة الروسي والتركي.

ربما من المفيد المرور هنا على «ملفين» هما ناغورنو كارباخ، لما فيها من التعقيد والانقسام والحاجة لإيجاد حلّ دائم، ومسألة تحوّل تركيا إلى مركز عالمي للغاز بما قد يعيد تشكيل بنية التجارة العالمية في الغاز، وفي الطاقة ككل.

ناغورنو كارباخ

في رقعة الصراع على ناغورنو كارباخ، هناك الكثير من الدول الغربية التي تلعب أدواراً مختلفة، وأغلبها بالتأكيد أدوار تفجيرية للأوضاع لما في ذلك من فائدة لإضعاف روسيا، لكنّ اللاعبين الرئيسيين في أرمينيا وأذربيجان هما روسيا وتركيا. عندما اندلعت الحرب الأخيرة في المنطقة في أواخر 2020، رأت تركيا في ذلك فرصة تاريخية لها كي تمارس المزيد من التأثير في المنطقة المجاورة لها. بينما كانت روسيا تلعب دور المدافع عن نطاق نفوذها التقليدي. حاولت أنقرة أن تطلق في حينه مبادرة دبلوماسية مشابهة لأستانا من أجل تخفيض التصعيد في ناغورنو كارباخ على غرار ما حدث في سورية، وبدأت روسيا بالتعامل مع مبادرة تركيا دون الوصول إلى اتفاق سريع حول الشكل والآليات، وهو الأمر الذي أخذ وقتاً غير قصير للوصول إلى تفاهم حول آلية العمل في هذا الملف المعقد.
بدا في حينه أنّ موسكو تأخذ مسافة من الأطراف المتحاربة وتراقب ما يحدث، ولكن كما شرح في حينه الخبير من مركز «RIAC» ماكسيم سوشكوف، فرغم عدم رغبة روسيا في التدخل مباشرة بالحرب الدائرة، فإنّ عدم التدخل والسماح لأذربيجان التي سحقت بعمليتها العسكرية القوات الأرمينية بالاستمرار واحتلال ستيباناكيرت، عاصمة إقليم ناغورنو كارباخ، سيعني أنّ تركيا ربحت الرهان بانتصار حليفها الأذربيجاني الذي سيكون ممتناً لها للأبد «هذا مرتبط أيضاً بالغاز بشكل أو بآخر»، وسيعني خسارة الروس للدولة العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي CSTO: أرمينيا، وما قد يستتبع ذلك من خسارة الإقليم بأكمله.
ورغم أنّ التحليل السابق ليس رأي الخبير الروسي فحسب، بل ورأي سائد لحد بعيد في وسائل إعلام عديدة، إلا أنّ الوقائع تكشف أن الأمور أشد تعقيداً؛ فالتحليل السابق قائم على افتراض أنّ أرمينيا حليفة لروسيا، وأذربيجان حليفة لأردوغان؛ والحق أنّ لا هذا ولا ذاك صحيح بالعمق؛ فالنفوذ الغربي في كلا الدولتين هائل وخاصة في أرمينيا أكثر منه في أذربيجان، إلا الحد الذي وصل فيه مسؤولون في إرمينيا حد أن الإعلان أن إرمينيا يمكن أن تنفذ إلقاء القبض على الرئيس الروسي في حال دخل الأراضي الأرمنية تماشياً مع توقيع أرمينيا على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية!
بكل الأحوال، ورغم التباينات فقد تمكنت روسيا في 10 تشرين الثاني 2020 من عقد اتفاق ثلاثي أنهى الحرب ونشرت قوات حفظ سلام روسيّة في المنطقة. لم تكن تركيا سعيدة بالنهاية فقد دفعت نحو الانتصار الكامل لأذربيجان، وسعت بعدها لتكون هناك قوات حفظ سلام تركيّة تعمل إلى جانب القوات الروسية. لم يتحقق ما أرادت حيث رفضت روسيا السماح لتركيا بأن تتخطى «الخط الأحمر» في مناطق ما بعد الاتحاد السوفييتي، رغم إدراك موسكو بأنّ تركيا هي لاعب كبير في تلك المنطقة.
اليوم وبعد اشتعال النزاع في أوكرانيا، لا تزال منطقة ناغورنو كارباخ منطقة قابلة للاشتعال، فتفويض بعثة قوات حفظ السلام الروسية ينتهي في عام 2025، وإن لم تكن آفاق الحل واضحة بحلول ذلك الوقت، فقد يندلع الصراع من جديد. اندلاع الصراع من جديد لن يفيد تركيا ولا روسيا، خاصة أنّه قد يعقّد المشهد أكثر. أعلنت إيران بشكل واضح بأنّ أيّ تغيير في الحدود الإيرانية الأرمينية هو خطّ أحمر بالنسبة لطهران، فهكذا تغييرات وفقاً لطهران قد تهدد مصالحها الجيو-إستراتيجية، بما في ذلك ممر شحن «الشمال الجنوب» الذي تدعمه روسيا والهند. هذا التعقيد وإدراك جميع الأطراف له سيدفعهم على الأرجح إلى إيجاد حلول سلمية تمنع تجدد الصراع، فهل يكون الدرس الذي سيستخلصونه من سورية والاتفاقات فيها قادراً على تزويدهم «بسوابق» قابلة للتطبيق؟ علينا أن نشهد ونرى.

تركيا مركز الغاز

تغيّر مشهد الغاز العالمي خلال الأعوام الثلاثة الماضية بشكل هائل تبعاً لإغلاقات كورونا والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وأدّى إلى إعادة هيكلة سوق الغاز العالمي. إنّ منتجي الغاز اليوم في حالة تنافس، وكذلك مستوردوه. أعلنت روسيا في تشرين الأول العام الماضي أنّها تقترح إنشاء مركز عالمي للغاز في تركيا، الأمر الذي تلقته تركيا بسعادة كبيرة لما في ذلك من فرص اقتصادية وسياسية جديدة للتأثير على تجارة الغاز العالمية. لكن قبل الاقتراح الروسي، كان الغاز يصل إلى جورجيا كحلقة وصل لنقله إلى تركيا ثمّ إلى أوروبا. كما أنّ هناك طموح تركي آخر أعلن عنه وزير الخارجية التركي في 16 آذار بأنّ بلاده تدعم زيادة التعاون لإيصال الغاز من دول منظمة «الدول التركية» بربطها مع «خطّ أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول TANAP»، وإيصالها إلى بقيّة العالم.
لكنّ طموح أنقرة في التحوّل إلى مركز غاز عالمي يجب أن يأخذ في الحسبان أمرين: الأول الجانب الأمني اللازم لحماية أنابيب الغاز والبنية التحتية الأخرى المخصصة لها، فبعد تفجير خطي أنابيب السيل الشمالي في بحر البلطيق، بات مهماً إيجاد استقرار وتعاون يمكّن من حماية مشاريع الغاز القائمة، والمشاريع المستقبلية أيضاً. الأمر الآخر أنّ بعض الدول المنتجة للغاز التي تطمح تركيا بربطها بها، سواء كانت تركمانستان التي تملك 7٪، أو أوزبكستان التي تملك 1,13٪، أو كازخستان التي تملك 0,87٪ من احتياطيات الغاز العالمي، تربطها علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة بروسيا تعني عدم دخولها في مشاريع تتعارض مع المصالح الروسية.
هناك أمر آخر يجب وضعه في الحسبان: نقل الغاز من أذربيجان إلى تركيا عبر جورجيا مكلف من الناحية المالية أولاً، وغير كافٍ لسدّ احتياجات مستوردي الغاز في أوروبا، وغير مأمون الجانب لتركيا بسبب ارتباطات جورجيا الشديدة بالغرب من ناحية أخرى، ناهيك عن أنّ انفجاراً محتملاً للصراع بين أذربيجان وأرمينيا على نيغورنو كارباخ قد يهدد خطوط الأنابيب كما حدث في 2020. لكن هناك حلّ لهذا التعقيد: اتفاق مستقر بين أذربيجان وأرمينيا يساهم في تأمين أنابيب الغاز في المنطقة من ناحية، ويفتح المجال لبناء خطوط أنابيب جديدة من أذربيجان تمرّ عبر أرمينيا. إنّ الاقتراح الروسي بأن تصبح تركيا مركزاً عالمياً للغاز يشي بأنّ هناك تفاهمات عامة تنطبق على أكثر من الغاز الروسي إلى تركيا، خاصة أنّ مثل هذا التفاهم سيرفع من قدرات تركيا التفاوضية مع أوروبا، ويسمح بتقليص قدرة الأوروبيين على إنفاذ العقوبات ضدّ الغاز الروسي الذي يحصلون عليه من تركيا، وهو أمر يصبّ في صالح كلّ من روسيا وتركيا.
بالعودة إلى الحديث عن «الملفات» بين الجانبين التركي والروسي، كلّما تمّ حلّ هذه الملفات بشكل تعاوني وثابت، عنى هذا استقرار المصالح الأخرى لهما في أماكن مختلفة في العالم. إنّ وجود «ملفات» كثيرة للتعاون والاتفاق بين تركيا وروسيا يعني بأنّ البلدين سيدفعان بأقصى ما يمكنهما، بالاتفاق مع الأطراف الفاعلة الأخرى، لحلّ الأزمة السورية لتثبيت الاستقرار في العلاقات بينهما، وكما نأمل فإنّ حلّ الأزمة السورية بشكل مستقر قد يكون نموذجاً يحتذى للبناء عليه في التعاون في القضايا والملفّات الأخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1115
آخر تعديل على الإثنين, 27 آذار/مارس 2023 10:44