مؤسسات الحكم الأمريكية مستقلّة «إستراتيجياً» عن بعضها
أليكسي كريفوبالفو أليكسي كريفوبالفو

مؤسسات الحكم الأمريكية مستقلّة «إستراتيجياً» عن بعضها

في عام 2020، أي قبل عام من بدء دراما «هروب الأمريكيين من كابول» بالانكشاف، ثار الجدل المتجدد منذ حرب فيتنام في الأوساط الأكاديمية الأمريكية لمحاولة إيجاد إجابة عن سؤال: كيف يمكن وضع «إستراتيجية» تؤدّي إلى تجنّب النهايات المخزية للتدخلات العسكرية الأمريكية مثل العراق وأفغانستان.

ترجمة: قاسيون

إنّ كلمة «إستراتيجية» جذابة بحيث إنّ قلّة منّا يمكنه الهرب من إغراء التمسّك في لصقها بجميع الأشياء، ليقعوا في نهاية المطاف في شبكة الانتهازية الإيديولوجية والسياسية. وعلى الرغم من أنّ المشكلات التي كان على القوّة العظمى الأمريكية أن تمرّ بها عند مغادرة كابول لم تؤدِّ بوضوح إلى كارثة وطنية، فالإخفاقات «الذريعة» بإعادة تنظيم العالم يعزز بشكل طبيعي ضمن مجتمع الخبراء الأمريكيين ما سمّاه المفكّر الهولندي البارز فرانكلين أنكرسميت: «بصيرة المهزومين».
في تقرير نشرته مؤسسة RAND ذات الثقل في مؤسسات الحكم الأمريكي في عام 2014، تمّ التطرّق إلى الأوضاع المضطربة في العراق وأفغانستان وكيف ولدت زوبعة من المشكلات التي تطلبت حلولاً فورية. لم تترك ضغوط ظروف الحرب مجالاً للتفكير العميق. ومع ذلك، حتى في سلسلة النزاعات العسكرية في بداية القرن الحادي والعشرين. كانت أسوأ المواضع التي لاحظها تقرير RAND:
1. التقليل من أهمية المستوى الإستراتيجي لديناميات الصراع. 2. أخطاء في مرحلة صياغة الأهداف الإستراتيجية. 3. عدم التزامن بين السياسة والإستراتيجية. 4.المبالغة في تقدير قدرات التقنيات العسكرية. 5. عجز الولايات المتحدة عن تحويل الانتصارات العسكرية في ساحة المعركة إلى استقرار لاحق للعراق وأفغانستان. 6. التركيز غير الكافي على المناهج غير العسكرية للاستيطان. 7. آليات غير كافية للتفاعل بين الإدارات وضعف تنسيق جهود الحلفاء.
ليس في تقرير RAND إلّا إعادة للطقوس المبتذلة للمؤسسات الأمريكية: توبيخ القيادة العسكرية الأمريكية لعدم كفاية التعاون مع الجهات الفاعلة المدنية، والمضي قدماً في طرح حلول غير عسكرية لمشكلات يغلب عليها الطابع العسكري.
ثمّ بشكل مناقض لتقرير مؤسسة راند، انتشر كتاب يجمع مقالات أكاديمية متنوعة تحت عنوان: «في الإستراتيجية: تمهيد»، والذي يمثّل وجهة نظر المجموعة الحديثة من ضباط الأركان الأمريكيين الذين يتباهون بمزيج رائع من التدريب العسكري المهني والتعليم الجامعي المرموق. مضى المؤلفون إلى الحديث عن النزاهة التعليمية والمفاهيمية والأحاديث الرمزية الخيالية. ربّما بعض الخيال والذوق الفني الخطابي لن يؤذي المتلقين، لكنّها تبقى مجرّد شاشة مزيفة تحمل اسم «إستراتيجية» في غير مكانها.
لكن لماذا هذا التناقض الصارخ في تشكيل الإستراتيجية الأمريكية، وكيف ينتهي المطاف بمؤسسات الحكم الأمريكية، المدنية والعسكرية، وهي غير قادرة حتّى على استخلاص العبر من إخفاقاتها؟

الولايات المتحدة والكثير من «الإستراتيجيات»

إنّ الإخفاقات بين عامي 2001 و2010 تجبر مواقع السلطة في الولايات المتحدة أن تحاول الإجابة عن الأسئلة الصعبة: لماذا لا يتطور التفوق العسكري والتقني والتكتيكي دائماً إلى ميزة إستراتيجية مستدامة، وبالتالي لا يحقق هدفه السياسي؟ لماذا أمريكا الهائلة اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً وتكنولوجياً غير قادرة على تقديم حلّ يجلب لها دائماً النصر؟ على من يقع اللوم في المقام الأول: جيش خامد؟ أم سياسة غير كفؤة ترسل الجيش للقتال من أجل أهداف من الواضح أنّها لا يمكن تحقيقها بالوسائل التقليدية؟
لكن ما ينساه الجميع في الولايات المتحدة عند محاولة الإجابة وتبرير «الإستراتيجيات» المتبعة أنّ جمع الإجراءات التكتيكية بشكل بسيط لا يعني التوصل إلى استراتيجية، تماماً كما لا يعني المجلد الذي يحوي خططاً قتالية لعمليات عسكرية محددة أنّه مجلّد إستراتيجي. لكن كما أشار المستشار السابق لوزارة الخارجية الأمريكية: إيليوت كوهين في مرّة سابقة، فالعلاقة في الولايات المتحدة بين القيادة المدنية والعسكرية لها سمة: «الحوار غير المتكافئ بين صانعي السياسة سواء المدنيين أو المحترفين العسكريين»، وبهذا المعنى فهو بعيدٌ جداً عن الانسجام، وليس ذلك لأسباب عابرة بل لأسباب هيكلية. فعلى الرغم من كون المؤسسات السياسية والعسكرية الرئيسية في الولايات المتحدة تستمر بالعمل كآلة جيدة التجهيز، إلّا أنّ السياسة التي تتبعها غير قادرة دائماً على توفير محددات واضحة للأهداف. يتشكل لدى المتابع انطباع بأنّ الخبراء الأمريكيين يميلون إلى تصوّر تجزئة مجال موضوع «الإستراتيجية» على أنّه شرّ لا بدّ منه، وليس كمشكلة استوردتها الكثير من دول العالم بشكل أعمى عند تقليد هيكلة مؤسساتها على الطريقة الأمريكية.
تصدر الحكومة الأمريكية بشكل رسمي أهدافها الإستراتيجية والسياسية في عدّة أوراق مرة واحدة. يوافق مجلس لأمن القومي على «إستراتيجية الأمن القومي»، بينما يتم تشكيل «إستراتيجية الدفاع الوطني» التي يفترض أنّها تابعة للأولى في أماكن عميقة في وزارة الدفاع. تقوم هيئة الأركان المشتركة بدورها باستخدام الإستراتيجيتين السابقتين كنقطة انطلاق لوضع الأسس لمسودة «الإستراتيجية العسكرية الوطنية».
لكنّ وفرة الوثائق التي تحمل عنوان «إستراتيجية» لا تساعد كثيراً في تحديد أهدافها على المدى الطويل. تقع إستراتيجيتا «الأمن القومي والدفاع الوطني» في فضاء لا يمكن لمسه، فهي تصوغ الإجابة عن السؤال حول الأهداف الوطنية كما يفسرها العقل الجماعي للآلة السياسية الحزبية الأمريكية، لهذا سيكون من الأصح لو تمّ تصنيفهما كوثائق للسياسة الخارجية والأمنية أكثر منهما «إستراتيجيات» بضوابط تطبيقية. لكن يمكن الافتراض على أقلّ تقدير بأنّ «الإستراتيجية العسكرية الوطنية» تتوافق مع مستوى ديناميكيات الصراع في وقائعه وحقائقه على الأرض.
لكن يظهر هنا أنّ العقيدة الأمريكية غير قادرة على التمييز الجوهري بين ما تعنيه «حملة Campaign» و «عملية كبرى». فرئيس هيئة الأركان المشتركة في النظام الأمريكي ليس لديه صلاحية توجيه الأوامر إلى الأسلحة المتنوعة والخدمات ومجموعة القوات العاملة في المسارح الإقليمية، ومن هنا نفهم أنّ «الإستراتيجية الوطنية العسكرية» ليست أكثر من ورقة استشاريّة، ففي المستوى الأدنى من المسارح الإقليمية للعمليات القتالية، يضع القادة «إستراتيجيات» فردية منفصلة عن السلطات الأعلى.
إنّ تفكيك شيفرة التعريف الأمريكي لما تعنيه «الإستراتيجية» أمر مرهق اليوم. طالما أننا نفترض بأنّ مجال مشكلات الإستراتيجية مجال متجانس، يجب الاعتراف بأنّ الحديث حول «إستراتيجيات» الفضاء والبر وتحت الماء والستراتوسفير وأيّة «استراتيجيات أخرى» هو في واقع الحال غير واقعي. هذه الإستراتيجيات ليست أكثر من أشباح بيروقراطية موجودة فقط في صفحات الوثائق البيروقراطية الرسمية. قدّم إدوارد لوتواك، أحد المؤرخين الأمريكيين البارزين والمنظرين العسكريين ملاحظة مهمة حول هذا الموضوع: «إن كان هناك وجود حقاً لشيء مثل الإستراتيجية البحرية أو الجوية أو النووية بأي معنى غير مزيج من المستويات التكتيكية والفنية والعملياتية ضمن الإستراتيجية العامة نفسها، فهذا يعني أنّها متواجدة كنظير منفصل لإستراتيجية المسرح، والتي تقتصر بعد ذلك على الواقع على الأرض. إنّ الحالة الأولى مستحيلة الوجود، بينما الحالة الثانية لا داعي لوجودها». في الأعمال الأكاديمية، يؤكد المؤلفون على أهميّة الإستراتيجية الواحدة المتماسكة، لكنهم في الممارسة يقومون بتقسيمها إلى طبقات تصبح فيها شبيهة بطبقات الكعك.
لكن كيف تنشأ هذه المفارقة التي تبدو غريبة وغير مفهومة؟ من وجهة نظري يلتزم مجتمع الخبراء الأمريكيين بقواعد المنافسة غير المكتوبة بين الوكالات الكبرى. وفقاً لهذا المنطق، طالما أنّ لدى الجهات المختلفة وثائقها الخاصة التي تحمل التسمية الخيالية «الإستراتيجية»، فإنّ وزارة الدفاع، والمجلس الأمني، وهيئة الأركان العامة المشتركة، وغيرها من الجهات البيروقراطية ذات الثقل ستبقى جهات لا يمكن السيطرة عليها.

بتصرّف عن:
globalaffairs.ru

معلومات إضافية

العدد رقم:
1107
آخر تعديل على الثلاثاء, 31 كانون2/يناير 2023 08:35