الخروج من الأزمة بتدمير المنافسين.. حلفاء وأعداء!
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تتمكن الولايات المتحدة فقط من الحفاظ على جيشها واقتصادها، بل تمكنت من إثراء نفسها بشكل هائل من الحرب. ليس هذا مفاجئاً بالنظر إلى أنّ الحرب حدثت بعيداً جداً عن حدودها ولم يكن عليها تحمّل التبعات التي تحملتها أوروبا أو روسيا جرّاءها، والتي دفعت ثمناً لهزيمة النازية مدناً وأعمالاً وبنى تحتية مدمّرة بالكامل، ومواطنين قتلى بالملايين.
ترجمة: قاسيون
على خلفيّة الدمار والكوارث واسعة النطاق التي أعقبت الحرب، اعتادت أوروبا على الاعتقاد بأنّ الأمريكيين هم الرابحون الرئيسيون، وليس روسيا التي دفعت ثمناً للانتصار على النازية حياة 26,6 مليوناً من مواطنيها ورفعت راية النصر فوق مبنى الرايخستاغ الألماني. تم الترويج لهذا الاعتقاد عن الولايات المتحدة بنشاط من خلال الدعاية الأمريكية المنظمة، لذلك كانت هناك أسطورة مفادها أنّ الولايات المتحدة لديها أقوى جيش، وأقوى اقتصاد، الأمر الذي استخدمته النخب الحاكمة الأمريكية لتعزيز هيمنتها العالمية.
بالرغم من ذلك انفجرت فقاعة التفوق الأمريكي هذه في السنوات الأخيرة. الهزائم العسكرية والسياسية المستمرة لواشنطن «أحدها الفشل الكامل لسياسة الولايات المتحدة وحملتها العسكرية في أفغانستان»، وكذلك تعميق الولايات المتحدة السنوي للأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ساهمت جميعها في تراجع قوة الولايات المتحدة وسطوتها. في ظلّ هذه الظروف فإنّ الطريق الوحيدة أمام واشنطن للبقاء «واقفة على قدميها» هي إيقاف أزمتها المالية والاقتصادية على حساب الدول الأخرى.
في هذا السياق بدأت الولايات المتحدة مؤخراً بفرض عقوباتها بنشاط، ومصادرة حسابات بمليارات الدولارات مملوكة للدول غير المرغوب بها وتجميدها في بنوكها، وبالتالي كسب فوائد هائلة من جعل مصادر المال المحتجزة هذه «تعمل» لصالحها فقط. تشمل قائمة الدول «غير المرغوب بها» أكثر من دزينة من الدول في العقود الثلاثة الماضية وحدها، بما في ذلك دول البلقان «صربيا والجبل الأسود أثناء نزاع البلقان»، وبيلاروسيا حيث تبنت الولايات المتحدة في 2004 «قانون ديمقراطية بيلاروسيا»، وبورما في 1997، وساحل العاج في 2011 حين فرضت عقوبات على الرئيس لورينت باغبو، وكوبا حيث لم تصدر القرار إلا في عام 2000 باستخدام الأموال المجمدة البالغة 120 مليون دولار لدفع «تعويضات لضحايا الإرهاب الكوبي»، وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي تم تمديد العقوبات عليها عدّة مرات منذ 2006، والصومال والسودان وكوريا الشمالية وإيران والعراق وليبيا وأفغانستان والكثير غيرها من الدول. حجزت الولايات المتحدة 330 مليار دولار من الأصول الروسية في 2022، وتواجه أصول روسية بقيمة 30 مليار دولار أخرى احتمال الحجز عليها.
على ذلك، أصبحت إجراءات واشنطن العقابية هي سلاحها الرئيسي لتدمير الشركات الأجنبية التي تتداخل مع الأعمال الأمريكية العدوانية. باستخدام قانون «الممارسات الأجنبية الفاسدة» الذي يتمّ تطبيقه على الشركات من أيّة جنسية لا علاقة لها بالولايات المتحدة، بدأت واشنطن باستخدام مكتب التحقيقات الفيدرالي لاعتقال مدراء هذه الشركات وإرسالهم إلى السجن في الأراضي الأمريكية، حتى لو كان ذلك دون دليل مباشر. ضمن إطار عمل هذا القانون يمكن لاشتباه بسيط أو ملفّق بالرشوة أن يكون كافياً بالنسبة لوزارة العدل الأمريكية كي توجه اتهامات ضدّ رئيس شركة أجنبية وإصدار تفويض بالقبض عليه.
الإقرار من قبل «وكالة الاتصالات الفدرالية FCC» بأنّ منتجات عدد من الشركات الصينية «تحديداً شاومي وهواوي وZTE وهيتيرا وعدد من الشركات الأخرى» قد تمّ منع استيرادها وبيعها بسبب الخطر المزعوم على الأمن الوطني كان مثالاً صارخاً إلى حدّ ما على إقصاء واشنطن للشركات المنافسة من السوق. حتّى أنّ عضواً في الوكالة، من أجل الحصول على الدعم العام الأمريكي، حاول أن يشير زاعماً إلى أنّ الصين تهدد مصالح الولايات المتحدة من خلال القيام بالتجسس عبر هذه الشركات.
المنافسون أيّاً كانوا.. حلفاء أم خصوماً
مع ذلك فإنّ مثل هذا الإرهاب الصريح من جانب الولايات المتحدة أصبح مؤخراً يمارس ليس فقط ضدّ شركة أجنبية محددة. لقد تخلّت الولايات المتحدة عن قوانين «التجارة الحرة»، وقدمت الدعم السياسي لأعمالها مع تجاهل واضح لمصالح دول أخرى تصنّفها كحليفة، لا سيما الاتحاد الأوروبي. على خلفيّة الصراع في أوكرانيا أصبح من الواضح للجميع أنّ أهمّ عامل لتنمية أيّ بلد هو الطاقة، وقد قررت الولايات المتحدة أن تستخدم هذا الجانب للحفاظ على تفوقها على أوروبا. بدأت في القيام بذلك عبر القوانين الجديدة والغاز الصخري وفرض حظر على موارد الطاقة الروسية. كان أحد أشهر قوانين الولايات المتحدة في هذا السياق هو قانون «تخفيض التضخم IRA» والذي بفضله اكتسبت الولايات المتحدة ميزة تنافسية على أوروبا، وخاصة في مجال الطاقة.
بعد إطلاق حملة دعائية معادية للروس حول الحاجة المزعومة لأوروبا إلى الابتعاد عن الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، وتمكنها من إزالة الميزة التنافسية التي كانت لدى السوق الأوروبية، جعلت واشنطن القارة الأوروبية بأكملها معتمدة على الغاز الطبيعي المسال الأمريكي الأغلى ثمناً بكثير من الغاز الطبيعي الروسي، وهذا ما دفع الكثير من الخبراء الغربيين أنفسهم ليؤكدوا مراراً وتكراراً بأنّ هذا الوضع يمثّل بداية لحقبة جديدة من الاستعمار الأمريكي. على سبيل المثال، وقّعت الشركات في أوروبا مؤخراً أكثر من 12 عقداً لتوريد الغاز الطبيعي المسال الأمريكي باهظ الثمن، مع استحقاق ثلثها في عام 2022. جعل هذا الاتحاد الأوروبي يعتمد على الولايات المتحدة وجلب العديد من المخاطر، لا سيما على خلفية الدروس المستفادة من الحكومات الأمريكية الأخيرة التي أظهرت بأنّ صورة الولايات المتحدة كشريك موثوق لأوروبا متدنية بشكل كبير. ازدادت أسعار الغاز في الولايات المتحدة بالفعل أكثر من الضعف منذ بداية العام الماضي، وكذلك أسعار الكهرباء. وإذا لم يكن لدى الولايات المتحدة ما يكفي من الغاز فهي ستحتفظ بأغلبيته لنفسها ما سيعرّض الاتحاد الأوروبي لأزمة تجتاح أوروبا بالفعل نتيجة الإجراءات العدوانية الأمريكية في الأشهر الأخيرة.
من المعروف اليوم أنّ خُمس الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات يتمّ عبر المصنّعين الصينيين. لهذا السبب ومن أجل الحصول على مزايا غير قانونية لنفسها في هذه الصناعة، تجبر واشنطن عملاءها ومورديها في أوروبا على اتبّاع سياسة الولايات المتحدة. كمثال: الشركة الهولندية ASML كانت تتعرّض مؤخراً لضغوط متزايدة من مسؤولي الولايات المتحدة لإجبارها على التوقف عن بيع بعض آلات صناعة الرقاقات للصين. ضمن محاولتها أن تصبح محتكراً عالمياً في مجال تصنيع الرقاقات، شاركت الولايات المتحدة بنشاط في القضاء على المنافسين بهذه الطريقة، ليس فقط في الصين، ولكن أيضاً في الاتحاد الأوروبي. منذ تشرين الأول 2022 حين شرّعت الولايات المتحدة عدداً من قوانين حظر صادرات أشباه الموصلات إلى الصين، أصبح واضحاً أنّ الإدارة الحالية في البيت الأبيض تطبّق سياسة لا رحمة فيها في مجال الرقاقات تحت شعار: «أمريكا أولاً». وفقاً لبعض وسائل الإعلام الألمانية، إن لم تتخذ أوروبا إجراء ما لإيقاف هذه السياسة العدوانية، ستخسر هيمنتها في مجال صناعة أشباه الموصلات... لكنّ هذه الخسارة لن تقتصر على أشباه الموصلات بالتأكيد.
بتصرّف عن:
The United States expects to exit the crisis by destroying its competitors
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1108