براغماتية الطاقة التركية وتحوّل ميزان القوى
في عالم اليوم يتكون أمن أيّ بلد من عناصر مختلفة تلعب فيها الطاقة دوراً حاسماً. تتحدد فعالية أمن الطاقة في أيّ بلد من خلال قدرات موارده وقاعدته العلمية والتكنولوجية وموقعه الجغرافي وإمكانية عقده علاقات إستراتيجية. لا تمتلك تركيا كلّ هذه المكونات على قدم المساواة «ليس لديها كمثال احتياطات كبيرة من النفط والغاز أو تكنولوجيا الطاقة النووية»، لكنّها تقوم إلى حد كبير اليوم بتعويض النقص لديها من خلال موقعها الجغرافي المتميز على مفترق أوراسيا، وإمكانية الوصول إلى أحواض بحار المتوسط ومرمرة وإيجة والأسود، ناهيك عن طرق العبور الرئيسية بين الغرب والشرق والشمال والجنوب.
ترجمة: قاسيون
ربّما أكثر ما يجسّد البراغماتية التركية هي بناء علاقات متبادلة المنفعة مع روسيا التي تمتلك أكثر من 24٪ من احتياطيات الغاز المؤكدة في العالم وأكبر مورد للغاز للأسواق الطبيعية العالمية، ناهيك عن كونها من البلدان الرائدة في صناعة الطاقة النووية في العالم.
رغم أنّها عضو في الناتو منذ 1952، لم تتلقَ تركيا أبداً من حلفائها الغربيين التكنولوجيا اللازمة لبناء محطات الطاقة النووية. كانت الشراكة الراسخة مع روسيا هي الوحيدة التي جعلت من الممكن البدء في بناء أول محطة في مرسين بتكنولوجيا روسية بقيمة 21 مليار دولار. مع بدء تشغيل محطة الطاقة النووية ستحصل تركيا بالفعل على طاقة أرخص، ومزايا مهمة لتطوير الإنتاج المحلي، وفرص تنافسية في السوق الإقليمية، ومجموعة من الخبراء الوطنيين في مجال تشغيل المحطة النووية. وفي المستقبل لا يمكن استبعاد تحويل الذرّة المسالمة إلى ذرّة عسكرية. وبعد تقييم مزايا المشروع النووي الأول، طلبت السلطات التركية من نظيرتها الروسية مشروعاً آخر: بناء محطة ثانية سيكون لها تأثير إيجابي من حيث تعزيز أمن الطاقة في تركيا.
مع عدم وجود موارد نفط وغاز كبيرة، تضطر تركيا إلى استيراد هذه المواد الخام. وإذا ما أخذنا بالاعتبار حجم الاقتصاد التركي، يبلغ استهلاك الغاز في البلاد ما بين 45 – 61 مليار متر مكعب سنوياً، و98٪ من هذا الحجم يتم تأمينه من خلال واردات المواد الخام. موردو الغاز الرئيسيون للسوق التركي هم: روسيا وأذربيجان وإيران والجزائر وقطر ونيجيريا والولايات المتحدة.
تزود روسيا تركيا بالغاز من خلال خطين للأنابيب تحت البحر الأسود: السيل الأزرق، والسيل التركي. في عام 2022 كان حجم الغاز الروسي إلى تركيا أكثر من 31 مليار متر مكعب. أدّى نمو استهلاك الغاز من قبل الصناعة والسكان في البلاد بأنقرة إلى السعي لتنويع وارداتها خوفاً من الاعتماد على مورد مهيمن. زادت تركيا على وجه الخصوص من مشتريات الغاز الأذربيجاني واستثمرت في تطوير البنية التحتية لنقل الغاز وبناء محطات إعادة تحويل الغاز على ساحل المتوسط.
سياسة مستقلة عن الغرب وبراغماتية مطلقة لتركيا
تستفيد تركيا بشكل هائل من موقعها الجغرافي من أجل أن تصبح جسراً لعبور الطاقة. خطوط أنابيب باكو – تبليسي – جيهان، وباكو – تبليسي – أرضروم، والعابرة للأناضول، والعابرة للأدرياتيكي شديدة الأهمية لتركيا. ولم تكن الشراكة مع روسيا في مجال الطاقة أقلّ فاعلية، فبعد خضوع بلغاريا لضغوط أوروبا والولايات المتحدة، والتي هي إضافة إلى خطوط السيل التركي القائم، تمّ التوافق على توسيعه وإضافة عدد من الخطوط الجديدة له.
تحاول تركيا من جهة أخرى أن تعزز أمنها الطاقي عبر البحث بنشاط عن رواسب الغاز في مياهها الوطنية. تحقيقاً لهذه الغاية اشترت تركيا ثلاث سفن مخصصة للتنقيب عن الغاز وعمليات المياه العميقة، وأبرمت عقوداً مع شركات طاقة هامة لهذا الغرض. مكنت البراغماتية التركية_ جنباً إلى جنب مع سياسة الطاقة المستقلة عن الإملاءات والموثوقية الأمريكية_ أنقرة من تنويع وارداتها من الغاز من خلال الغاز الطبيعي المسال «بما في ذلك مشتريات الغاز الفوري»، وتقليل الاعتماد على مورد مهيمن.
في 2020 أعلن الرئيس التركي عن اكتشاف حقل غاز سكاريا الكبير للمياه العميقة بحجم يزيد عن 400 مليار متر مكعب من الغاز. في كانون الأول الماضي 2022 أعلنت السلطات التركية عن اكتشاف حقل غاز بحجم 58 مليار متر مكعب في الجزء الشرقي من جرف البحر الأسود. من المتوقع أن يبدأ إنتاج حقل سكاريا في 2023 وأن يصل بحلول 2030 إلى 8-10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً. لكن تنفيذ المشروع تعيقه قضايا معقدة تتعلق بتركيب أجهزة استخراج الغاز من المياه العميقة، وإنشاء خط أنابيب غاز بطول 200 كم بقطر كبير على أعماق كبيرة من الحقل البحري إلى البر الرئيسي، وإيجاد استثمار بنحو 6 مليارات دولار، وارتفاع تكلفة الحفر على أعماق تزيد عن ألفين متر.
تسبب البحث عن احتياطيات الغاز في المناطق المتنازع عليها غرب قبرص في صيف 2020 في توتير العلاقات اليونانية التركية والجدل مع فرنسا. بطبيعة الحال يمكن أن يؤدي تغيير ميزان الغاز من خلال الإمدادات التركية إلى السوق المحلية لتعزيز استقلالها في مجال الطاقة عن الموردين الخارجيين بشكل كبير. ومع ذلك، فإنّ هذه المهمة بالكاد مجدية بالنظر إلى حقائق الجغرافيا الطبيعية للبلد. تنتهج السلطات التركية سياسة براغماتية ضمن إستراتيجية تتعلق بالتكامل وتشكيل سوق مشتركة للبلدان ذات «الشعوب التركية» في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي، ومعظمها لديها احتياطات كبيرة من الغاز. فتركمانستان لديها 7.2٪ من احتياطات الغاز في العالم، وكازخستان 0.89٪، وأذربيجان 0.83٪، وأوزبكستان 0.74٪، والتي بمجموعها يصل احتياطيها إلى قرابة 10٪ «9.66٪» من إجمالي احتياطات الغاز العالمية.
يمكن القول إنّه من خلال توسيع تركيا لشراكة الطاقة لنقل الغاز الأذربيجاني، وتشغيل وتوسيع خط أنابيب السيل التركي، باتت الظروف مهيأة بالنسبة لها لتصبح ممراً لنقل الغاز إلى أوروبا والعالم. بعد تجربة الروس السيئة مع أوروبا، سواء بالعقوبات التي فرضتها الدول الأوروبية ومنعت جلب الغاز مباشرة إليها، أو السماح بتدمير خطوط الأنابيب القائمة وتخريبها، بات الاقتراح الذي قدمه الرئيس بوتين في أكتوبر الماضي لإنشاء مشروع روسي تركي مشترك عبر بناء مركز للغاز في تركيا، أمراً مفهوماً. إنّ تنفيذ مشروع محورة الغاز إلى تركيا يزيد من دورها وأهميتها ليس فقط كدولة عبور بل أيضاً كمشارك في بيع الغاز الطبيعي للأسواق العالمية، وعلى رأسها أوروبا.
يتطلب تنفيذ مشروع محورة الغاز إلى تركيا وقتاً «2 إلى 3 أعوام على الأقل»، واستثمارات مناسبة واستقراراً سياسياً. لا توجد ضمانات بأنّ الغرب بهيمنة الولايات المتحدة لن يقاطع هذا المشروع ويرفض الاتحاد الأوروبي نتيجة لذلك شراء الغاز الروسي القادم من تركيا. لكن بأيّة حال يعتمد نجاح هذا المشروع على البراغماتية التركية وبقائها حيّة بغضّ النظر عن تبدّل السلطات في تركيا. إنّ تنفيذ مشروع «مركز الغاز التركي» سيدفع الترابط بين تركيا وروسيا إلى مستوى جديد، مستوى يتمّ أخذه بكامل الاعتبار عند تشكيل السياسات الخارجية والعلاقات الاقتصادية للبلدين.
بتصرّف عن:
Turkey’s energy strategy as a means of boosting security and shifting the balance of power
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1105