محاولة الولايات المتحدة خلقَ «ميدان في البرازيل»
أكّد مسؤول سابق في المخابرات المركزية الأمريكية أنّ إعادة سيناريو «ميدان أوكرانيا» الفوضوي في مدينة برازيليا البرازيل في 8 كانون الأول هو عملية مخابراتية أمريكية، وقام بوصلها بمحاولات إشعال عدد من الثورات الملونة حول العالم مؤخراً، والتي قام فيها أنصار مزعومون للرئيس اليميني السابق بولسنارو باقتحام مبنى الكونغرس والمحكمة العليا والقصر الرئاسي، متسلقين الأسطح محطمين النوافذ ومدمرين الأملاك العامة، بما في ذلك لوحات فنية ثمينة، وكلّ ذلك أثناء الدعوة إلى انقلاب عسكري كجزء من تغيير النظام الذي يستهدف الرئيس المنتخب لولا دا سيلفا.
ترجمة: قاسيون
وفقاً لمصادر أمريكية، فالسبب في تنظيم العملية – التي تحمل علامات واضحة على التخطيط المتسرّع – هو أنّ البرازيل مستعدة اليوم لإعادة تأكيد نفسها في الجغرافيا السياسية العالمية جنباً إلى جنب مع دول البريكس: روسيا والهند والصين.
يمكن العودة إلى تقرير أعدّه الخبير الإستراتيجي في بنك كريدي سويس: زولتان بوزسار – وهو مصدر هام في صناعة السياسات الأمريكية – والذي كان يعمل سابقاً في بنك الاحتياطي الفدرالي في نيويورك في 27 كانون الأول بعنوان: «عبء الحرب والسلع». أعلن بوزسار: «نظام العالم متعدد الأقطاب ليس مبنيّاً فقط على الدول الكبرى في مجموعة السبع الكبار، بل على [الكبار السبعة في الشرق]، وهم خمسة كبار في الواقع». أشار إلى تقارير من الجزائر والأرجنتين وإيران، الدول التي تقدمت بالفعل بطلب الانضمام إلى بريكس، والتي تريد أن تخلق «بريكس+» مع اهتمامات بالتوسع أكثر لتشمل السعودية وتركيا ومصر وأفغانستان وإندونيسيا.
إنّ الصقور الجدد الذين وضعوا على رأس المخابرات المركزية الأمريكية، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، يشعرون بالغضب من أنّ «مجموعة الشرق» كما هو الحال في مكوّن «بركس+» المستقبلي، تتحرّك بسرعة خارج مدار الدولار الأمريكي.
بدأ هؤلاء الصقور، ومنهم جون بولتون الذي أعلن مؤخراً اهتمامه بالترشّح لرئاسة الولايات المتحدة، بالتحرّك أيضاً بمطلب إخراج تركيا من الناتو لكونها تعيد موضعة نفسها ضمن تحالفات مؤسسات العالم متعدد الأقطاب. لم يمضِ وقت طويل على إعلان رئيسي الوزراء الروسي والصيني عن دمج مبادرة الحزام والطريق الصينية مع الاتحاد الأوراسي الاقتصادي الذي تقوده روسيا. يعني هذا بأنّ أكبر مشروعي تنمية /تجارة/ اتصال في القرن الحادي والعشرين هي الآن أكثر تعقيداً، وتستمر بالتوسع.
يجهّز هذا المسرح للبدء بتقديم عملة تجارية دولية جدية – وهو الذي تمّ بناؤه من كثير من النواحي على جميع المستويات – تهدف لمنح بديل ثمّ استبدال الدولار الأمريكي. بعيداً عن الجدال الداخلي القائم بين دول بريكس، أحد العوامل الهامة التي تجمع بينها هو فرق التوفيق والمناقشة التي تمّ تشكيلها بين الصين والاتحاد الاقتصادي الأوراسي. عند الانتهاء منها، سيتم تقديم المداولات إلى الدول المعنية وبالطبع إلى مجموعة «بريكس+».
سيقدّم لولا، الذي يتولى مهام رئاسة البرازيل للمرّة الثالثة بغير توالٍ، دفعة هائلة لبريكس+. ففي بداية الألفية كان لولا – إلى جانب الرئيس الروسي والرئيس الصيني السابق – من المخططين الرئيسيين لدور أعمق لبريكس، بما في ذلك التجارة في عملات البلاد الخاصة. إنّ بريكس بوصفها «مجموعة السبع الشرقية» على حدّ تعبير بوزسار، هي أكثر من لعنة بالنسبة للصقور وكذلك بالنسبة للنيوليبراليين.
يتمّ اليوم طرد الولايات المتحدة، ببطء ولكن بثبات، من أوراسيا على نطاق أوسع من خلال الإجراءات المنسقة للشراكة الإستراتيجية بين روسيا والصين. إنّ أوكرانيا عبارة عن «ثقب أسود» يواجه فيه الناتو إذلالاً سيجعل من أفغانستان تبدو مقارنة بها مثل أليس في بلاد العجائب. إنّ الاتحاد الأوروبي الضعيف الذي أجبرته واشنطن على إلغاء العودة عن التصنيع وشراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، لا يملك أيّة موارد رئيسية كي تكون مصدر نهب عالي المستوى.
من الناحية الجيو-اقتصادية، يجعل هذا ممّا يسمى «نصف الكرة الأرضية الغربي» المهيمن عليه من قبل الولايات المتحدة يستهدف بشكل رئيسي الدولة الثرية بالطاقة: فنزويلا، وجيو-سياسياً اللاعب الإقليمي الأبرز: البرازيل. إنّ اللعبة التي أطلقها صقور الولايات المتحدة تهدف لشدّ جميع المكابح لإيقاف التجارة الروسيّة الصينيّة عن التوسع وتكثيف نفوذهما في أمريكا اللاتينية، والتي لا تزال الولايات المتحدة خلافاً للأعراف الدولية واحترام مبادئ السيادة تعتبرها «باحتها الخلفية».
كلّ شيء يدور حول «إستراتيجية التوتير»
يمكن الحصول على أدلّة كثيرة على «ميدان» البرازيلية، كمثال: في القيادة السيبرانية للجيش الأمريكي في فورت غوردون، حيث ليس سراً قيام المخابرات المركزية بتجنيد ونشر المئات من الأصول التابعة لها على طول البرازيل منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية. هؤلاء لا يزالون موالين «لإستراتيجية التوتير» التي يتمّ تكرارها بالمسطرة. تمّ اعتراض الكثير من الاتصالات مع وكالة المخابرات المركزية في فورت غوردون منذ منتصف عام 2022. كان الموضوع الرئيسي حينها هو الترويج وفرض الرواية واسعة الانتشار بأنّ «لولا لا يمكن أن يفوز دون غش».
كان الهدف الرئيسي من عملية المخابرات المركزية هو تشويه سمعة العملية الانتخابية البرازيلية بكل الوسائل، ممّا يمهد الطريق لرواية مجهزة مسبقاً بدأت تتفكك اليوم: أن يهرب الرئيس المهزوم بولسنارو ويلجأ إلى الولايات المتحدة. لقد قام بولسنارو بالفعل باتباع نصيحة ستيف بانون وتهرّب من تنصيب لولا، لكن ذلك تم لأنّه خائف من أنّه قد يواجه الضربة القاضية عاجلاً وليس آجلاً.
كان الجليد على «كعكة ميدان» التي لا معنى لها هو ما حدث يوم الأحد 8 كانون الأول، في محاولة لتكرار ما حدث في 6 يناير 2021 في واشنطن. تشير الطبيعة الهاوية لما حدث في 8 كانون الثاني في برازيليا، بأنّ مخططي وكالة المخابرات المركزية قد ضاعوا في مؤامرتهم. حكومة لولا التي سماها حكومة وحدة وطنية هي كما لاحظ الباحث البرازيلي الحائز على احترام عالمي كوانتوم بيرد: «هناك الكثير من الممثلين في اللعبة والكثير من المصالح المتضاربة. فضمن وزراء لولا نجد بولسنارويين، وريعيين نيوليبراليين، ومتحولين إلى التدخل في المناخ، وممارسين لسياسات الهوية، ومجموعة واسعة من المبتدئين السياسيين والمتسلقين الاجتماعيين. وجميعهم يتماشون جيداً مع المصالح الإمبريالية لواشنطن».
من السيناريوهات المعقولة التي تكون قد حدثت: أن قطاعات قويّة في الجيش البرازيلي، ولاؤها في خدمة مراكز الأبحاث المعتادة للصقور ورأس المال المالي العالمي، لم تتمكن من القيام بانقلاب حقيقي نظراً للرفض الشعبي الهائل، واضطرّت إلى الخمود والاستقرار ضمن ما يمكن تسميته مهزلة ناعمة في أحسن الأحوال.
لا تزال المخابرات المركزية تعمل وفق كتيّبها القديم ذاته. ممّا يحير العقل كم هو سهل تخريب البرازيل، الدولة الرائدة في الجنوب العالمي. ستستمر محاولات تطبيق فقرات الكتيب القديم عن الانقلابات التي تؤدي إلى تغيير الأنظمة، والثورات الملونة التي تعمل العمل ذاته.
لا يزال المستقبل للأسف غير واضح، فالمؤسسة الأمريكية لن تسمح للبرازيل أن تتجه نحو بريكس بدعم من الأعمال بما يتوافق مع إستراتيجية شراكة روسيا- الصين. ومع كلّ تحرّك نحو «مجموعة السبع في الشرق» سيتحرك أبناء آوى في الولايات المتحدة كما تفعل الضباع، وبالمقابل سيتعاظم الصراع وتمضي البرازيل في الخطوات التي ستتخذها لإنهاء سيادة الدولار الأمريكي مع اختفاء السيطرة الإمبريالية على العالم.
بتصرّف عن:
Why the CIA attempted a ‘Maidan Uprising’ in Brazil
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1105