ما الذي يجب أن يحلّ محل الاتحاد الأوروبي.. وهل هناك حاجة لبديل؟
إيريك زوس إيريك زوس

ما الذي يجب أن يحلّ محل الاتحاد الأوروبي.. وهل هناك حاجة لبديل؟

ما الذي يجب أن يحلّ محلّ الاتحاد الأوروبي؟ إن كان هناك حاجة لاستبدال الاتحاد الأوروبي أساساً، فيجب علينا البحث عن السبب الذي يدعو إلى هذا الاستبدال. تاريخ الاتحاد الأوروبي وتطور الدول المنضوية داخله كفيلٌ إذا ما أدمجناه بتطوّر العالم وصعود قوى وهبوط قوى، بالإجابة عن مثل هذا التساؤل. الولايات المتحدة هي التي خلقت الاتحاد الأوروبي – كما سنتطرق إلى ذلك – وذلك بالتعاون مع بريطانيا، بهدف السيطرة على كامل العالم، بدءاً من أوروبا. روسيا، وهي الدولة الأكبر في العالم، كان الهدف النهائي لمريدي الهيمنة هو السيطرة. أدّت خطط مريدي الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية إلى إنشاء حلف الناتو العسكري، وحلف الاتحاد الأوروبي الدبلوماسي، من أجل تعزيز سيطرتهم على أوروبا بحيث يتمكنون من غزو الاتحاد السوفييتي في نهاية المطاف. لكنّ الاتحاد الأوروبي اليوم، بدوله التي تشهد انقسامات في مسائل الاصطفاف الإقليمي والدولي، يمكن أن يصبح أداة أخرى. لسنا هنا أمام سيناريو وحيد، بل أمام تحوّل جذري يجد اليوم بداية ظهوره على السطح. النخب الأوروبية اليوم تنقسم على نفسها، وهذا لا بدّ سيترك أثره في ما هو قادم. فبين من يريد الاستمرار بالاصطفاف إلى جانب كتلة الحرب، وبين من يرى في السلم مصالحه.

ترجمة: قاسيون

الاتحاد السوفييتي تفكك في 1991، ومعه سقطت «تبريرات الاستمرار» بالناتو. لكنّه استمر، واستمرت الدول بإنفاق ترليونات الدولارات من أموال دافعي الضرائب على الأسلحة. أثبت هذا بأنّ مريدي الهيمنة لم يكونوا يواجهون شيوعية السوفييت وحسب، بل أرادوا السيطرة على العالم. وكما أرسل الرئيس الأمريكي بوش الأب بشكل سريّ إلى وزير خارجيته في 24 شباط 1990 بأنّ العملية جارية حتّى السيطرة على جميع أنحاء العالم. لكنّ وسائل الإعلام الشركاتية لم تلحظ الأمر، والعامة الذين يعتمدون على وسائل الإعلام هذه لم يلحظوا الأمر بدورهم. كان كلّ ما يجلب الربح للشركات، وصانعي الأسلحة تحديداً، يجب أن يستمر.
وافق جميع القادة المتحالفين مع الولايات المتحدة على الأمر، فقد كانوا جميعاً محتلين من الولايات المتحدة. لكنّ 24 شباط 1990 كان الوقت الذي كشف هؤلاء القادة بأنّهم مجرّد تابعين لإمبراطورية الولايات المتحدة، وفي هذا الوقت أصيب من تبقى من شعوبهم بخيبة أمل لتيقنهم بأنّهم ليسوا بلاد حرة، وأنّهم مجرّد بيادق في يد الولايات المتحدة.
لم يلحظ بعض هؤلاء القادة أنّ الأمريكيين يرون فيهم مجرّد قادة لمستعمرات حتّى وقتٍ متأخر، ربّما كان ماكرون أحدهم الذي شعر بأنّ فرنسا قد تمّ طعنها في الظهر على إثر استبدال الأمريكيين للعقد الفرنسي-الأسترالي لتسليم الأخيرة 12 غواصة. لكنّ بعض القادة يريدون عمداً البقاء مجرّد قادة لمستعمرات، مثل رئيس الوزراء الأسترالي الذي لم يرد أن يصيبه ما أصاب سلفه الذي حاول البدء بإخراج أستراليا من الدائرة التي يسيطر عليها مريدو الهيمنة.
كان ماكرون يأمل أن يدعمه الاتحاد الأوروبي في مواجهة الولايات المتحدة، لكنّه خذله. الاتحاد الأوروبي، مثل الناتو، أداة حاسمة في يد مريدي الهيمنة. فالولايات المتحدة أرادت التحكم بأوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ليس عسكرياً فقط، بل دبلوماسياً أيضاً. أورد جان مونيه تفاصيل قيام المخابرات المركزية الأمريكية بدعم وتشكيل الاتحاد الأوروبي في كتابه المحارب، والذي لن تجده حتّى في مكتبة «أمازون» العملاقة.
رصدت المخابرات المركزية الأمريكية، عبر «اللجنة الأمريكية لأوروبا متحدة» الكثير من الأموال لتحقيق اتحاد أوروبي، لكنّ الأموال لم تأتِ جميعها من خلال وزارة الخزانة الأمريكية، بل أيضاً من القطّاع الخاص ونادي الأثرياء أمثال جنرال ديناميكس وإكسون موبيل، وكذلك من عصابات الجريمة المنظمة الذين كُشفت دورهم عام 1998. كما كان على المخابرات المركزية أن تستمرّ بحضورها لتنسيق استخدام الأموال الآتية من مصادر متنوعة لها مصالح متعددة، كي تضع الأشخاص «المناسبين» في برلمان الاتحاد الأوربي والمؤسسات المشابهة. الاتحاد الأوروبي عملية من عمليات الحرب الباردة الأمريكية، وعلينا أن ننتظر لنرى إن كان سيستمرّ في عمله الأصلي.
يبدو أنّ وسائل الإعلام الأمريكية، والسياسيين، ومراكز الأبحاث، يتوافقون على أنّ تلك العمليات كانت لازمة في حينه. وكما قال أمبروز إيفانز-بريتشارد، وهو الصحفي الذي غطّى المسألة بإسهاب: «ليس هناك شيء شرير خاص بهذا الأمر، لقد تصرفت الولايات المتحدة بذكاء في سياق الحرب الباردة. كما حققت إعادة الإعمار السياسي لأوروبا نجاحاً مذهلاً».

إرثٌ يعود للحرب العالمية الثانية

لكن، وبرغم ما يقولونه، من الواضح بأنّه لا يمكن لديمقراطية حقيقية أن تعيش في دولة تحكمها وسائل تخدع جماهيرها. ولا يمكن لأيّة دولة ديمقراطية أن تكون إمبراطورية، ولا أن تكون دولة تابعة لإمبراطورية، فهذا يتسق مع ما يطلق عليه تسمية «الدولة العميقة» التي يشدّ الأثرياء فيها الخيوط من وراء الستار. وكلّ من يطلق على هذه البيروقراطيات التابعة اسم ديمقراطية إمّا مغفل أو كاذب.
تاريخ الحرب العالمية الثانية ضروري هنا لفهم العلاقة بين مريدي الهيمنة في معسكر الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا من جهة، وأوروبا خلال أعوام الحرب العالمية الثانية.
بدأت عملية ألمانيا النازية «عملية بارباروسا» لغزو الاتحاد السوفييتي في 22 حزيران 1941، وذلك قبل أن تدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الوقت وحتّى انتهاء الحرب في 8 أيّار 1945، انخرطت أكثر من 58% من الفرق العسكرية الألمانية «وقد وصلت النسبة إلى 86% في أواخر 1942» في المجهود العسكري لاحتلال بلد واحد: الاتحاد السوفييتي. بنهاية الحرب، كان هناك قرابة 90% ممّا تبقى من الفرق الألمانية موجوداً في الاتحاد السوفييتي، ولهذا فمن المنطقي أن نقول بأنّ الاتحاد السوفييتي هو من انتصر في الحرب ضدّ هتلر نيابة عن الحلفاء.
لسنا بحاجة للقول بأنّ اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، وهو الذي تلقى العبء الأكبر والضرر الأكبر من مقاتلة النازيين، قد تمّ استبعاده من خطّة مارشال الأمريكية لإعادة الإعمار، لأنّ خطّة مارشال لم تكن تهدف فقط لإعادة إعمار حلفاء أمريكا الأوروبيين، بل أيضاً – وهو الأمر الذين كان أكثر أهمية بالنسبة للنخب الأمريكية – لاستهداف روسيا وحلفائها ولتكون سلاحاً قوياً ضدّ الاتحاد السوفييتي. كان الهدف متشعباً من أبرز تشعباته تلميع النظام الرأسمالي ومنع قيام شعوب بأوروبا باختيار النموذج السوفييتي، ومن تشعباته الأخرى الاستمرار في بناء إمبراطورية مريدي الهيمنة التي ستتم إدارتها ووضع خططها في واشنطن وحليفتها لندن.

1038-20


في الحقيقة هناك بعض الوثائق التي تشير إلى مدى الوعي الشديد للنخب البريطانية بدورهم كحليف للولايات المتحدة في شمال أوروبا. كتب مايلز كوبلاند، وهو المتقاعد من المخابرات المركزية الأمريكية الذي كان مسؤولاً عن الكثير من العلميات الأمريكية في أوروبا، في كتابه «لعبة الأمم: لا أخلاقية سياسة القوة»: «في ظهيرة يوم بارد وماطر من شهر شباط عام 1947، قبل عام واحد من إنشاء [مركز الألعاب]، اتصل السكرتير الأول في السفارة البريطانية في واشنطن بلوي هندرسون، الأمين المساعد لوزارة الخارجية والمسؤول عن شؤون الشرق الأدنى وإفريقيا... أوصل رسالتين إلى هندرسون الذي كان يعمل أيّام الأسبوع حتّى الثامنة أو التاسعة مساءً...
... كانت الرسالتان هما إخطار رسمي بأنّ الفترة التي حافظت على النظام في معظم أنحاء العالم لأكثر من قرن، قد وصلت إلى نهايتها. وبأنّ حكومة جلالة الملك البريطاني لم تعد قادرة على تحمّل مبلغ 50 مليون دولار المطلوبة لدعم مقاومة الحكومتين اليونانية والتركية للمدّ الشيوعي، سواء عبر حرب الأنصار، أو عبر العمليات العسكرية المباشرة من الاتحاد السوفييتي. وعليه فإمّا أن تملأ حكومة الولايات المتحدة الفجوة، أو ستبقى شاغرة وتُترك للروس. لم يكن السيد هندرسون، وهو الذي جعلته خبرته الدبلوماسية الطويلة ينفذ مهاماً في موسكو وعواصم أخرى كثيرة، بحاجة إلى عطلة نهاية الأسبوع ليدرك بأنّ ما هو على المحكّ هنا أكبر من اليونان وتركيا. الفراغ الذي وقعت هاتان الدولتان فيه كان قد امتدّ إلى جميع دول جنوبي أوروبا التي لم تكن وراء الستار الحديدي بالفعل، وكذلك على طول شمال إفريقيا والشرق الأوسط... مع هذا الإخطار الذي تسلمه السيد هندرسون، كانت الولايات المتحدة أمام خيار أن تصبح قوّة العالم النشطة، أو أن تشهد السوفييت وهم يتحولون إلى خطر على النظام العالمي القائم أكثر ممّا كان النازيون».
في الحقيقة، الاتحاد السوفييتي هو من هزم هتلر، وكان ستالين هو المحرر الحقيقي لأوروبا. ورغم محاولة أثرياء أوروبا اليوم تمويل مئات صفحات الأكاذيب عن أنّ الفاشية والشيوعية شيء واحد، فمعركة موسكو هي بداية هزيمة الألمان النازيين، والتي كانت رمزاً لشجاعة الجنود السوفييت. يمكننا أن نرى في التصويت الذي أجري في البرلمان الأوروبي مدى تبعية هذا البرلمان للأمريكيين. لقد صوتوا على تبني قرار يدين كلاً من ستالين وهتلر بأنّهما بدءا الحرب العالمية الثانية، وهي كذبة شائنة تعبّر عن مدى الخوف والتراجع الذي يصيب المؤسسة الأوروبية.
التاريخ الحقيقي يقول بأنّ ستالين حاول مراراً التحالف مع البريطانيين لهزيمة هتلر، وكلّ مرّة كانوا يقابلونه بالرفض والازدراء. ولهذا كان مضطراً لتوقيع معاهدة مع هتلر تضمن عدم اعتدائه على الاتحاد السوفييتي. ومحاولة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إعادة كتابة التاريخ بما يناسبهم، هي لإظهار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي روسيا، العدو وليس الحليف الذي أنقذ أوروبا.
لكنّ هذا مجرّد تعبير آخر عن الانقسام الأوروبي المتزايد بين من يريد السلم والازدهار، ومن يريد خلق أساطير جديدة تبرر الاصطفاف العسكري إلى جانب الولايات المتحدة، ولو على حساب الأوروبيين.

خلافات حول المستقبل

في 25 حزيران 2021، عنونت صحيفة بوليتيكو خبرها «الاجتماع يكشف عن خلاف صارخ بخصوص رؤية الاتحاد الأوروبي لروسيا»، حيث تحدّث عن صدع رئيسي وكبير يفصل كتلة كارهي روسيا التي تتألف من بولندا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا المدعومة من الولايات المتحدة، مقابل كتلة الحياديين التي تتألف من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، إضافة إلى سويسرا إن كان بالإمكان اعتبارها جزءاً من القرار الأوروبي.
لا ترى كتلة الحياد بأنّ لها مصلحة في معاداة روسيا، وهي لا تريد أن تكون أهدافاً للصواريخ الروسية في حال قررت الولايات المتحدة شنّ غزو خاطف ضدّ روسيا، ولا تريد دعم هجومٍ ضدّ روسيا على غرار ما حاوله هتلر في 1941 وفشل. كتلة كارهي روسيا، والتي اتخذت قرارها باستضافة الصواريخ الأمريكية، ووافقت على أن تكون نقطة انطلاق في أيّ هجوم أمريكي ضدّ روسيا، لن تكون وحدها في خياراتها هذه طالما هي جزء من أوروبا، ويرى أعضاء كتلة الحياد بأنّ قرارات هذه الدول ستعرّض جميع الأوروبيين للخطر.
وعليه، وبالعودة إلى سؤال المقدمة: ما الذي يجب أن يحلّ محلّ الاتحاد الأوروبي، هو سؤال تجيب عنه الدول الأوروبية كلّ بحسب موقفه من حرب عالمية ثالثة تقودها الولايات المتحدة ومعها فيها حلفاؤها البريطانيون وتابعوها في بولندا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا. وعلى العكس من هؤلاء تقف كتلة مناهضة حرب عالمية ثالثة، مؤلفة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا، وربّما بعض أعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا والبرتغال.
استمرار الاتحاد الأوروبي بالشكل الذي صنعه الأمريكيون، دون تغيير أو انهيار أو تعديل، سيعني تحويل أوروبا إلى ساحة معركة رئيسية لحرب عالمية ثالثة، تماماً كما كانت الحال في الحرب العالمية الأولى والثانية. الفرق الوحيد أنّها ستكون ضدّ روسيا هذه المرة، والمرجّح ضدّ الصين أيضاً.
أسوأ حصيلة لإيجاد اتحاد أوروبي حيادي هو خروج الدول الملتزمة حالياً بالولايات المتحدة منه، ولكنّ هذا يعد أيضاً بإيجاد علاقات ازدهار وسلم مع روسيا والصين وجميع دول أوراسيا تقريباً – باستثناء اليابان ربّما في حال استمرّت النخب الحالية بمشاريعها. وعلى النقيض من ذلك، فاستمرار الاتحاد الأوروبي الحال «الذي يُدار بشكل فعلي من واشنطن ولندن، سيكون ضاراً بجميع الأوروبيين. تتزايد حدّة عدم تمكن هاتين النسختين من الاتحاد الأوروبي بالوجود معاً، فالدول الموجودة اليوم تنتهج بشكل متزايد مسارات حادة تجاه أن تكون جزءاً من المستقبل الأوروبي الآسيوي المتنامي، أو أن تكون ساحة للحرب العالمية المقبلة.
الانتخابات التي ستُجرى هذا العام في دول الاتحاد الأوروبي المحايدة مثل ألمانيا وفرنسا ذات أهميّة حاسمة في تحديد ما إذا كانت أوروبا ستكون مرة أخرى ساحة معركة لحرب عالمية، أو إن كانوا قادرين على اتباع أحد المسارات: إسقاط الاتحاد الأوروبي أو تعديله أو إعادة تشكيله بصيغ جديدة كحلول مطروحة، من أجل تجنّب الاصطفاف لجانب الحرب.
الأعداء الحقيقيون لأوروبا هم الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا، ورغم أنّ البعض متشائم حيال استطلاعات الرأي التي تبيّن بأنّ الأوروبيين لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عقود من الدعاية المضللة التي جعلتهم متحيزين ضدّ روسيا والصين، فلا أحد يمكنه التنبؤ بما سيجري، خاصة وأنّ نخباً أوروبية قويّة، تحديداً في ألمانيا، تدرك بأنّ التبعية لأمريكا المتراجعة اليوم قد تكون مدمرة.

بتصرّف عن: What Should Replace the EU

معلومات إضافية

العدد رقم:
1038
آخر تعديل على الإثنين, 11 تشرين1/أكتوير 2021 13:07