مساءلة الواقعيّة الصينيّة بكلّ ما يخطر بالبال: «1: رأسمالية أم اشتراكيّة»
في أواخر القرن العشرين وبداية قرننا، انتشرت قناعة بأنّ الصين هجرت الاشتراكية. لكن في 2018 أشاد الرئيس تشي جينبينغ بأنّ ماركس هو أعظم مفكّر في العصر الحديث، وأكّد مجدداً التزام الصين برؤيته عن الشيوعية، الأمر الذي يرغب الكثيرون من اليسار بالتعاطي معه جديّاً متزامناً مع كمّ هائل من الأسئلة التي تخطر بالبال. تقدّم قاسيون ترجمة تلخيصيّة في جزأين لحوار طويل أجراه ألكسندر نورتون مع كيث لامب: الشيوعي الإسكتلندي الذي يعيش في الصين ويدرّس فيها ويعمل معلقاً في عدد من وسائل الإعلام، محاولاً الإجابة عن بعض هذه الأسئلة.
ترجمة: قاسيون
- هل أنت حرّ في إجراء هذه المقابلة؟ هناك انطباع في الغرب بأنّ اللقاءات مراقبة، ويتم ملاحقة ناقدي الحكومة ومعاقبتهم. هل مسموح لك الحديث عمّا هو غير مسموح الحديث عنه؟
يمكنك التحدث في أيّ شيء تريده، ولم أجد يوماً مشكلة في ذلك. في الحقيقة أرى أحياناً بأنّ هذه الحرية بحدّ ذاتها مشكلة لعدم وجود تصحيح سياسي لازم من الجهات المعنية. أمّا أن تنشر في الصحف فهو أمر يخضع لمعايير رقابية مختلفة. يمكنك إيجاد كافة الأحاديث على الشبكة، الناس يقولون ما يريدون ولا أحد يحذف شيئاً، بينما في الحقيقة تمّ حذف كلامي عدّة مرات في الغرب، مثلما حدث في الغارديان البريطانية. أنا لا أقول بأنّه لا توجد رقابة على الإطلاق، فهناك مواقع محظورة في الصين.
الرقابة هنا لها شكل مختلف، فمثلاً لا يتم منع التحدث في أيّ موضوع، يجري التدقيق على الكيفية والمكان الذي يتم تناوله فيه. كمثال: في الكثير من الجامعات والمدارس، يرد شرط في العقد معهم ينصّ على عدم القيام بعمل تبشيري ديني أو التحدّث عن استقلال تايوان والتيبت. أمّا الحديث خارج الصفوف الدراسية فلا أحد يضع عليه رقابة، حتّى أنني قابلت عدداً كبيراً من الأمريكيين الذين يصرحون علناً بأنّهم موجودون في الصين بهدف تحويل الناس إلى المسيحية.
- ألا يتمّ إرسال هؤلاء إلى معسكرات الاعتقال أو «الإرشاد»؟
لا، بل يتم استقبالهم عادة بشكل جيّد جداً لأنّ الكثير من الصينيين يرغبون في تعلّم الإنكليزية، والمبشرون يميلون ليكونوا صبورين. لكن إذا ما توخينا الدقة، فعندما يوقعون عقداً مع مؤسسة، فسيحوي عادة شرطاً يحظر القيام بأعمال التبشير الديني.
- عادة ما تكون رواية الغربيين كالتالي: «كان ماو مؤمناً بحق، بقدر ستالين أو أكثر منه حتّى، وقد حاول في سنواته الأخيرة القفز إلى نمط شيوعيّة أنقى بلا طبقات، لهذا أطلق الفوضى بثورته الثقافية ليتجنّب ما كان يتوقّعه من فوز أنصار السوق. كان الأمر كارثيّاً، وسيطر أنصار السوق في النهاية وأنشأوا البلد المعاصر المفرط في الرأسمالية، مع إبقاء الحزب الشيوعي في السلطة فقط ليحافظوا على سيطرتهم ويجنبهم مصير يشبه مصير تشاوشيسكو». هل بعض أو كامل هذه الرواية مقبولة في الصين؟ وماهي النسخة الصينية؟
يحكم الصينيون على ماو بأنّ ثلثي ما قام به صحيح، وثلث ما قام به خاطئ. يرون الأخطاء التي ارتكبها جزءاً من العملية الثورية، لكنّهم يميزون الأشياء الجيدة أيضاً مثل القضاء على الأوبئة الرئيسة والأميّة والانتقال إلى التصنيع. لكنّ مسألة الماويّة ضدّ السوق هي جدال خاطئ، فهي تتناسى سياق التاريخ.
ففيما يخص النظام المؤيد للسوق الذي يملكونه اليوم، فهو مجرّد وسيلة لبناء الاقتصاد. لقد حلّ الكثير من المشكلات للمواطنين الصينيين الذين طالبوا بمنتجات للاستهلاك، وأنقذ ملايين البشر من الفقر – وهذا يعاكس مطلقاً الكثير من الدول في العالم النامي التي اتبعت سياسات السوق لأعوام وبقيت غارقة في الفقر. لا يمكنك أن تقول بأنّ الصين تحولت إلى الرأسمالية دون أن يتبادر إلى ذهنك الاختلافات مع بلدان كإندونيسيا والفلبين.
إذا ما وضعنا نصب أعيننا أنّ معظم القيمة الزائدة المنتجة في الصين تذهب خارج البلاد– يمكن أخذ آي-فون كمثال بارز: حيث لا يبقى من الأرباح سوى 3% في الصين– فالمتبقي يستخدم لتطوير البلاد. العديد ممّا تبقى من الشركات المملوكة للدولة صناعية احتكاريّة إلى حدّ كبير، ويتم توجيهها بشكل مباشر نحو التنمية، في حين تمّت خصخصة الصناعات التي تعمل بشكل أفضل في ظروف السوق.
تكمن هنا مشكلة الديمقراطية الليبرالية. رأينا في الغرب قوى رأس المال وهي تسلبنا صناعاتنا الوطنية وأرباحها التي خصخصتها. في بريطانيا كمثال، تمّ إطلاق حملة علاقات عامة هائلة في عهد تاتشر تهدف لإقناع البريطانيين بأنّ ما يجري هو الأمر الصائب، كلّ ذلك أثناء تدمير هذه الصناعات من الداخل. لم يحدث هذا الأمر بشكل غير ديمقراطي، بل تمّ تحقيقه من خلال الديمقراطية الليبرالية.
وعندما تؤدي هذه الديمقراطية إلى وصول اشتراكيين إلى الحكم، كما هو الحال في فنزويلا، تتم معاقبتها من قبل الولايات المتحدة ورأس المال العالمي، والأسوأ هو تمويل ودعم وسائل لإعادة الدكتاتوريين اليمينيين إلى الحكم بعد الإطاحة بالحكومات المنتخبة.
- هل يفهم أو يقبل الجميع ذلك؟ هل هناك غالبية تقول: «حسناً في الستينات قاتلنا ضمن الحرس الأحمر وملكنا السلطة لنسائل كلّ من يملك عقلية رأسمالية، ثمّ بعد ماو وافقنا على أنّ نجعل الصين المكان الأزهد ثمناً لإنتاج أيّ شيء، وذلك بهدف تأمين الموارد لبناء الاشتراكية غداً»؟
إنّهم يفهمون السياسة المتبعة. قاتلوا مرتين في كوريا وفيتنام، لهذا يدركون الوضع الجيوسياسي والتاريخي. وفيما يخص السوق، فهم يقبلونها على أنّها ديناميكية ضرورية. بالنسبة للكثيرين هناك الكثير من الضغط وساعات العمل الطويلة...إلخ، لكن تمّ إقناعهم بها بوصفها حقبة عابرة وليس نهاية التاريخ.
حتّى 2012 كنت نفسي أشكّ في هذا. كمثال: قال دينغ «مهندس الانفتاح الصيني» بأنّهم سيطورون شرق الصين أولاً، ثمّ سينتقلون إلى غربها. لكنّ ذلك لم يحدث، وهو في الحقيقة لم يكن أمراً مربحاً إلى الإطلاق. ولهذا كنت كبقيّة الماركسيين الغربيين الذين ينظرون إلى الصين بوصفها مجرّد دولة نيوليبرالية أخرى.
لكن بدءاً من 2012 «مع أنّهم بدأوا قبل ذلك في الواقع» شهدت تغييرات مذهلة في غرب الصين. أحد الأمثلة التي يمكنني استحضارها هي مدينة ينتشوان في الغرب. كانت فقيرة وقذرة عندما اعتدت الذهاب إليها– أكشاك سكنيّة في كلّ مكان، والناس لم تكن قادرة حتّى على الاستحمام، ولديهم بنية تحتيّة سيئة. في 2012 كانت المدينة قد حوّلت نفسها: لم يعد هناك أحياء فقيرة. أصبح الناس نظيفين، والمكان أصبح نظيفاً. سافرت على طول غرب الصين، وينتشوان ليست حالة خاصة. كان عليّ أن أقرّ بأنّ الحزب الشيوعي الصيني وفّى بوعده.
- قلت: «تمّ إقناعهم بها بوصفها حقبة عابرة وليس نهاية التاريخ»، كيف تمّ إقناعهم بذلك؟
أهدافهم الاشتراكية ليست سراً، فهم يتعلمونها في كلّ مكان: في كتبهم المدرسية وفي الصحف...إلخ، ويتم نقاشها علناً. يتم منحهم مواعيد دقيقة مع كلّ خطّة خمسية. كان 2020 هو العام الذي وضعوه للقضاء على الفقر المدقع. لو كنت سألتني في 2012 إن كان هذا سيتم، لكنت أجبتك بالنفي. لكنّهم حققوه قبل شهر من ميعاد الاستحقاق. لهذا عندما يقولون بأنّهم وضعوا 2030 موعداً لتحقيق مجتمع متوسط الثراء، مثل البرتغال أو اليونان، فعليك أن تصدقهم.
كان القضاء على الفقر في 2020 أمراً كبيراً واستغرق عملاً كثيراً. تمّ إرسال عدد من أصدقائي الذين عملت معهم في التدريس وكانوا ينتمون إلى كوادر الحزب إلى الأرياف للمساعدة. تمّ إرسال الكوادر إلى القرى للبحث عن الأسباب واقتراح الطرق للتعامل مع الفقر. في الحقيقة خصّ هذا الأمر الفلاحين أكثر ممّا تعلّق بالعمّال. قد لا يكون عامل المصنع ثرياً، لكنّه ليس واقعاً في الفقر المدقع كذلك. بينما في 2030 سيكون الأمر أشبه ببناء أسس لدولة الرفاه.
- ما لذي تعرفه عن المسألة اليوغورية؟
قبل 2016، كان اليوغوريون الوحيدين الذين قابلتهم هم باعة جوالون وتلامذتي. كان الباعة الجوالون غير سعيدين بالحزب الشيوعي الصيني وعبّروا عن رغباتهم بالاستقلال. كانوا دائماً شديدي الفقر ومن شمالي تشينغيانغ.
بدءاً من 2014 بات هناك فجأة عددٌ كبير من التلاميذ اليوغور الذين وصلوا للجامعة وباتوا تلامذتي. تحدثت معهم عن الوضع في تشينغيانغ، ولمفاجأتي لم يكونوا يشاطرون الباعة الجوالين آراءهم. كانوا يوغور بشكل مميّز، لديهم لغتهم الخاصة وفخورون جداً بانتمائهم، لكنّهم كانوا مؤيدين للصين.
قادني هذا في 2016 للرغبة بالاستطلاع بنفسي. وجدت هناك مجتمعاً منقسماً. زرت العديد من القرى، وتفاجأت بالعدد الكبير من اليوغور الذين يدعمون الدولة الصينية.
قمت بجولة مع سائق تاكسي في تشينغيانغ، وكان مناهضاً بشكل كبير للصينيين من عرق الهان. سألته عن الشرطة، فأجابني بأنّ جميعهم من اليوغور، لكنّه رأى بأنّهم كلاب للهان وبأنّهم سيسجنونك إذا ما تجرأت على رفع علم الاستقلال. بدا غريباً بالنسبة لي أن يكون هناك شرطة من اليوغور– تخيّل مثلاً بأنّ الشرطة في إيرلندا الشمالية أثناء التوترات كانوا من الكاثوليك! وفي جولة مع سائق تاكسي آخر من اليوغور، اعتبر أني أهنته عندما أطريت على لغته الماندارين، فقد اعتبرها تقليلاً من شأنه. تحدثت مع فتيات من اليوغور اعتبروا بأنّ كونهم جزءاً من الدولة الصينية يقويهم، فهم يرون بأنّ الدفع نحو استقلال تشينغيانغ ذو طابع إسلامي، وهنّ لا يردن أن تصبح بلدهن إسلامية.
المشكلة المعقدة هناك أنّ اليوغور في أقصى غرب تشينغيانع شعروا بأنّه قد تمّ هجرهم، لكنني أرى بأنّ الكثير من التنمية تحدث هناك اليوم. هناك بالتأكيد توتر عرقي، لكنّه أمر شديد التعقيد. كما أنّ هناك الهجمات الإرهابية وأبرزها في محطة كونمينغ للقطارات. حدثني صديقي وهو من الهان، بأنّ الكثيرين من الهان قد تجمعوا وبنيتهم مهاجمة اليوغور انتقاماً من التفجيرات، لولا تدخّل الجيش وإغلاق المنطقة.
الادعاءات الغربية بأنّ هناك 3 ملايين من أصل 10 ملايين يوغور هم الموجودون في الصين، أي كامل البالغين من اليوغور، موجودون في ما سموه معسكرات الاعتقال، سخيفة. لو كان هذه الحال لرأينا أزمة لاجئين على الحدود الصينية، وليس أعلى نسب ولادات.
إنّ الذين ينساقون وراء الآلة الدعائية الغربية يجب عليهم أن يتذكروا بأنّ ذات الآلة كانت مسؤولة عن إخفاء جرائم الحرب الإمبريالية. يمكننا أخذ مثال «الناشط اليوغوري» الأمريكي روشان عبّاس، والذي تبيّن بأنّه كان يعمل مترجماً لعمليات استجواب اليوغور في سجون غوانتانمو العسكرية غير الرسمية الأمريكية.
لكن عندما نقول بأنّه لا يوجد لا معسكرات اعتقال ولا إبادة جماعية في تشينغيانغ، فهذا لا يعني بأنّنا نقول بأنّ الأمور «ورديّة» ولا يوجد مشاكل. تمّ وضع قرابة 100 ألف شخص في مراكز إعادة التأهيل بعد اضطلاعهم بأعمال متطرفة وإرهابية، لتعليمهم مهارات ووظائف حياتية. والآن علينا أن نسأل: هل هذا مثالي؟ ربّما لا، لكنّه بالتأكيد أفضل من الحلّ الغربي للتطرّف والإرهاب الذي قاد إلى ملايين القتلى، ولم يؤدِّ إلّا إلى مزيد من التطرّف والهجمات الإرهابية.
كما أنّ علينا عند التحدث عن هذه المراكز أن نذكر بأنّ الهجمات الإرهابيّة التي حدثت في تشينغيانغ كانت أسوأ من أيّ شيء اختبره الغرب. لكنّ هناك عدد من القوى في الغرب تودّ تحويل المنطقة إلى عراق أو أفغانستان أخرى، وهم يريدون شيطنة الصين لتبرير أيّ أعمال عدوانية مستقبلية.
- تمّت مؤخراً إذاعة وثائقي مكثّف الدعاية على شبكة نتفليكس بعنوان: «المصنع الأمريكي»، يتحدث عن شركة صينية استولت على مصنع للزجاج في ديترويت، وكانت مشتركة في الأجور المنخفضة وممارسات العمالة السيئة وإفشال العمل النقابي. يعرض الفلم إحضار مدراء المصنع الأمريكي إلى الشركة الأم في الصين لتدريبهم، حيث أثارت إعجابهم أنظمة العمل لساعات طويلة والعطل القليلة وظروف العمل السيئة. كان شقيق الملياردير الرأسمالي الذي يملك المصنعين هو رئيس الفرع المحلي للحزب الشيوعي. عندما يقوم نظام بشكل نشط بدعم وتعزيز استغلال العمّال على أساس عالمي، هل يمكن حقاً تسميته اشتراكياً؟
هذا سؤال ممتاز، ويضيء على التناقضات الموجودة في الصين. أولاً: يوجد في الصين الكثير من القوانين الجيدة لصالح العمّال، ولكنّها لا تطبق دوماً بالصرامة اللازمة. يمكن رؤية بعض هذه الممارسات العمالية السيئة بوصفها طريقة لتعلّم تفاديها، بينما علينا النظر إلى أخرى ضمن منطق مراكمة رأس المال. أمّا بالنسبة لإفشال العمل النقابي، فلا وجود لنقابات مستقلة في الصين.
لكن إذا ما تفحصنا الأمر عن قرب، فهذه الممارسات هي التي جذبت رأس المال الأجنبي الذي أحضر بدوره التكنولوجيا التي بنيت التنمية الصينية عليها. أنا هنا لا أدافع عن مجمل العملية، وقد يبدو ما سأقوله قاسياً: أنا أفضل أن أرى عمّالاً يعرقون لبناء الاشتراكية، على أن أراهم يموتون في ميادين المعارك ومن الفقر.
وبالنسبة للاشتراكية، فلست أظنّ بأننا قادرون على تسميتها بالاشتراكية الآن. غير أنّ الصينيين يدركون هذا التناقض أيضاً، فهم لا يدّعون بأنّهم في طور الاشتراكية أيضاً. إنّهم يسمونها «المرحلة الأولى من الاشتراكية»: أي أسواق تقودها الدولة لبناء القاعدة الصناعية والتكنولوجيّة. لكن بالرغم من كلّ ذلك، من المؤكد أنّ ساعات العمل الطويلة والاستغلالية، لا تقارن بالأيام الأولى للتصنيع في الغرب. وبكل تأكيد القوى العاملة الصينية أفضل حالاً بكثير من أترابهم، في الهند كمثال.
لكن علينا الإقرار بأنّ مثل هذه الممارسات يمكنها أن تقوّض كلّ من النوايا الحسنة للعمّال، وقيم الاشتراكية، وحتّى الثورة. ذهب ماو أولاً إلى سياسة «الديمقراطية الجديدة»، والتي تشبه سياسة النيب التي اتبعها لينين. إنّها عودة إلى نظرية بناء الاشتراكية بخطوتين، وعندما تكون البلاد متطورة كفاية يصبح هذا غير ضروري. يشعر الحزب الشيوعي الصيني بأنّه اكتشف بالفعل طرقاً أخرى أيضاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1025