الصناعات العسكرية الأمريكية وتراجعها المُنتظر في الخليج العربي
لطالما كانت العلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها مربحة لمجمع الصناعات العسكري الأمريكي بشكل يفوق التصوّر، وهذا الربح سببٌ رئيسيّ في إشعال أو إدامة الكثير من الحروب والنزاعات العسكرية حول العالم. والدليل الحيّ على ذلك، الحرب في اليمن التي تستخدم فيها السعودية وبقية دول «التحالف» أسلحة ودعماً أمريكياً هائلاً يجعل البعض يتساءل بشكل مشروع: أليس مجمع الصناعات العسكرية الأمريكي، والحكومة الأمريكية كممثل له، وراء إعاقة وعدم السماح بالتوصل إلى حلّ سياسي في اليمن سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؟
عدد من الكتاب
تعريب وإعداد: عروة درويش
ورغم أنّ هذا السؤال مشروع بالنظر إلى مقدار الأرباح التي تحققها الشركات الأمريكية من حرب اليمن، فموضوع توريد السلاح والدعم الفني لا يرتبط بتحقيق الأرباح فقط، بل يخضع لشروط استراتيجية وجيوسياسية تجعلنا نقيّم الأمر على نحو آخر. فرغم الممانعة الهائلة لمجمع الصناعات العسكرية الأمريكي لوضع حدود لتوريد الأسلحة للسعودية، واستخدامها مجموعات الضغط لأقصى حد، يبدو بأنّ «الافتراق» المستمر والمتزايد بين السياسات السعودية والأمريكية تجاه القضايا المتنوعة، يجعل من مهمة إدامة توريد الأسلحة الأمريكية بالشكل الذي نعرفه أمراً شبه مستحيل. ما يعني في المحصلة، التراجع في النهج العدواني في اليمن وغيرها من ساحات الصراع، وانفتاح الأفق بشكل أوسع للتوصّل لحلول سياسية، الأمر الذي يعدّ من سمات نشوء وتثبت النظام العالمي الجديد.
مستثمرو الحرب واليمن
زارت بريانكا موتابارثي، وهي باحثة في مجال حقوق الإنسان، السوق في قرية المصطبة اليمنية في آذار 2016، وشهدت التفجيرات والأبنية المدمرة والحطام ومزقات الثياب وأشلاء الأجساد البشرية. قبل أسبوعين من وصولها، قامت طائرة حربية بقصف المكان بصاروخين حربيين موجهين. ذكر تقرير مراقب حقوق الإنسان بأنّ الصواريخ ضربت المكان وقتلت 97 مدنياً بينهم 25 طفلاً. فكما ذكر التقرير: كانت أشلاء الناس في كلّ مكان، وكان من بقي حياً يحاول إنقاذ الجرحى. ولكن بعد أقل من خمس دقائق من الضربة الأولى، استتبعتها ثانية، فقتلت الجرحى ومن كان ينقذهم. وبقيت الطائرة تدور في السماء.
تقصف قوات «التحالف» بقيادة السعودية، وبدعم كامل من الولايات المتحدة، اليمن منذ عام 2015. وضعت الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما وخلفه ترامب كامل القدرة العسكرية الأمريكية في هذه الحرب. دمرت هذه الحرب البنية التحتية لليمن، ودمرت بشكل كلي أو عطبت بشكل شديد أكثر من نصف منشآت اليمن الصحية، وقتلت 8350 يمنياً، وجرحت 9500 آخرين، وشردت 3,3 مليون إنسان، وخلقت كارثة إنسانية هددت ملايين البشر مع تفشي الكوليرا والأوبئة على طول البلاد.
إذا ما ابتعدنا عن الأجندة الدعائية التي يتناقلها الإعلام السائد عن إيقاف الحوثيين والخطر الإيراني، فالبحث المباشر عن أحد المستفيدين الأكبر من إدامة هذه الحرب سيوصلنا لإجابة: مصنعو وتجار الأسلحة الأمريكيون هم أكبر المستفيدين، وهم من تعاظمت ثرواتهم على امتداد الحرب، ويأملون بالاستمرار بذلك إلى ما لانهاية.
عند قيام خبراء المقذوفات من معدي تقرير حقوق الإنسان في مصطبة بفحص شظايا القذائف، تبين أنّها قذائف MK-84 التي تبلغ وزن الواحدة منها طناً، والمصنعة من قبل شركة جنرال ديناميك. وفقاً لـتقرير حديث، جنرال ديناميك سادس أكثر شركة سلاح تحقيقاً للربح في العالم. استخدمت إحدى القذائف مجموعة توجيه عبر الأقمار الصناعية تابعة لشركة بوينغ ومقرها شيكاغو، وهي ثاني أكثر شركات الأسلحة ربحاً في العالم. بينما لدى القذيفة الأخرى نظام توجيه ذاتي، مصنوع من شركة رايثيون ثالث أكبر شركة سلاح في العالم، أو لوكهيد مارتن متعاقد السلاح الأول في العالم. في العقد الماضي وحده، صادقت وزارة الخارجية الأمريكية على عقود تسليح أبرمتها هذه الشركات الأربع مع السعودية بقيمة 30,1 مليار دولار.
حرب اليمن مربحة بشكل هائل لشركات جنرال ديناميك وبوينغ ورايثيون بالتحديد، حيث تلقت هذه الشركات ملايين الدولارات من السعودية في صفقات الأسلحة. قامت هذه الشركات الثلاث بتزويد حاملي الأسهم فيها بتقارير تحوي إحصاءات العمل مع السعودية. منذ بدء الحرب على اليمن في آذار 2015، ارتفع ثمن أسهم جنرال ديناميك من 135 دولار إلى 169 دولار للسهم الواحد، ورايثيون من 108 إلى أكثر من 180 دولار، وبوينغ من حوالي 150 إلى 360 دولار.
عند سؤالنا للشركات الأربع عن الأمر، رفضت لوكهيد مارتن تزويدنا بأيّ تعليق، بينما علقت شركة بوينغ: «نتبع الإرشادات الموضوعة من الحكومة الأمريكية»، وقالت رايثيون: «عليك الاتصال بحكومة الولايات المتحدة»، ولم تجب جنرال ديناميك على الاتصالات. كما رفضت وزارة الخارجية الأمريكية بدورها التعليق على هذه الأرقام.
تعمل وزارة الخارجية الأمريكية بشكل وثيق مع هذه الشركات. وفقاً للقانون الأمريكي، يجب أن يوافق مكتب الشؤون العسكرية- السياسية في الوزارة على أيّة صفقة سلاح تقوم بها الشركات الأمريكية مع الحكومات الأجنبية. ويحظر القانون الأمريكي بيع الأسلحة للبلدان التي تقتل المدنيين دون تمييز، الأمر الذي تقوم به قوات «التحالف» التي تقصف اليمن بشكل اعتيادي. لكنّ إيقاف مبيعات الأسلحة هذه سيكون مكلفاً جداً لصناعة الأسلحة الأمريكية.
قرابين من المدنيين
وفقاً لتقرير مشترك بين لجنة حقوق الإنسان وصحيفة «إن ذات تايم» الأمريكية، فالتحالف الذي يضم السعودية والإمارات بشكل رئيسي قد استخدم الأسلحة الأمريكية لقتل 434 مدني وجرح ما لا يقل عن 1004 مدني آخر في الهجمات المستمرة: «معظم الأهداف التي تمّ رصدها في الهجمات تبدو غير مشروعة ومدنية... تمّ ضرب المصانع والمزارع بقنابل عنقودية. ولا يقتصر الأمر على قتل الأطفال من المدنيين، بل تدمير وسائل عيش البقية والمساهمة في خلق وضع إنساني كارثي... بعد أن شهدنا كلّ هذا الهجوم على الأهداف المدنية، لم يعد بإمكان الحكومة الأمريكية أن تقول بأنّ الأسلحة الأمريكية تستخدم بشكل شرعي، وبضربات ذات دقة عالية لتفادي وقوع ضحايا من المدنيين».
وفقاً لقانون المساعدة الخارجية الأمريكي الصادر في 1961، فليس لحكومة الولايات المتحدة أن تخوّل صادرات السلاح إلى دولة تنخرط في «خروقٍ شديدة لحقوق الإنسان المعترف بها دولياً». وقانون السيطرة على صادرات السلاح الأمريكي الصادر في 1976 يشترط استخدام السلاح المصدّر فقط في أغراض دفاعية: «عندما تستخدم دولة أسلحة ذات مصدر أمريكي في غير أغراض الدفاع المشروع عن النفس، على الإدارة أن توقف أيّة مبيعات تالية، ما لم يصدر الكونغرس بأنّ هذه الصادرات تستخدم لدواعي الحفاظ الشديد على الأمن القومي».
وخلال العقد الماضي فقط، بلغت عقود الطلبيات بين الشركات الأمريكية والسعودية وحدها، دون بقية دول الخليج العربي، على أسلحة هجومية، وليس دفاعية، ما قيمته 109,3 مليار دولار، وذلك فقاً لبيانات وزارة الدفاع الأمريكية. تبعاً لتحليل الوثائق الذي شرع به معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، يتمّ استخدام ترسانة الأسلحة اليوم بالكامل ضدّ اليمن.
ووفقاً لذات التقرير، فقد طلبت السعودية منذ عام 2009 أكثر من 27 ألف صاروخ بقيمة لا تقلّ عن 1,8 مليار دولار من شركة رايثيون وحدها، وقرابة 6 آلاف قذيفة موجهة من شركة بوينغ بقيمة 332 مليون دولار، و1300 ذخيرة عنقودية من شركة تكسترون بقيمة 641 مليون دولار. ومن بين طلبيات رايثيون، ما قيمته 650 مليار دولار تمّ بعد الحرب على اليمن، ومثلها ما قيمته 103 مليون دولار من طلبيات بوينغ. وقد عقدت السعودية بعد الحرب في اليمن صفقات بقيمة 5,5 مليار دولار مع متعاقدين أمريكيين مختلفين لصيانة الأسلحة والعتاد والدعم وتدريب الكوادر.
لكن يدفعنا هذا للتفكير بمحاولات وضع قيود لتوريد الأسلحة للسعودية في الداخل الأمريكي، أو حتى بمنعها جملة وتفصيلاً وسحب القوات العسكرية من هناك. إن كان هذا القطّاع مربحاً لهذا الحد، وإن كان يؤمن 500 ألف وظيفة كما قال ترامب وهو يعقد الصفقات مع السعودية، فلماذا يريد أحدٌ من السياسيين تبني إيقافه؟ ولماذا علت هذه الصيحات في الأعوام الأخيرة؟
داخلٌ أمريكي مضطرب
إنّ العلاقات السعودية الأمريكية تعود في جذورها إلى اكتشاف النفط في المملكة السعودية في عام 1938، وعقد الرئيس الأمريكي فرانكلين لاتفاق «الأمن مقابل الطاقة» مع الملكية السعودية. ويعوّل كثيرون اليوم أن تستمرّ صفقات السلاح هذه بدواعي التحالف الجيوسياسي ضدّ إيران.
لكنّ التناقض المتزايد بين النخب الحاكمة الأمريكية التي تعيش تراجعاً في قدرة الولايات المتحدة على الهيمنة العالمية، ينعكس بشكل تدريجي على قرارات الإدارة الأمريكية في تسليح الدول حول العالم والتواجد العسكري فيها، ومنها الدول المشاركة في حرب اليمن وعلى رأسها السعودية والإمارات المتحدة. كما عمّق البدء «بالتمرّد السعودي» على مقرري السياسات الأمريكيين هذا الأمر.
فإذا ما اعتبرنا عام 2016 بداية جيدة لتتبع الأمر، فقد ازدادت صفقات بيع الأسلحة في زمن إدارة أوباما للسعودية، فوصلت لما قيمته 115 مليار دولار، وهي الأعلى على مرّ التاريخ. وكما قال وليام هارتونغ، مدير مركز السياسات الدولي للأمن والتسلح، فإنّ صادرات الأسلحة هذه كانت ذات بعد رمزي أكثر منه تجاري.
ورغم أنّ حرب اليمن قد بدأت منذ عام 2015 واستمرّ السلاح الأمريكي بحصد أرواح اليمنيين المدنيين، فلم تكن الاحتجاجات لوقف التسليح الأمريكي للسعودية ذات شعبية أو قوّة، وكان دعم إدارة أوباما للحرب اليمنية ثابتاً. لكن بدأت أصوات الاحتجاج تعلو في النصف الثاني من 2016، ويرتبط ذلك بالتقارب السعودي الروسي وبالتناقضات المتزايدة بين صانعي السياسة الأمريكيين.
في كانون الثاني 2016، أي بعد شهرين من الغارة العسكرية على صنعاء حيث قتل 100 مدني، ألغت إدارة أوباما توريد 16 ألف قذيفة موجهة من شركة رايثيون للسعودية، الصفقة التي بلغت قيمتها 350 مليون دولار. وكانت قد ألغت في شهر أيار صفقة أصغر بتوريد 400 قنبلة عنقودية من شركة تكسترون. لكنّ هذه الصفقات لم تكن سوى غيض من فيض لم يتوقف.
وعندما وصلت إدارة ترامب للسلطة في كانون الثاني 2017، بدأ الصراع الداخلي الأمريكي يشتد، وبدأ مجمع الصناعات العسكرية بالضغط. فقام ترامب بإلغاء المنع الذي فرضه أوباما على صفقة رايثيون بقيمة 350 مليون دولار. وقام بزيارة السعودية ووقع معها الموافقة على صفقات سلاح بقيمة 110 مليار دولار، مع خيار زيادة التسليح ليصل إلى إجمالي 350 مليار في العقد التالي. وقد افتتحت شركة رايثيون فرعاً لها في السعودية في 20 أيار 2017.
ولأنّ تقسيم «ديمقراطيين ضدّ جمهوريين» الأمريكي لا يمكن أن يعبر عن الشقاق الحقيقي لدى النخب الأمريكية، فقد حاول السيناتور الجمهوري راند بول في أيار 2017 أن يوقف صفقة توريد قنابل بقيمة 500 مليون دولار للسعودية. لكنّ خمسة سيناتورات ديمقراطيين أبرزهم جو دونلي، وقفوا في وجه مشروع راند بول وضمنوا عدم إيقاف الصفقة.
السعوديون العصاة
في تشرين الأول 2017 زار الملك السعودي موسكو في زيارة امتدت لثلاثة أيام في حدث وصف بأنّه «تاريخي»، ومن ضمن الاتفاقات التي تمّ التوقيع عليها برعاية رجل السعودية القوي محمد بن سلمان، قيام روسيا بتوريد أنظمة دفاعية متقدمة مثل إس400 وكورنت وراجمة الصواريخ توس-1 وراجمة القنابل ايه-جي-اس-3 وسلاح ايه-كيه-103. والأهم من صفقات توريد السلاح، هي صفقات نقل التقنية وتوطين الصناعة الروسية في السعودية، والتي من أهمها: نقل تقنية صناعة أنظمة كورنت المضادة للدبابات، وأجزاء من أنظمة الدفاع الجوي اس-400.
أشعلت هذه الزيارة والاتفاقيات الموقعة، من سلاح وغيره، الكثير من النقاش والجدل الإعلامي، بين متفائل ومتشائم بما يخص مستقبل العلاقات بين السعودية، ومعها الإمارات والبحرين من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة. لكنّ الأكيد أن النصف الثاني من عام 2018 بدأ يشهد نقلة نوعية في زيادة الهجوم الداخلي الأمريكي على العلاقات الأمريكية- السعودية، وعلى رأسها العلاقات الأمنية والعسكرية. ففي تشرين الثاني 2018 أنهت الولايات المتحدة اتفاق تزويد طائرات التحالف بالوقود في الجو بعد تهديد الكونغرس، بمجلسيه، بإقرار قانونٍ بذلك، الأمر الذي تحقق لاحقاً.
حمل عام 2019 الكثير في هذا السياق أيضاً، وفيه زار الرئيس الروسي المملكة السعودية في تشرين الأول ووقّع معهم عشرين اتفاقية بقيمة ملياري دولار، ومن بينها صفقات عسكرية. وكان واضحاً لجميع المراقبين بأنّ النخب السعودية الحاكمة تقرأ التراجع الأمريكي في العالم بشكل صحيح، وأنّها تعمل، ضمن الحدود المتاحة لها، على الحفاظ على مصالحها والانفكاك عن المصير المؤكد لمعسكر الأمريكيين الخاسر.
يمكن ضمن هذا السياق فهم ما حدث في آذار 2020 عندما زادت المملكة السعودية إنتاجها للنفط مسببة ضرراً هائلاً لقطاع النفط الأمريكي. الأمر الذي يذهب البعض لكونه أمراً منسقاً مع الروس. وحتّى لو لم يكن لهذا التنسيق وجود، فمما لا شكّ فيه أنّ السعودية قد سددت ضربة قاصمة لقطاع النفط الأمريكي بعد رفضها خفض إنتاجها من النفط، الأمر الذي دفع بأعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لتقديم مشاريع قوانين لسحب القوات الأمريكية من السعودية، فكما قال السيناتور كاسيدي: «الصداقة والدعم هي طريق باتجاهين».
تسعى النخب الحاكمة السعودية لتنويع تحالفاتها، وتقاربها مع الروس يأتي في هذا السياق. فمن المفهوم أنّ السعوديين ليسوا في صدد استبدال واشنطن بموسكو، لكنّ التحالفات التقليدية في الشرق الأوسط تشهد اهتزازات زلزالية تجعلنا نتوقع بثقة، تزايد الاتفاقات السعودية مع روسيا والصين بشكل رئيسي.
ولهذا لن يكون من المستغرب اليوم، بعد التحركات السعودية المستمرة أن نشهد المزيد من الانسحابات الأمريكية التي يعدّ سحب بطاريات باتريوت في أيار 2020 جزءاً منها. وهنا مربط الفرس في أنّ القطاع الأكثر احتمالاً ليتلقى الضربات تالياً، هو قطاع الصناعات العسكرية الأمريكي، عبر المزيد من الحظر والقيود على توريد الأسلحة والخدمات للسعودية. وهذا سيتزامن عند حدوثه بلا شك مع تحقق متتاليات للسلام في المناطق الساخنة من جهة، ودور أكبر للاعبين آخرين، مثل: الروس من جهة أخرى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 971