الوهن الديمقراطي...  وزوال البُنى المتصدعة

الوهن الديمقراطي... وزوال البُنى المتصدعة

في حقبة سيادة النموذج الغربي وعولمة مؤسساته المالية، سادت أساطير عدة مرتبطة برأس المال، قائلة: أنه من شأن العولمة وحرية حركة الأموال العابرة للحدود، أن تمنح الازدهار للجميع، وأن نموذج «الديمقراطية» الغربي هو الضامن للعدالة الاجتماعية، ويجب أن يعمم على دول الأطراف ولو بالقوة. وصلت اليوم تلك الأوهام إلى نهايتها، بعد أن تتالت الأزمات، وأصبح من غير الممكن إنكارها، فالجميع يتنبأ بأزمة اقتصادية كبرى، والأزمات الاجتماعية من فقر وبطالة ولامساواة أصبحت متفشية في كل المجتمعات. وفي ظل هذا، يزداد الإدراك العالمي لزيف «الديمقراطية» الغربية وفشلها، التي هي في الواقع ديمقراطية رأس المال والشركات، وبالمقابل، تنشأ من رحم المجتمعات قوى شعبية تسعى للتغيير، تتمدد وتتوسع في كل العالم. الكثير من التحليلات تؤكد اليوم على هذا الواقع، ومقالة، ألاستير كورك، التالية والمنشورة في مجلة ««Strategic Culture هي واحدة منها. 

بقلم: ألاستير كروك
تعريب: عروة درويش

وصف أنطونيو غرامشي فترة ما يمكن وصفها بـ«خلوّ الحكم» بأنّه الوقت: «عندما يموت القديم ولا يمكن للجديد أن يولد بعد... وفي فترة الخلو هذه تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضيّة على السطح». ففي مثل هذه الأوقات، يُنظر إلى الجديد على أنّه جنون وسيء وخطر على التفكير.
فرنسا وبريطانيا... النخب خائفة ومتخبطة
إنّ بريطانيا تمرّ دون شك في فترة خلو الحكم الموصوفة هذه: فهذه هي الفترة حيث النخب التي قامت سابقاً «بإدارة» الخطاب السياسي ضمن حدود توافقية صارمة، تجد نفسها اليوم في خضمّ تنافس لاذع. وهذه الفترة من الزمن هي اللحظات التي يتم فيها فقدان العقل أيضاً. إنّها الفترة التي تتلاشى فيها الحدود والمعنى بين ما يمكن تصديقه، والقيام به.
تظهر مفارقات «فترة خلو الحكم» بشكل يومي أيضاً: فعندما يقوم «مجلس العموم» المنتخب ديمقراطياً بالاصطفاف ضدّ استفتاء شعبي، ليعارض التشريع الذي وافق عليه بنفسه والذي نشأ عنه، ويعبث حتّى بمبدأ أن تقوم الحكومة «بالحكم»، وذلك لصالح فكرة: أنّ على جمعية غير حكومية متحولة سريعة الزوال عابرة للأحزاب، مؤلفة من النوّاب، أن تحكم بدلاً عن الحكومة. لكن رغم ذلك فلا تزال هذه «الجمعية» غير قادرة على تقديم بديل متفق عليه. إنّه لأمرٌ عجيبٌ بحق، لكن غير مفاجئ، أن تلمس سريان رعشة ذعر حقيقي بين غالبية مؤيدي بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، إذ أنّهم يواجهون اليوم صدمة اكتشاف عدم وجود حلّ واضح.
وبالمثل، فإنّ الصدمة النفسيّة ذاتها التي صعقت «المؤسسة» الثقافية قد صعقت فرنسا. فكما وصف كريستوفر غالوي الأمر: «إنّ النخبة خائفون اليوم. فللمرّة الأولى هناك حركة لا يمكن التحكّم بها عبر الآليات السياسية العادية. فحركة السترات الصفراء لم تنشأ من النقابات العمالية أو من الأحزاب السياسية. لا يمكن إيقافها. ليس هناك زرّ إغلاق مربوط في الخلفية. إنّ طبقة «المثقفين النخبويين intelligentsia» مجبرة اليوم إمّا على الاعتراف بوجود هؤلاء الناس كما ينبغي، أو سيكون عليهم اختيار نوع من التوتاليتاريّة «الشمولية الاستبدادية Totalitarianism» الناعمة.
اعتراف رأسمالي بالأزمة الاقتصادية الاجتماعية
في بداية العام أثارت الكَدَرَ رسالة انتشرت كالنار في الهشيم، وجهها مدير صندوق التحوّط التمويلي «أوراكل Oracle»، الأسطوري سيث كلارمان إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. وقد أطلق في رسالته رصاصة تحذيريّة بأنّ هناك شعوراً متزايداً بالانقسام السياسي والاجتماعي حول العالم، قد ينتهي بكارثة اقتصادية. فكتب قاصداً حركة السترات الصفراء في فرنسا، والتي تنتشر على كامل رقعة أوروبا: «لا يمكن أن توجد أعمال البزنس بشكلها المعتاد وسط التظاهر المستمر والشغب والإغلاقات والتوتير الاجتماعي المتصاعد. نحن نتساءل: متى سيستشعر المستثمرون المزيد من هذا؟». ثمّ أضاف: «إنّ التطابق الاجتماعي جوهري لأولئك الذين يملكون رأس المال ويريدون استثماره».
إنّ تداول رسالة كلارمان قد زاد من عدم الارتياح الذي ينتشر على طول «مؤسسة العولمة». وفي جذور هذا القلق تحديداً يقبع احتمال انهيار اثنتين من الأساطير الكبرى: الأسطورة النقدية، والأسطورة الألفية عن «النظام العالمي الجديد» التي صعدت على أشلاء الحرب العالمية الأولى. كما أنّ مفهوم الحرب البطوليّة المبجلة قد مات بدوره مع الشبّان الذين لقوا حتفهم في معركة سوم ومعركة فيردان. لم تعد الحرب «بطوليّة» بعد اليوم. إنّها مجرّد طاحونة لحم مقززة. لقد ضحى الملايين بأنفسهم من أجل فكرة تدور حول الدولة القوميّة «المقدسة». لقد تسفهت الفكرة الرومانسية من القرن التاسع عشر عن الدولة القومية «النقيّة». وعلى أنقاضها سقطت كذلك الشعارات التي قادتها الولايات المتحدة بوصفها أرض الميعاد الجديدة (وسمح لها انهيار الاتحاد السوفييتي بالتفشي)، والتي تمثّل فيها الأمل البشري بعالم أكثر رخاءً وأقلّ انقساماً وأكثر تجانساً.
تداعي أساطير رأس المال
إن خلق الوعد بإمكانيّة الوصول إلى «الازدهار للجميع» بسهولة إلى حيّز الوجود «بالوسائل» النقديّة، ومثالها خلق الديون الضـخمة، كان نتيجة لازمة لهذه الحصيلة المثالية المشار إليها. لم يعد هناك حاجة اليوم لأيّة «حقائق» داعمة، فقد خذلت «الوسائل» الغالبيّة، من أمثال السترات الصفراء، أو من وصفتهم هيلاري كلينتون بالبائسين. والآن حتّى كلارمان، مدير صندوق تحوّط أوراكل، يحذّر روّاد دافوس بأنّ: «بذور الأزمة المالية التالية (أو الأزمة التي تليها) قد توجد في مستويات الديون السيادية الحاليّة». وقد شرح الأمر حيث قامت جميع الدول المتقدمة بمراكمة الدَّين منذ الأزمة المالية عام 2008، وهو الاتجاه الذي قال بأنّه قد يقود إلى ذعرٍ مالي.
لقد كان كلارمان قلقاً بشكل خاص من حِمل الدَّين في الولايات المتحدة: ما سيعني ذلك بالنسبة للدولار بوصفه العملة الاحتياطية العالمية، وكيف يمكن أن يؤثر في نهاية المطاف على اقتصاد البلاد. فقد كتب: «ليس هناك من طريقة لمعرفة كميّة الدَّين التي يُصبح بعدها الأمر أكثر ممّا يحتمل، لكنّ أمريكا ستصل حتماً إلى نقطة الانعطاف التي ستقود إلى سوق ديون أكثر شكوكية، يرفض الاستمرار بإقراضنا بمعدلات يمكننا تحملها. إنّ الوقت الذي ستضربنا فيه مثل هذه الأزمة، غالباً سيكون الوقت قد فات على ترتيب أمورنا».
لطالما كانت الحيلة النقدية خادعة: ففكرة أنّ الثروة الحقيقية تنشأ من ديون عملة غير مغطاة متضخمة، وبأنّ لا حدود لمثل هذا التوسّع، وأنّ جميع الديون يمكن ويجب الوفاء بها، وأنّ الديون المتراكمة يمكن حلّها عبر المزيد من الدَّين، جميعها أشياء لا تبعث على الثقة. لقد كانت بمثابة حكاية خيالية للأطفال. لقد عكست الإيمان المديني الأعمى بأنّ مسار التقدم التصاعدي محتوم، وبالقناعة المؤدلجة بأنّ هذا النهج يمكنه أن يحقق الوفرة والسلام حتّى نهاية الزمان.
محاولة النجاة على حساب الأغلبية
لقد كانت المصارف الكبرى على بعد خطوة من الانهيار في عام 2008. لقد تمّ إنقاذها على حساب دافعي الضرائب الغربيين، وذلك بسبب قرار النخب بأنّ مخاطر الإخفاق المالي قد تكون كبيرة جداً. لكن بعد ذلك كان يجب إنقاذ المنقذين أنفسهم، أي الدول المتنوعة المضيفة للمصارف. أزيلت لهذا الغرض شبكات الأمان الاجتماعي والرفاه من هذه الدول، وذلك لإصلاح موازناتها الخاصة المستنزفة نتيجة إصلاح ميزانيات مصارفها في وقت سابق.
لقد تمّ ضرب الـ 60% ثلاث مرّات. أولاً: عبر عمليات الإنقاذ الأولى. وثانياً: عبر التقشف الذي تبعها. وثالثاً: عبر استمرار المصارف المركزية بسياسات تضخيم أصولها واستنزاف مدخراتها. شَعَر الـ 60% بضعفهم على هذه الخلفية القاتمة، لكنّهم أيضاً أدركوا بأنّه لا شيء لديهم ليخسروه، فهم لا ناقة لهم ولا جمل في هذه اللعبة.
إنّ حكاية الازدهار السهل الذي يقوده الائتمان، هذه قد كانت هي الحكاية ذات الهوية الغربية التي طرحت على العالم على مرّ العقود الماضية. لقد تطلّب الأمر شخصاً «من الخارج» كي يثير ما اضطرت وسائل الإعلام السائدة لقبوله بامتعاض، وهو القول الذي كان الأكثر دلالة في منتدى دافوس لهذا العام، وذلك ببساطة لأنّه كان من الوضوح بحيث يراه الأعمى: لقد تحدث عن كيفية فشل النظام العالمي. لقد تحدّث فانغ زينغ هاي، نائب رئيس منظمة الأوراق المالية الرئيسة في الحكومة الصينية. ببساطة، مذكراً جمهور المستمعين بالجانب المعتم للمدحلة النقدية الغربية المعولمة: «عليكم أن تدركوا بأنّ هذا النوع من الديمقراطية لا يعمل بشكل جيّد. تحتاجون إلى إصلاحات سياسية في بلدانكم». وأضاف: «هذا بكل صدق». يا للهول، لقد تطلّب الأمر مسؤولاً صينياً كي ينطق بما لا يقال.
الأطراف في المنظومة... والبحث عن بدائل
كما هو محتم ولا مهرب منه، فإنّ «الأذى» الناجم عن انهيار الأسطورة المهيمنة عالمياً يبدأ من الأطراف. إنّ ما يغيب عن بال النخب، ولا سيما في تلك الدول الزائفة التي صعدت إثر تراجع الاستعمارية الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى، بأنّهم قد عرفوا أنفسهم من خلال حكاية «عدم وجود بديل» للازدهار الناجم عن الائتمان، وأنّهم علاوة على ذلك قد انخرطوا في الدوليّة العالميّة كأثرياء من النخب. لقد باتوا عالقين داخل الأمر. لقد انقطعوا عن جذورهم الثقافية التي نشأوا منها، وهم يدعون «القيادة» في هذا «العالم» الخاص بهم.
والمثال النموذجي على هذه الأطراف هي: دول الخليج، فمّما لا شكّ فيه، عندما تعطس دافوس، تصاب النخب في الأطراف بالالتهاب الرئوي. وعندما تكون أزمة الهوية مصحوبة بهواجس أزمة مالية قادمة على المركز، فإنّ هذا الالتهاب الرئوي سيكون مميتاً وبمثابة القبر. وعليه فليس من المفاجئ أنّ القلق والجزع بين نخب الشرق الأوسط الطرفي هو في حالة ارتفاع. هم يعلمون بأنّ أيّة أزمة مالية تصيب المركز، ستؤدي بلا شك إلى نهايتهم.
وإليكم المغزى: إنّ ما قاله مايك بومبيو في القاهرة في شهر كانون الثاني لم يكن مهماً فيما يخص السياسة الأمريكية، بل كان لا شيء. لكنّه قد يفهم عوضاً عن ذلك على أنّه نقطة تحوّل من نوع مختلف، وعنوان هذا المفترق، هو: أنّه أظهر بأنّ رؤية «النظام العالمي الجديد» ذات الثلاثين عاماً، هي أنه لم تكن هناك أيّة رؤية على الإطلاق، ولا من أيّة زاوية. لقد كان الأمر واضحاً: كان بومبيو يقاتل لفظياً في جولة أخرى من «الحرب الأهلية» الأمريكية.
وقد أكّد جون بولتون بشكل فاعل هذه الميتة. فطالما أنّ أمريكا لا تملك شيئاً لتقدمه، فهي تتحوّل إلى التكتيك التعطيلي، ومثال ذلك (العقوبات على رجال الأعمال أو الدول التي تساهم في إعادة إعمار سورية). إنّ الولايات المتحدة بتبنيها لهذا التكتيك تقوم ببساطة بتشويش وإقلاق حلفائها أكثر.
لكن من جديد، ننسى نقطة محورية أخرى: فمع ترنّح الحكاية ذات الهويّة الغربية، تصعد صيغ ثقافية أخرى بالفعل إلى مركز الثقل. وعليه وكما لاحظ مايك فلاوس سابقاً، فإنّ الدول الشرق أوسطية لا تضعف أو تخفق بسبب التهديدات المادية الفعلية التي تواجهها، بل لأنّه وبدلاً من الهويّة العالمية السائدة بات هناك صعود لرؤى عالميّة ومحليّة أكثر شغفاً، وذلك غالباً على شكل نسيج معقد من الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل: حزب الله، والحشد الشعبي، والحوثيين.
لا تضع هذه المجموعات مطالبها ضمن سياق الليبرالية أو الاقتصادات الاستهلاكية أو المرتكزة على الرفاهية الاجتماعية للعالم المتقدم، بل من خلال إعادة التأكيد على سيادة قواها الاجتماعية الخاصّة وسيادتها. وعلى حقّهم في عيش حياتهم بالطريقة التي يختارونها، بطرق ثقافية متعددة. إنّها تزدهر حيث هناك طلب للمعنى، وحيث إعادة إحياء القيم في المجتمع، ذات شأن أعظم.
ومثلما أثبتت حركة السترات الصفراء بأنّه يصعب التحكّم بها من خلال الآليات السياسية العادية، فقد تحدى هؤلاء اللاعبون «الآخرون» غير الحكوميين سطوة آليات الدول الشرق أوسطية التي تستخدم علبة أدوات غربية تقليدية. إنّ التوتاليتارية، سواء الصلبة أو الناعمة، لم يكن أيّة منها فاعلة بشكل كلي.
إننا نتحدث هنا عن نقلة كبرى في السلطة، وكذلك في طبيعة هذه السلطة. فللمرة الأولى يعلن مسؤول أمريكي بشكل نهائي عن حقيقة: أنّ الولايات المتحدة لا تملك رؤية للمستقبل، وبأنّ بإمكان الولايات المتحدة الآن فقط أن تتصرف بشكل معطّل في الشرق الأوسط. لقد سمعت دول الخليج بشكل مؤكد صوت «الخواء» الذي يصمّ الآذان، وكذلك فعلت الدول على الجانب الآخر من الانقسام، الدول التي لم تكن يوماً جزءاً من «النظام العالمي الجديد». ليس من الصعب أن نرى المكان الذي سيستقر فيه المؤشر.

لم يعد من المشكوك فيه تراجع الولايات المتحدة، وانتهاء حقبة القطب الواحد معه، ومع هذا التراجع فإن كل ما ساد خلال حقبة زمنية ماضية ليس بالقليل، سيتراجع معه، ليشمل مفاهيماً اقتصادية وبنى سياسية، في ظل هذا التحول، وبانتظار تبلور النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب، ليحمل معه مفاهيماً اقتصادية وسياسية أكثر عدلاً، متحررة من الهيمنة الأمريكية، ووفقاً لقول غرامشي: ستظهر العديد من الأمراض، وسيتعرض الجديد للهجوم والتشويه، ولكن هذه الفترة لن تطول، وسيفرض الصحيح نفسه في نهاية المطاف.