الإمبريالية استنفذت توسعها...وعلينا التجهّز لدفنها
نشرت مجلة «Monthly Review»حواراً مع توركيل لاوسن، صاحب كتاب «وجهة نظر عالمية: الآثار على الإمبريالية والمقاومة»، والذي واجه عام 1991 حكماً بالسجن لمدة عشرة أعوام بسبب انخراطه مع مجموعة « «Blekingegade الدنماركية ونشاطاتها المناهضة للإمبريالية. فيما يلي تقدم قاسيون أبرز ما جاء في هذا الحوار...
حوار مع: توركيل لاوسن
تعريب وإعداد: عروة درويش
حكم عليك بالسجن عشرة أعوام عام 1991 بسبب انخراطك في نشاطات مناهضة للإمبريالية. الآن وبعد مضي 25 عاماً هل تغيّر أيّ شيء منذ ذلك الحين؟
تغيّر كلّ شيء من أجل أن نبقى على حالنا: لقد غذّى تحوّل الجنوب العالمي إلى الصناعة وسلاسل الإنتاج العالمية الإمبريالية. وزادت الأرباح الخارقة لرأس المال، بينما انخفضت أسعار البضائع الاستهلاكية في الشمال العالمي. تقلصت هيمنة الولايات المتحدة. نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب يحتوي على قوى صاعدة. لم يعد هنالك وجود لما يسمّى بالاشتراكية الحقيقية، وقد اختفت حركات التحرر الوطني جميعها.
اختفت في نهاية الثمانينيات مناهضة الإمبريالية من رادار اليسار بشكل شبه كلي. لماذا؟
همدت حركات التحرر الوطني في الجنوب العالمي وانتشرت النيوليبرالية في حقبة الرأسمالية الذهبية. علاوة على ذلك، أخفى الحديث عن العولمة الحقيقة الجارية للإمبريالية.
ألم يكن هنالك أيّة عولمة؟
بالتأكيد، كانت هنالك تغييرات كبيرة في الرأسمالية خلال الثلاثين عاماً الماضية: حوّلت الابتكارات في النقل والاتصالات كامل نظام الإنتاج والتوزيع. لكنّ قلّة من الناس قد حللوا هذا الأمر في سياق النظام الإمبريالي، وهذا أمر غريب إذا ما أخذنا بالاعتبار حقيقة: أنّ العولمة قد قوّت النظام الإمبريالي ولم تضعفه.
هل تفتقد ما يسمّى حركة مناهضة العولمة لفهم ملائم للإمبريالية؟
إنّ مصطلح «حركة مناهضة العولمة» مضلل. وقف الناس ضدّ العولمة الآتية من الأعلى، كان لديهم وجهة نظر عالمية، فتحدوا بنى السلطة المهيمنة وأعادوا إدخال الأفكار الاشتراكية إلى نقاشهم.
لكنّك محق، فقد غابت الإمبريالية بشكل كبير عن تحليلاتهم. وهذا يعني أيضاً: أنّ هذه الحركة لم تكن جذريّة بالضرورة. ففي أسوأ الأحوال قامت بتغذية الميول الرجعية: فقد طالبت بدول وطنية قويّة وبتقارب مع القسم المحافظ من رأس المال ... إلخ.
ما الذي تغيّر عن الوقت الذي لم يرضَ فيه أحد بنشر كتابك منذ عشرة أعوام؟
جعل الانتقال في رأس المال من اللامساواة العالمية واضحة بشكل صارخ. فقد بتنا في الشمال العالمي معتمدين على البضائع من الجنوب العالمي: الكهربائيات التي نستخدمها والألبسة التي نرتديها والفاكهة التي نأكلها والأثاث الذي نستعمله، مثل: إيكيا... يتم إنتاج كلّ شيء في ظروف ما كان ليتغاضى عنها أحد لو تمّت هنا، ومع ذلك فالجميع على علم بحدوثها. لهذا ليس من المفاجئ أنّ الناس قد بدأت تهتم بهذه الأمور من جديد، وحتّى على المستوى التحليلي.
ما هو الفرق الأكبر بين مناهضة الإمبريالية «القديمة» و «الحديثة»؟
لم يعد التحرر الوطني هو المحور الرئيس. مناهضة الإمبريالية الحديثة هي مناهضة للرأسمالية بشكل رئيس. لقد دعّم الإنتاج العالمي القوى المنتجة في الجنوب العالمي. هنالك الآن الملايين من البروليتاريا الجدد، وهذا يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات جديدة.
لقد كنتم تتحدثون كثيراً في المجموعات الماركسية التي كنت منتظماً ضمنها في السبعينيات والثمانينيات عن «أرستقراطية عمّال» العالم الأول، وعن كيفية عدم قدرتنا على اعتبار الطبقات العاملة في الدول الإمبريالية بأنّها طبقات ثورية. هل لا زلت متمسكاً بالنظرة ذاتها؟
نعم لا زلت، وأظنّ بأنّ التطورات التي حصلت في الخمسين عاماً الماضية تثبت بأننا كنّا على حق. انظر إلى نظام التقاعد والإسكان كمثال. إنّ ارتباط مستويات الأجور في الشمال العالمي بالضرائب النيوليبرالية وبالرأسمالية المالية وبتطور السوق العقارية، يعني: أنّ قطاعات كبيرة من الطبقات العاملة قد استثمرت مداخيلها في شراء المنازل. لقد جَنوا في بعض الأحيان أموالاً من العقارات أكثر ممّا جنوه من أجورهم. في هذه الأثناء أصبح نظام تقاعدهم مرتبطاً بشكل وثيق برأس المال المالي عبر صناديق التقاعد التي يتم استثمارها في الأسهم والسندات. بكلمات أخرى: إنّ رفاه العمال في الشمال العالمي متصل بشكل مباشر برفاه الرأسمالية. إنّ لديهم الكثير ليخسروه إن هم خسروا سلاسل قيودهم.
لا تزال الاختلافات بين مستوى المعيشة والأجور بين الشمال العالمي والجنوب العالمي صارخة. الأثمان المنخفضة التي ندفعها مقابل الموبايلات والأحذية والشوكولا مرتبطة بشكل مباشر بالأجور المنخفضة التي تدفع للناس الذين ينتجونها. إن كانت كلمة أرستقراطية العمالة تبدو خارجة عن الزمن، فدعنا نسميها أرستقراطية الاستهلاك.
ألا يتربّح الناس في الجنوب العالمي من هذا التطور؟ هناك الآن وظائف أكثر والأجور في ارتفاع أيضاً ولو أنّ الأمر يستغرق وقتاً أطول. الجميع يتحدث اليوم حول: «طبقة وسطى جديدة».
لم يعد العالم مقسماً إلى بلدان ثريّة تنتج وأخرى فقيرة تزودها بالمواد الأولية. لقد حصلت تحولات كبرى دون شك، وهنالك طبقات معينة في الجنوب العالمي قد انتفعت أيضاً. لكن دعنا لا نقع في الخطأ: نحن لا نشهد وصول المستعمرات القديمة إلى مستوى الدول التي تحولت سابقاً للتصنيع كما يشير البعض.
لم لا يحدث هذا؟
لأنّ الإمبريالية تتطلب وجود طرف. يجب أن يتم استغلال أحدٍ ما. قد تكون الحدود بين المستغِلين والعُرضة للاستغلال قد تغيرت، لكنّ لا يمكن للجميع أن ينتموا إلى المستغِلين. لا يعمل النظام بهذا الشكل.
طالما أصبحت الحدود بين الدول الفقيرة والثريّة أقل وضوحاً، فهل من المنطقي أن نركّز على التقسيم بين الجنوب العالمي والشمال العالمي؟ ألا نحتاج إلى تحليل طبقي عالمي من أجل أن نفهم الديناميكية بين المستغِلين والعُرضة للاستغلال؟
لا أرى خطأ في التحليلات الطبقية العمالية، لكن علينا ألّا نغالي في ضبابية الحدود. لا تزال الحدود موجودة. تشكّل ما يدعى بالطبقة الوسطى الجديدة في معظم دول الجنوب العالمي أقلّ من 10% من كامل السكان، أقل بكثير حتّى. بينما ينتمي أكثر من 90% من السكان في الشمال العالمي إلى أرستقراطيّة الاستهلاك. نعم هنالك طبقة دنيا جديدة في الجنوب العالمي، لكنّها لا تزال صغيرة نسبياً. لا يزال شخصٌ يعيش على إعانة الرفاه في الدنمارك ذو مزايا أفضل من العديد من النواحي منه من عامل صناعي في الجنوب العالمي. مأسست دولة الرفاه الحديثة أرستقراطية الاستهلاك، فهي تزود تابعيها بالتعليم والرعاية الصحية والتقاعد. ليس هنالك مثيل لها في الجنوب العالمي.
ما الدور الذي تلعبه الدولة في الصراعات القادمة؟
لا يمكن لسياسات مناهضة الرأسمالية أن تتقدم دون الانخراط مع الدولة بشكل أو بآخر، فالدولة هي من تعرّف الواقع السياسي الذي نعيشه. لكنّ الاستيلاء على سلطة الدولة لا يجب أن يكون محور تركيز أنشطتنا. إنّ الدولة القومية تناصر الحقوق السياسية، وهو ما يرتبط مع الاتجاهات القومية والعنصرية والشوفينية.
كما من الخطأ رسم صورة لدولة الرفاه بأنّها دُشمة ضدّ الرأسمالية. لا يمكن لدولة الرفاه الأوروبية أن توجد دون الإمبريالية، وأيّ أحد يؤمن بغير ذلك ينكر التراكم العالمي لرأس المال. مثال: كيف سيكون شكل اقتصاد مستقل لإحدى دول الشمال العالمي؟ من سينتج كلّ الأشياء التي بات الناس معتمدين عليها؟ كم شخصاً من الشمال العالمي لا يزال مشتركاً بالإنتاج الصناعي؟ إنّ معظم الأعمال هي من قطّاع الخدمات والتصميم والإعلان، أي: أعمالٌ تعتمد على آخرين ينتجون ما تستهلك.
ليس هنالك شيء سيئ في دولة الرفاه، لكنّ المشكلة أنّ دولة الرفاه الرأسمالية تعتمد على الإمبريالية، ووجود دولة رفاه رأسمالية عالمية أمرٌ مستحيل. وكي نخلق دولة رفاه للجميع فعلينا أن نغيّر النظام بشكل جوهري.
هل بإمكان الدول القويّة في الجنوب العالمي ألّا تساعد على تقويض النظام الإمبريالي؟
تتعلق الفكرة بمفهوم الارتباط من عدمه. هنالك أسباب لكون الصين قد تخلّت عن مثل هذه السياسات. فالخيارات الاقتصادية لدول الجنوب العالمي محددة عبر الرأسمالية العالمية، سواء أعجب ذلك حكومات هذه الدول أم لم يعجبها. يمكن لمحاولات عدم الارتباط وبأن تصبح الدولة منفردة أن تكون مكلفة جدّاً، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية. لا يخطّئ هذا الأمر المبدأ، لكن لا يجب أن يتم تقليص معناه ليقتصر فقط على الاستقلال كدولة منفردة. فالعولمة قد جعلت من صيغٍ جديدة لفكّ الارتباط ممكنة، أولها وأهمها هي: صيغة التعاون المقتصرة على جنوب- جنوب.
ما هو الصراع الأهم في الجنوب العالمي اليوم؟
إن كنّا نتحدث عن المدى الطويل، فإنّ لكفاح العمّال والفلاحين في الصين أهمية حيوية فارقة. فللمرّة الأولى في تاريخ الرأسمالية تنتقل دولة طرفية إلى مركز الإنتاج العالمي، وهو الأمر الذي يجعل من المستقبل غير محدد. وعلينا أيضاً أن نبقي أعيننا مفتوحة على الشرق الأوسط، فليست مصادفة أنّ الإقليم محلّ منافسة شديدة على مدى خمسين عاماً. فهو هامّ جدّاً بالنسبة للإمبريالية، وليس ذلك بسبب النفط فقط بل أيضاً بسبب موقعه الاستراتيجي: فهو المكان حيث يلتقي الغرب بالشرق والشمال بالجنوب.
هل من العقلانية أن نتوقع انتهاء الإمبريالية؟
نميل لنسيان بأنّ الرأسمالية هي مرحلة تاريخية. ومثلها مثل بقيّة المراحل التاريخية فإنّ لها بداية ونهاية. فعلى الرأسمالية كي تحلّ تناقضاتها الداخلية أن تتوسع، وهذا يعني: أنّ عليها تدمير أنماط الإنتاج السابقة عليها وغير الرأسمالية، وأن تستخدم البروليتاريا وأن تفتح أسواقاً جديدة. يتطلب كلّ هذا وجود طرف، لكنّ الطرف لا يمكن أن يتوسع بلا نهاية. فبلدان مثل: الصين والهند والبرازيل ليس لديها طرف كبير بما يكفي لتعزز رأسمالية الرفاه. وعليه فإنّ النظام قد قارب الوصول إلى نهايته.
ما هو مدى أزمة الطبقات الحاكمة؟
الرأسمال منقسم اليوم حول الردّ على الأزمة الحالية. تريد بعض الفصائل الاستمرار في مسار العولمة النيوليبرالية، بينما يريد الآخرون العودة إلى تراكم رأس المال المبني على الدولة ذات الحكم الاستبدادي والحرب، من أجل تأمين استمرار الاستغلال الإمبريالي. ويركز البعض بشكل حصري على المضاربات المالية. لا يمكن للرأسمالية أن تتخطى هذا القرن، أو ربما لا يمكنها تخطي عام 2050 حتّى.
تفصلنا ثلاثون عاماً عن هذا الميعاد...
ستكون الأعوام القادمة أعوام إثارة شديدة. سيكون هنالك انتفاضات كاستجابة لكساد اقتصادي شديد. سيكون هنالك توترات منتشرة بسبب التدمير البيئي. وسيكون هنالك نضالات ثورية كنتيجة للحروب الإمبريالية الداخلية.
إننا على عتبة تاريخية. سينشأ نظام عالمي جديد من الصراعات القاسية بين القوى الرجعية والقوى التقدمية. الرهانات كبيرة. هل سيدمر النظام العالمي نفسه ويأخذ معه بقية العالم؟ هل سيعيد تجديد نفسه على شكل نظام فصل عنصري عالمي؟ أم سيتم استبداله بالاشتراكية؟
إنّ تطوّر القوى المنتجة في الجنوب العالمي يمنحهم الكثير من القوة. فإنّ أجروا بعض التعديلات على سلاسل الإنتاج العالمية، فسيؤدي هذا إلى الإضرار بالدول الإمبريالية. إنّ تحوّل الجنوب العالمي للتصنيع قد خلق أساساً واعداً لتطوّر الاشتراكية أكثر ممّا فعلت كفاحات التحرر الوطني. ليس هنالك سبب يدعونا لنكون متشائمين، ولهذا علينا أن نبدأ بتنظيم أنفسنا والاستعداد لحدوث التغييرات.
أنتجت دول المركز الغربي (الولايات المتحدة- دول الاتحاد الأوروبي- اليابان) في ستينيات القرن الماضي ثلثي الناتج الإجمالي العالمي: 66%، بينما أنتج بقية العالم قرابة الثلث فقط: 34%. أمّا في عام 2016 فقد انقلبت هذه المعادلة وأصبح أقل من ثلث الثروة الجديدة (أي: القيمة المنتجة مجدداً) يُنتج في المركز الغربي بنسبة 32%، بينما ينتج الثلثان عبر العالم. إذا ما أخذنا قطاعات إنتاج الثروة الحقيقية، أي: حيث يتفاعل العمل البشري مع أدوات العمل ومادته ليخلق بضاعة جديدة، فإنّ الصين (دولة طرفية) هي المنتج الأكبر عالمياً. فناتج الزراعة والصناعة والإنشاء والبنى التحتية والطاقة الصيني يقارب 19% من الناتج الحقيقي العالمي مقابل 12% للولايات المتحدة (مركز المركز). أمّا إذا أخذنا قطاع التصنيع فقط، فالغلبة للصين أيضاً ولكن بفارق أقل: 20% مقابل 18% لأمريكا. ولكن الأهم من هذا وذاك، هو: السير الصيني الحثيث لتطوير القوى المنتجة، والتأثير على علاقات الإنتاج الرأسمالية في المرحلة الحالية من الإمبريالية.
يتم إنتاج الآي- باد عبر الشركة الأمريكية «آبل». وقد بيع بين عامي 2010 و2011 أكثر من 100 مليون جهاز آي- باد. لكنّ «آبل» هي المثال الممتاز عن الشركات «غير المصنعة». تقوم «آبل» بالتطوير والتصميم وبحفظ براءات الاختراع، ثم ببيع الكومبيوترات وأجهزة الاتصال ومعداتهما، لكنّها تقوم بالاعتماد في التصنيع الفعلي لمنتجاتها على جهات خارجية بشكل تام. يتم تصنيع وجمع كامل الآي- باد في الصين. لدى آبل 748 موردٍ للمواد والمكونات الداخلة في منتجاتها، و82% من هؤلاء موجودون في آسيا، و351 منها موجودة في الصين.