احتكار المنشورات العلمية... الرأسمالية تفسد العلوم
إنّ عالم التواصل العلمي معطّل. تتعامل شركات النشر العملاقة، التي تحوّل المجال إلى مافيا أعمال وهوامش ربحٍ تتخطّى شركة «آبل»، مع أبحاث الحفاظ على الحياة بوصفها سلعة خاصة، تباع لتحقق أرباحاً هائلة. إنّ ما لا يتجاوز 25% من مجموع الأبحاث العلمية العالمية تندرج تحت «الوصول المفتوح»: أي: أنّ للعموم حقّ الوصول إليها بالمجان ودون اشتراك. وهذه النسبة المتدنية تقف عائقاً أمام حلّ المشكلات الرئيسة، مثل: تحقيق أهداف الأمم المتحدة في التنمية المستدامة.
تعريب وإعداد: عروة درويش
حدث مؤخراً أن اضطرت واحدة من أكبر دور النشر الأكاديمي في العالم: «سبرنجر نيتشر» للانسحاب من سوق الإصدارات الأوروبية بسبب نقص المصلحة. أتى هذا الإعلان بعد أيام من إلغاء ائتلاف الشركات «كوبيرن» لاشتراكها في «صحيفة سبرنجر نيتشر»، وبعد إلغاء الجامعات السويدية والألمانية اشتراكها في « إلزيفير» دون أثر ضار، وذلك إضافة إلى تجديد ميزانيات المكتبات. وفي الوقت ذاته قامت دار النشر «إلزيفير» بمقاضاة موقع «ساي_ هوب» الذي يعرض أكثر من 67 مليون مقال بحثي مجاني. إنّ كلّ هذا يدلّ ببساطة على أنّ النظام معطّل.
ضرورة تحكم الباحث بسير البحث
تفتح المفوضية الأوروبية حالياً للناشرين مناقصة لتطوير منصة نشر بحثي مفتوحة على طول الاتحاد الأوروبي، لكنّ فكرة مثل هذه المنصّة قصيرة النظر جداً، فما تفعله المفوضية بشكل رئيس هو إيجاد طرق جديدة لنقل التمويل العام إلى أيدٍ خاصة. وفي الوقت ذاته وتبعاً لحجم العملية الكبير نسبياً فهي تمنع حصول المزيد من الخدمات المبتكرة على موطئ قدم في عالم النشر. يحدث هذا في الوقت ذاته الذي يتحرك فيه هؤلاء الناشرون الكبار للسيطرة على كامل الإنتاج البحثي بدءاً من تكوّن الفكرة إلى التقييم. سيصبح الباحثون هم المقدمون والمنتج والمستهلك.
لطالما طال انتظار انبثاق مجتمع عالمي يُنسق ويستعيد السيطرة على تطوير هيكلية بنيوية مفتوحة للعامة من أجل القيام بالأبحاث والتواصل العالمي لخدمة الصالح العام. لم تكن مسألة وجوب امتلاك الأبحاث وإدارتها بشكل عام أكثر وضوحاً. إنّ إيجاد منصة معزولة أخرى سيؤدي ببساطة إلى استنساخ مشاكل النظام الحالي المعتمد على المجلّة، ويتضمن ذلك ذهنية «أغرق أو أطفو» التي تشوّه عملية البحث، ونظام التقييم الذي عفا عليه الزمن والذي يستند إلى علامات الشركات.
لا يزال الباحثون مجبرين على كتابة «أوراق بحثية» للمجلات، وهي صيغة التواصل التي تمّ تصميمها في القرن السابع عشر. يجب علينا في عالم اليوم_ الذي باتت فيه سطوة شبكات التواصل الاجتماعي القائمة على الإنترنت تعيد تشكيل كلّ شيء بطريقة ثورية_ أن نعيد السيطرة للباحثين.
نماذج مبتكرة للتواصل العلمي
دعت المفوضية الأوروبية لفتحٍ كاملٍ وعاجلٍ لجميع المنشورات العلمية بحلول عام 2020، وهو الأمر الذي تمّ تلقيه بشيء من السخرية لكونه غير واقعي لأنّ ميل النمو الحالي في المجال يشير إلى الفشل في تحقيق ذلك. لكنّه يصبح غير واقعي فقط إن كان التركيز على مقاربات ضيقة الأفق ضمن النظام الحالي.
إنّ نوّعنا طريقة تفكيرنا مبتعدين عن المجال الاصطناعي للمجلات والمقالات، وركزنا عوضاً عن ذلك على قوّة تكنولوجيا الشبكات، فسنتمكن من رؤية جميع أنواع النماذج المبتكرة للتواصل العلمي. إحدى الأفكار المثالية التي تقوم على الخدمات الموجودة ستكون أكثر وِدّاً واستمرارية، مع تأمين تواصل وتقييمات ضمن إطار عملية عقلية وتعاونيّة: فلنتخيّل وجود خدمة موقعٍ مستضيفٍ على غرار «GitHub» مدموجاً مع «Wikipedia» ومع موقع أسئلة وأجوبة مثل «Stack Exchange».
تخيّل استخدام نسخة تحكّم لتعقّب عملية البحث أثناء وقوعها. وأن تصبح تقييمات النظراء عملية مدارة بشكل اجتماعي، حيث تصبح نوعيّة المشاركة هي السمة المميزة لسمعة الفرد. يمكن توسط بنى الإدارة عبر الانتخابات المجتمعية. يمكننا بشكل رئيس نشر جميع نتائج الأبحاث وتقديرها: مقاطع فيديو والرموز والتصورات والنص والبيانات وأشياء لم نتخيلها حتّى. والأفضل من ذلك كلّه هو الوصول إلى نظام تواصل مفتوح بالكامل دون وجود «عامل تأثير» (مثل: وسطي عدد الإشارات والاقتباسات المستخدمة لتقييم المجلات).
يتطلب إنتاج مثل هذا النظام من التواصل البحثي تكييف ثلاثة عناصر مع بعضها البعض: الرقابة على الجودة والاعتدال، والشهادة والسمعة، والحوافز للمشاركة. مثال: سيكون من السهل الحصول على عملية رقابة على الجودة حيث بدلاً من عملية تقييم النظراء المغلقة والسريّة، ستوجد مجتمعات ذاتية التنظيم وغير مقيدة تتعاون معاً من أجل التثبيت والتحقق. ويمكن الاستعاضة عن عامل التأثير المستخدم دون مسؤولية، بنظام مكافآت يميّز جودة المشاركة دون أي دافع شخصي أو أناني، وهو ما يمكن استخدامه بحد ذاته من أجل فتح إمكانات جديدة داخل النظام. وتكمن جمالية الموضوع في تحوّل حافز الباحثين من حافز النشر في مجلّة ما إلى حافز الانخراط بطريقة ذات قيمة كبرى لمجتمعهم. ويمكن لهيئات تقييم الأبحاث من خلال الربط بين هذه الأنشطة وبين السجلات والذاتيات الأكاديمية، أن تبدأ بإدراك القيمة الهائلة التي لهذه الطريقة، مقارنة بطرق التقييم الحالية، ويتضمن ذلك بساطتها.
التمويل وكسر الاحتكار
كيف سنموّل المنشورات البحثية؟ إنّها مجال أعمال بقيمة 25 مليار دولار سنوياً. أنا واثق من أنّ المكتبات يمكنها تحمّل بعض نقص الأرباح. فإنشاء نظام تواصل بحثي مفتوح أكثر عدلاً يعني: أنّ أيّة مجموعة يمكنها نسخه وتكييفه وتعديله بما يلائم حاجات المجتمع، وهو الأمر الذي سيقود إلى خفض التكاليف بشكل جذري. علاوة على ذلك، فإنّ مبادرات مثل: «تحالف الاستدامة الدولي لخدمات العلوم الحرّة SCOSS» أو عدد من الاتجاهات الحديثة، قد طالبت المكتبات بوضع 2,5% من ميزانياتها من أجل دعم مثل هذه الأنظمة المبتكرة وتعبيد طرق التقدم. إنّ إمكانية إنشاء شيء أكثر سمواً من النظام الحالي، هي شيء واقعي لدرجة أنّ كثيراً من الناس يتساءلون الآن عن السبب الذي أجّل حصوله حتّى الآن بحيث تحتكر دور النشر العملاقة المجال وتنفذ بفعلتها.
إنّنا نملك بالفعل جميع التقنيات والسمات اللازمة لبناء بنية تحتية بحثية مشتركة هجينة. يعود الأمر إلى المجتمعات الأكاديمية نفسها أن تبتعد عن لا مبالاتها وتخطو ناحية نظام أكثر ديمقراطية وأكثر عدلاً لنتشارك من خلاله أعمالها ومعرفتنا. أليس هذا ما يدور حوله البحث في نهاية المطاف؟ ليست مسألة إصلاح النشر أمراً مثالياً أو نظرياً معقداً. يعتمد مستقبل التواصل البحثي أكثر فأكثر على تخطي التوترات الاجتماعية وعلى التدرّب على اتباع نظام قويّ متجذر في ثقافة البحث العالمية، أكثر منه على كسر العوائق التكنولوجية.
خطوات إيجابية ممكنة
على أعضاء المجتمع الأكاديمي أن يتحملوا المسؤولية عن مستقبل التواصل العلمي. هنالك خطوات بسيطة يمكننا جميعنا أن نتبعها، وقد مضى بعضنا فيها بالفعل:
1- التوقيع والالتزام بإعلان خاص بالتقييم البحثي، والمطالبة بمعايير تقييم أكثر عدلاً ومستقلة عن أسماء المجلات. سيقلص هذا الاعتماد على الصحف التجارية، وبالتالي على تأثيرها السلبي على الأبحاث.
2- المطالبة بالانفتاح. فحتّى في مجال بحث مثل: الصحّة العالمية، فإنّ 60% من الباحثين لا يؤرشفون أبحاثهم بحيث تصبح متاحة للعموم، وذلك حتّى عندما يكون مجانياً بالكامل وضمن سياسات المجلات أن يفعلوه. علينا أن نطالب بالمسؤولية عن الانفتاح من أجل تحرير المعرفة اللازمة لإنقاذ الحياة.
3- أن نعلم حقوقنا. يمكن للباحثين أن يستخدموا ملحق المؤلف المذكور في «تحالف نشر الأبحاث والحقوق الأكاديمية SPARC» للاحتفاظ بالحقوق عن أبحاثهم، وذلك بدلاً من منحها بشكل أعمى للناشرين. علينا استعادة السيطرة.
4- أن ندعم المكتبات. إنّ عقود اشتراك المكتبات الحالية محمية من الرؤيا العامة عبر «شروط عدم الإفشاء» التي تعمل على الوقوف في وجه أيّة شفافية فيما يتعلق بالأسعار، وهو أمر يؤدي حتّى إلى خلل سوقي لكونه يُنشىءُ ممارسة احتكارية. علينا أن ندعم المكتبات في إعادة التفاوض على مثل هذه العقود، وأن نقدم لها الدعم العام في حال ألغت هذه العقود، وبذلك يمكننا أن نعيد استثمار أموالنا في مشاريع نشر مستدامة.
5- المساعدة على بناء شيء أفضل. تنفق الأكاديميات وسطياً اليوم حوالي خمسة آلاف دولار على كلّ مقال منشور. تبيّن مجموعة من الدراسات ونماذج العمل المختلفة بأنّ التكلفة الحقيقية لنشر المقال يمكن أن تنخفض إلى 100 دولار عبر استخدام خطط تمويل فعّالة وعمليات شراء مجتمعية والتقنيات التي تذهب أبعد من مجرّد إنشاء ملف «PDF». إنّ بإمكاننا أن نقوم بشيء أفضل.
6- أن نستخدم مخيلتنا. كيف نريد لنظام التواصل البحثي أن يكون شكله؟ ما هي جميع السمات الرائعة التي نريده أن يشملها؟ ما الذي يمكننا فعله لتحويل رؤانا إلى حقيقة؟
إنّه لأمر فعّال أن نحقق نسبة دخول مفتوح عند 100% في المستقبل، وذلك أثناء توفير 99% من الإنفاق العالمي على النشر. يمكننا أن ننفق المبالغ التي نوفرها على الأبحاث والمنح للطلاب والباحثين القادمين من بيئات أقلّ حظاً، وعلى تطوير البنية التحتية للأبحاث العالمية، وعلى التدريب وعلى دعم العملية التعليمية. يمكننا خلق نظام متشابك يحكمه الباحثون بأنفسهم بحيث يكون مصمماً ليحقق التعاون في التواصل وإجراء الأبحاث بشكلٍ فعّالٍ وسريعٍ وبتكلفة قليلة.
لن تكون دور النشر البحثية راضية عن هذا، ولن تجلس وهي تراقب ضرب مصالحها، ولهذا علينا أن نتدخل بشكل عام كأفراد ومؤسسات وحتّى الباحثين أنفسهم لنصنع نظاماً يمثّل القيم الديمقراطية التي تستحق الدفاع عنها، وذلك عوضاً عن النظام الحالي المبني على الجشع.
المال يُفسد الجامعات
الجامعة موجودة قبل الرأسمالية، وقد رفضت الخضوع في بعض الأوقات لما تمليه عليها السوق الرأسمالية لتسعى بذلك ليس لتحقيق الربح بل إلى الحقيقة والمعرفة. لكنّ الرأسمالية تفترس كلّ ما تتمكن منه، وفي الوقت الذي زادت فيه من هيمنتها فلم يكن بالأمر المفاجئ أن تصبح الجامعات المعاصرة بشكل متزايد تابعاً ذليلاً لما سمته إيلين وود: «إملاءات السوق الرأسمالية الحتمية: المنافسة والتراكم وتعظيم الأرباح وزيادة إنتاجية العمالة».
تتجلى هذه الحتمية في الأوساط الأكاديمية بالطرق التالية الواضحة للعيان: النشر أو الهلاك، التمويل أو التجويع.
فدون الحصول على استثمار عام فيها، تصبح الجامعات مجبرة على اللعب تبعاً لقواعد القطّاع الخاص، وذلك بأن تعمل كمجال أعمال. ومجال الأعمال يدور بأكمله في النهاية حول الحصيلة، والحصيلة الصحيّة هنا تعتمد على تعظيم الربح، والذي يعتمد بدوره على التقييم الحذر والثابت للمدخلات والمخرجات. إنّ نتيجة العلوم الأكاديمية وفقاً للباحثين مارك إدوارد وسدهارتا روي: «البحث الأكاديمي في القرن الحادي والعشرين هو: الحفاظ على النزاهة العلمية وسط مناخ من الحوافز المنحرفة والمنافسة المحتدمة»، وهو ما أدّى إلى تقديم نظام جديد من مقاييس الأداء الكمي، وهو ما بات يحكم تقريباً كلّ شيء يفعله الباحثون العلميون، والتي تبدو تأثيراته واضحة على أعمالهم.
أثر المقاييس الكمية على النوعية العلمية
تتضمن هذه المقاييس والمعايير: «إحصاء المنشورات والاقتباسات وعدد المنشورات والاقتباسات، مجموعة وعناصر التأثير الصحفية والمبالغ المالية الكليّة للبحث وبراءات الاختراع الكليّة» يلاحظ إدوارد وروي بأنّ: «هذه المقاييس الكميّة تهيمن على قرارات التوظيف في المنشآت وعلى الترقيات والمناصب والجوائز والتمويل». وكنتيجة لذلك فإنّ العلماء الأكاديميين مدفوعون بشكل متزايد بالرغبة المحمومة للحصول على تمويل لبحثهم ولكي يتمّ نشره والاستعانة به في الاقتباسات. يلاحظ إدوارد وروي: «المخرجات العلمية، مقاسة بالأعمال الاقتباسية، قد تضاعفت كلّ تسعة أعوام منذ الحرب العالمية الثانية».
لكنّ الكمّ لا يعبر عن النوع، بل على النقيض من ذلك. تتبع إدوارد وروي أثر مقياس الأداء الكمي على نوعية البحث العلمي، ووجدا بأنّ له أثراً حاسماً. فكنتيجة لأنظمة المكافآت المحفزة لكمية المنشورات، أصبحت الأوراق البحثية أقصر وأقل شمولاً وهو ما يعزز: «المنهجيات الضعيفة ويزيد من معدلات الاكتشافات الخاطئة». وكردّ على تزايد التركيز على أعمال الاقتباس عند التقييم المهني، باتت اللوائح المرجعية منتفخة من أجل تلبية المعايير المهنية، مع عدد متزايد من تقييمات النظراء الذين يطلبون أن يتم الاستشهاد بعملهم كشرط للنشر.
وفي ذات الوقت فإنّ النظام الذي يكافئ زيادة تمويل المنح بالمزيد من الفرص المهنية، يؤدي إلى تخصيص العلماء لوقت أكبر بكثير من وقتهم لكتابة طلبات الحصول على المنح، وإلى المبالغة في النتائج الإيجابية لأبحاثهم لجذب انتباه الممولين. وبالمثل: فعندما تكافئ الجامعات الأقسام فيها على حصولها على ترتيب عالٍ، يتم تحفيز الأقسام «لتغيير هندستها وطريقة لعبها والغشّ من أجل الحصول على ترتيب أعلى»، وهو الأمر الذي يقوّض نزاهة المؤسسات العلمية نفسها.
نقص التمويل العام وزيادة التبعية
إنّ العواقب الممنهجة لزيادة الضغط السوقي على العلوم الأكاديمية هي كارثية على الأغلب. فكما كتب إدوارد وروي: «يؤدي الجمع بين الحوافز الضارة وانخفاض التمويل إلى زيادة الضغوط التي يمكن أن تؤدي إلى سلوك غير أخلاقي. إن تحولت الكتلة الأكبر من العلماء إلى غير جديرة بالثقة فستبدو نقطة التحوّل ممكنة الحدوث، هي أن تصبح المؤسسة العلمية نفسها فاسدة بطبيعتها فتضيع الثقة العامة بها، وهو ما ينذر بحدوث عصر ظلام جديد مع جميع العواقب المدمرة للبشرية». من أجل الحفاظ على المصداقية، يحتاج العلماء إلى الحفاظ على النزاهة، ويؤدي فرط التبعية إلى تآكل تلك النزاهة وهو ما يمكنه أن يقوّض كامل المسعى.
علاوة على ذلك، فإنّ العلماء الذين يشغلهم السعي للمنح والاقتباس، يفقدون فرصة التأمل الحذر والاكتشاف العميق، وهو الأمر الضروري للكشف عن الحقائق المعقدة. قال عالم الفيزياء النظريّة البريطاني بيتر هيغز، وهو الذي تنبأ بوجود جسيم بوزون هيغز عام 1964، لصحيفة «الغارديان» على إثر تلقيه جائزة نوبل عام 2013 بأنّه لن يكون قادراً على تحقيق ما حققه ضمن البيئة الأكاديمية الحالية.
قال هيغز: «من الصعب أن أتخيل كيف يمكن أن أحظى مطلقاً في البيئة الحالية بالمساحة والهدوء الكافيين لأفعل ما فعلته عام 1964. لم أكن لأحصل اليوم على عمل أكاديمي. الأمر بهذه البساطة. لم يكن ليتم تقييمي بأنني منتج كفاية على ما أظن».
صرّح هيغز لاحقاً بأنّه أصبح «مصدر حَرجٍ لقسمي عندما قاموا بأعمال تقييم أبحاثي. أرسلوا لي من قسم الفيزياء في جامعة إدنبرة رسالة يطلبون مني فيها: (هلّا تفضلت وأرسلت لنا قائمة بآخر منشوراتك)... فأرسلت لهم الرد: لا يوجد». قال هيغز بأنّ الجامعة أبقت على وجوده بالرغم من عدم فاعليته الإنتاجية فقط، على أمل أن يفوز بجائزة نوبل، وهو الأمر الذي سيكون بمثابة نعمة للجامعة في بيئة «أغرق أو أطفو» الحالية.
لقد بينت أبحاث إدوارد وروي بأنّ المنافسة الحادّة التي سببها انتشار المقياس الكمي، قد أدّت إلى تركيز العلماء الأكاديميين على الكمّ على حساب النوع، وهو ما يحفزهم للابتعاد عن المهم، والاختيار بناءً على عقلية مهنية بدلاً من الاختيار بناءً على عقلية علمية. باختصار: إنّ إملاءات السوق الرأسمالية (المنافسة والتراكم وتعظيم الربح وزيادة إنتاجية العمالة) تؤذي النزاهة العلمية والسعي الجمعي للمعرفة.
ينصح إدوارد وروي بعدّة صيغ إصلاح، ويركزان بشكل رئيس على تخفيف المقاييس الكمية ومنع سوء السلوك البحثي. لكن مهما تم من عمليات ترقيع إصلاحية فستبقى المشكلة قائمة ما لم نعالج سببها الجذري: أي: حتّى نوقف الهيمنة الرأسمالية على الجامعة وعلى المجتمع الذي يديمها.