اختراع العطلة...وفنون الحياة الضائعة
من اخترع العطلة؟ وكيف تحددت أيامها؟ وهل تعتبر حاجة الإنسان للراحة واللهو كسلاً ومضيعة للوقت؟ يوضح المقال التالي كيف أن رأس المال وأرباب العمل عملوا على استغلال قوة العمل للحد الأقصى، وفي سبيل ذلك حددوا له متى يعمل ومتى يستريح، مما أضاع مفهوم التوازن الصحيح بين العمل والترفيه.
تعريب وإعداد: عروة درويش
رغم أن إحياء يوم القيامة كان هو السبب الرسمي الذي جعل المسيحيين الأوائل يعتبرون أن يوم الأحد ممكن أن يكون يوماً للراحة بدلاً من السبت، فقد كانوا راغبين أيضاً بتمييز أنفسهم عن اليهود، وقد ترجمت هذه الحماسة إلى تدوين يوم الأحد كيوم راحة في التشريع الكنسي والمدني.
«الاثنين المقدس»
قبل الثورة الصناعية
بعد قرن ونصف من ذلك، أشار أعضاء حركة السبتيين إلى هذا الأمر بوصفه معاداة للسامية، ولكونه تأثيراً شديداً لعبادة الشمس الوثنية التي انتشرت بين المسيحيين الأوائل. لكن المخاوف السياسية المؤقتة لم تؤثر على الاحتفال بيوم الراحة هذا، ولذلك زالت هذه النقاشات بعد فترة.
هنالك سبب دعا إلى إعادة تقديس يوم السبت في القرن التاسع عشر، وهو السعي إلى نزع الشرعية عن يوم الاثنين وليس الأحد. ففي إنكلترا ما قبل الصناعية وفقاً لقصيدة جورج ديفيس: «الناس من جميع الطبقات وفي كلّ الأوقات أطاعوا العربدة الاحتفالية لهذا اليوم المرح». لم يقتصر الأمر على طبقة العمّال المهرة، بل جميع طبقات العمّال شهدوا «الاثنين المقدس» كعطلة من العمل، وهو الأمر الذي أثار استياء رجال الأعمال الناشئين. فرغم أنّ الكثير من العمال كانوا يقضون الاثنين المقدس في الحانات وفي أماكن صراع الديوك والكلاب، فقد كان أيضاً يوماً للراحة والاجتماع وصلة الرحم. فقد كان اليوم الذي تكون فيه الحدائق العامة: «بشكل حرفي مزدحمة بالطبقة العاملة التي ترتدي أبهى حللها بلياقة وبسعادة».
واقع أنّ الاثنين تمّ اعتماده سابقاً كيوم للراحة هو نتيجة تواتر نمطي يعود لحقبة العمل ما قبل الصناعي، والذي كان يجتمع فيه العمال لإتمام مجموعة محددة من المهام والعمل بشكل مكثف بضعة أيام حتّى إتمامهم لهذه المهام، لينصرفوا إلى اللهو والراحة بقية الأسبوع. ورد في وصف ثومبسون: «كان نمط العمل يقوم تارة على العمالة المكثفة وتارة على الراحة، وذلك في الوقت الذي كان الأشخاص يتحكمون بحياة العمل الخاصة بهم». كانت فكرة أن تقوم بعمل ما خلال وقت معين بشكل منتظم، وقت مقتطع من وقت «الهوايات» لا يزال أمراً غريباً. في عام 1806 تمّ تعيين لجنة من مجلس العموم لتقدير وضع صناعة الصوف في إنكلترا ووجدت بأنّ: «هنالك نفوراً من جانب الرجال من أيّة ساعات عمل معينة أو عادات منتظمة». لقد كان العمل يعني أداء مجموعة من المهام، وعندما يتم الانتهاء من هذه المهام يمكنك العودة للعب من جديد.
وممّا لا يثير دهشتنا فقد كان أرباب العمل لا يتوقفون عن إبداء امتعاضهم «بسبب الصعوبات الكبيرة في حمل رجالهم على العمل أيام الاثنين» وعن انزعاجهم من عدم قدرة الحوافز المادية على تغيير سلوكهم. فقد عبّر أحدهم بالقول: «لن يقوموا بأكثر من العمل الضروري لهم».
العمل لأكثر وقت ممكن
أصبحت هذه المشكلة حادّة فجر بزوغ القوّة البخارية. فقد احتاج الرأسماليون، مدفوعين باستثماراتهم الكبيرة في وسائل الإنتاج، إلى الأيدي العاملة لتشغيل آلاتهم لأكثر وقت عمل ممكن في اليوم، وهي الحاجة التي وقف يوم الاثنين المقدس عائقاً أمامها.
إضافة إلى التكتيكات المباشرة لإلغاء عطلة الاثنين، مثل: الحرمان من أجر يوم الثلاثاء لمن يغيب يوم الاثنين، فقد كان هنالك تطوران قوضا مؤسسة الاثنين المقدس في منتصف القرن التاسع عشر. كان الأول، هو: الصرامة الأخلاقية للعصر الفكتوري: فليس من قبيل المصادفة أنّ حركة الزهد الأولى قد نشأت في بداية القرن التاسع عشر، وقد كانت موجهة بشكل خاص من أجل مداواة العادات «المنحطة» المفترض وجودها لدى الطبقة العاملة. لقد تطلّب إيقاع الآلة البخارية إنهاء الاثنين المقدس، ولهذا أتت حركة الزهد لتظهر المرح بأنّه أمر بربري.
التكتيك الثاني، هو: حركة «نصف عطلة» يوم السبت. كان أرباب العمل يشيدون بأنفسهم دوماً بأنّهم يمنحون العمّال نصف يوم راحة في مساء يوم السبت «لحثّ الطبقات العاملة أن تكون أكثر ثباتاً ... وأن تمنحهم الوسيلة لإعادة تجديد أنفسهم بشكل شرعي». شددت الصحافة على هذا الأمر ونشرت شهادات امتنان لعدد من العمال على إحسان أرباب عملهم. ثمّ تحولت النشاطات المخطط لها: «المتعة العقلانية»، مثل: الحفلات الموسيقية، وكرة القدم، إلى النشاطات المعتمدة في العطل، وقد أصبحت إجبارية للنساء بموجب قانون المصانع لعام 1867 ثم فازت بها حركة الساعات التسع عامي 1871-1872. ومع تحوّل نصف عطلة يوم السبت إلى عادة، بات الاثنين المقدس مرتبطاً أكثر فأكثر بالبوهيمية وبالسكر. فوفقاً للمؤرخ دوغلاس ريد: «باتت نصف عطلة السبت تستخدم لصيد السمك، فمنح ثلاث ساعات يوم السبت كان يقابله أخذ تسع إلى عشر ساعات أو حتى إحدى عشرة ساعة يوم الاثنين».
تغريب العمال عن النشاط الإنتاجي
لكن تقويض الاثنين المقدس كان يمتد إلى أكثر من مجرّد تمديد عدد ساعات العمل الأسبوعية سبع أو ثماني ساعات: فكما ذكرنا قبلاً، فإنّ جعل العمال يظهرون بشكل منتظم وروتيني يوم الاثنين كان جزءاً من تحويل العمل المرتبط بالمهمّة إلى عمالة مرتبطة بالوقت. فكما كتب ثومبسون في مقاله الكلاسيكي: «الوقت انضباط العمل والرأسمالية الصناعية»، قاد هذا التحويل إلى زيادة الغموض في حياة العمل. فعندما كان العمل يرتبط بالمهمة، مهما كانت هذه المهمة صعبة، فقد أظهر العمّال ذكاءً كبيراً في التعامل معها: فقد كان لإتمام هذه المهمة بداية ونهاية، وأنّ حصيلة وثمرة عمل أحدهم هي أمر قابل للمس. ووفقاً لتعبير ثومبسون: «بدا واضحاً بأنّ الفلاحين والعمّال يحرصون على: الضرورة الملحوظة».
فالأمر ليس ذاته مع العمالة المحددة زمنياً: يبدأ المرء وينتهي دون أن تنتهي المهام، وهو ما يظهر بشكل واضح بأنّه معزول عن أيّ منتج أخير، ليكون مجرّد قطع من عملية أكبر مبهمة بالنسبة للعاملين فيها. وعليه فإنّ القضاء على الاثنين المقدس قد نتج عنه بالإضافة لزيادة ساعات العمل الكمية، نقلة نوعية ناحية ما سماه ماركس: تغريب العاملين عن «منتج العمالة» و«عن النشاط المنتج».
كانت مدارس القرن التاسع عشر في هذه الأثناء، وهي «المحركات البخارية للعالم الأخلاقي» كما وصفها الأوينيون (حركة اشتراكية طوباوية من القرن التاسع عشر)، تضطلع بمهمة إعادة صياغة التكيّف مع التغريب بوصفه أخلاقَ «ادخار الوقت». في مرحلة معينة أدرك جميع التلاميذ في المجتمع الرأسمالي بأنّ التعليم يدور حول تعليم تحمّل النشاطات غير الهادفة واستيعاب المعارف غير السياقية ضمن جدول صارم، وذلك كصيغة من التكييف من أجل حياة العمالة المغرّبة. لكن فقط في القرن التاسع عشر بدأت المدارس تصبح مواقع للتطبيع الثقافي مع الإيديولوجيا الرأسمالية.
تسخيف الوقت الحر
علاوة على التدخل المطلوب في مراحل مبكرة، فقد احتاج القضاء على الاثنين المقدس إلى تعديل جذري على ما كان يعتبر «وقتاً حراً». ففي بداية القرن التاسع عشر كان مصلحو الطبقة الوسطى أمثال جون فوستر حانقين على انتشار نماذج الهوايات: «يا لها من طريقة تلك التي ينفق فيها أولئك الذين لا يملكون تهذيباً ذهنياً كلّ هذا الوقت الثمين؟ نراهم غالباً ما يهدرون ببساطة أجزاء الوقت تلك. سيفعلون ذلك لساعة أو لساعات... سيجلسون على الأريكة أو يستلقون على ناصية أو على أكمّة... لينتج عن هذا فراغٌ تام وكسل... أو يجتمعون في مجموعات على جانب الطريق يتحينون الفرصة لأيّ شيء يرونه لإلقاء النكات المقززة والتعبير عن الوقاحة أو التهكم بجلافة، على الشخص الذي يمر».
ولتجنّب أن يتعرض المرء لسخرية الطبقة العاملة، تمّ بسرعة نشر النشاطات المخططة (المتع العقلانية التي ذكرناها) من أجل منح الغاية و«التهذيب» لأولئك الذين يفتقدونها. وبالتالي كان لزاماً أن يتم تطوير صيغ الهوايات غير المحدودة، وهنا بدأ المسار الثقافي الذي أوصلنا في نهاية المطاف إلى أغنية البوب، التي لا تتجاوز مدتها الثلاث دقائق وإلى البرنامج التلفزيوني الذي لا تتجاوز مدته الاثنتين وعشرين دقيقة. وتمّ بهذا وضع تعريفات غشاشة «للعمل» و«للحياة». ثمّ في سبعينيات القرن التاسع عشر: «لسنا بحاجة للقول: أنّ ليالي السبت قد احتشدت (آلهة العرض) بأعداد كبيرة في المسارح، وبأنّ الأرضية قد دحلت وهيئت لتنمو اتحادات كرة القدم».
وكما قال ثومبسون: فمن الخطأ أن نسأل أنفسنا عن كيفيّة القيام «باستهلاك جميع وحدات زمن الفراغ الإضافية» في عالم ما بعد الرأسمالية، ذلك أنّ مثل هذا السؤال يفترض تعريفاً لوقت الفراغ معادياً للاشتراكية، تعريفاً تمّت صياغته من قبل حماة عطلة نصف يوم السبت. إنّ السؤال الحقيقي، وهو السؤال الذي يتعارض مع ثمار الذاتية الحالية، هو: «كيف ستكون كميّة خبرات البشر الذين يملكون كلّ هذا الوقت غير الموجه ليعيشوه؟».
وصل ريد إلى استنتاج مفاده أنّ: «تقويض الاثنين المقدس قد ألحق ضرراً كبيراً بنوعية الحياة القائمة والمحتملة للطبقة العاملة. تمّ منحهم نصف يوم مقابل يوم كامل. عند الخضوع لمعايير الرأسمالية الصناعية تمّ تضييع مفهوم التوازن الصحيح بين العمل والترفيه». لكنّ تذكر يوم الاثنين هو أكثر من مجرّد رثاء صيغة حياة ماضية، حيث كان العمل أكثر منطقية، وحيث كان لدينا سيطرة أكبر على إيقاعه، وحيث لم يكن «الوقت الضائع بلا هدف» قد تسرّب إلى صيغ أكثر تخطيطاً. بل أنّه تذكير لنا بما يمكن لنا كسبه من جديد.
بدعة «أخلاقيات العمل»
قال أحد المناضلين النقابيين: «لو أنّ العمل الشاق بهذه العظمة، لأبقاه الأثرياء لأنفسهم».
قد تكون أخلاقيات العمل «work ethics» أمراً مهيمناً ثقافياً، لكنّها بالتأكيد ليست مُحكمة ولا غير قابلة للتخطئة. وقصّة أخلاقيات العمل الرأسمالية لا تدور فقط حول التابعين الأذلاء وصراعهم للحصول على التقدير، بل أيضاً حول إنكار ومقاومة الخطاب المعياري للعمل.
هنالك تاريخ موازٍ يضمّ أولئك الذين «فشلوا» في استيعاب «كتاب العمل المقدس»، وهم «التابعون السيئون» الذين يقاومون، وربما يتفادون المساءلة حتى. يمكن أن يركز أحد فصول هذا التاريخ على احتجاجات قطاعات الطبقة العاملة الصناعية، التي لم تستطع الأخلاقيات العمالية أن تعبّر عن وعيهم الطبقي. إنّهم الذين يصفهم مايكل سيدمان: «يتجنبون المكان والزمان واحتياجات العمالة المأجورة». وقد يبرز وجه آخر لرأي أولئك العاديين الذين يقارعون الرؤساء والقادة، بحيث لا يرون في أوقات الفراغ لا وسيلة لإعادة إنتاج قوّة العمل وضمان الاستهلاك، ولا كطريقة لنشر فرص العمل المتاحة ودفع الأجور للأعلى، بل كهدفٍ بحدّ ذاتها.
يمكن لهذا التاريخ البديل أن يركز أيضاً على القصّة التي يرويها روبن كيلي عن شرائح من الطبقة العاملة السوداء في الولايات المتحدة، مثل: ذوي المعاطف الطويلة «zoot suiters» ومحبي الجاز: «الذين رفضوا أن يتحولوا إلى بروليتاريين صالحين» واتبعوا طريقاً آخر من التمرّد العرقي، ساعين لإيجاد المعنى والمتعة في أزمنة وأماكن اللاعمل. أو الموجة الثانية من النسويات، بمن فيهن النسويات المرتبطات بحركة «الأجور للعمالة المنزلية»، اللواتي أصررن على أنّه سواء أكان عملاً مأجوراً أم عملاً أسرياً غير مأجور، هو ليس بالأمر الذي يجب على النسوة أن تطمحن إليه، وعليهن على العكس أن يحاولن الفرار منه. وقد يشمل تاريخ عدم التلاؤم مع أخلاقيات العمل هذا أيضاً مختلف أنواع ثقافات الشباب الفرعية، بدءاً من البيتيين إلى الهيبيين، مروراً بالبونكس والمتكاسلين، جميع هؤلاء يشكلون معارضة لما دعاه إدوارد تومبسون: «قيم عهد المتطهرين».
يجد التمرّد ضدّ فرض العمل اليوم، ما يعبّر عنه في جداول أعمال عدد من الجماعات والمنظمات الناشطة، ويمكن القول: إنّ بعض أكثر الأمثلة حيويّة خرجت من رحم حركات الشكوكية الأوروبيّة. لم تستجب هذه الحركات لزيادة تهلهل التشريعات ولزعزعة الأمان في العمل بالدعوة لاستعادة علاقات الأجور المستقرة، والتي يمكن الاعتماد عليها، والتي يفرضها طرف واحد وتعود لعلاقات الأجر والاستهلاك التقليدي، بل بالدعوة لكينونة تؤمن علاقات مختلفة بين الحياة والعمل. إنّ ما أقصده هو القول ببساطة إنّ تاريخ فرض العمالة المأجورة وأخلاقياته المهيمنة لا يمكن أن يكتمل دون التاريخ الموازي للتمرّد عليه ورفضه.
عند تحقيق المجتمع الاشتراكي لن يعود العمل ليدخل في مجال السيطرة الواعية فحسب، بل سيدخل أيضاً في الوضوح الأساسي. ستصبح المدارس حرة في اكتشاف ما تعنيه أصول التربية، وهي المهمة التي باتت مستحيلة ضمن ظروف المطالب الرأسمالية. وسيحظى الجميع بالوقت والمساحة الكافية من جديد «لإعادة تعلم بعض فنون الحياة الضائعة في الثورة الصناعية: وهي فنون ملء فجوات أيامهم بعلاقات شخصية واجتماعية أكثر ثراء وأكثر تسلية».