أوروبا ومعضلة الهجرة...جذور الأزمة وآفاق الحلول
إنّ اعتماد سياسة هجرة أكـثر انفتاحاً سوف لن يهدد لا المهاجرين ولا مواطني الاتحاد الأوروبي، بل سيؤدي إلى نفع كلا الطرفين. إنّ صياغة مثل هذه السياسة تعني النظر إلى النزاع القائم حول التنقل بحريّة عبر المتوسط بطريقة أكثر عمقاً وبالتالي حلّه بشكل أكثر جذرية.
تعريب وإعداد: عروة درويش
لا تدور الأزمة الحالية التي تحيط بموضوع الهجرة حول عدد المهاجرين الذين يعبرون البحر، والتي هي في أدنى مستوى لها منذ عام 2013، بل تدور حول السياسات. بات الميل نحو اتباع نهج مغلق، ووضع مسألة الهجرة ضمن التجاذب السياسي قويّاً جداً بعد أعوام من التوتر الذي سببه وصول المهاجرين الضعفاء ذوي الأجساد المنهكة إلى السواحل الأوربية، وهو الوصول الذي يشعل أزمات سياسية كبرى على طول الاتحاد الأوربي.
أزمات سياسية تولدها الهجرة
توجد واحدة من أهم بؤر زلزلة هذه الأزمة في إيطاليا، حيث يمنع ماتيو سالفيني- وزير الداخلية الجديد المنتمي إلى أقصى اليمين- المنظمات غير الحكومية من إنزال المهاجرين الذين تمّ إنقاذهم من السفن. وهذه هي الحال التي وجدت مع الـ 629 شخصاً الذين كانوا على سطح سفينة «أكواريوس».
والبؤرة الثانية: هي ألمانيا، حيث يواجه التحالف الحكومي بقيادة أنجيلا ميركل خطر السقوط بعد تهديد وزير الداخلية، هورست سيهوفر، بالاستقالة أو إعادة اللاجئين عن الحدود الألمانية. ورغم توصل المستشارة والوزير لاتفاق فإنّ الأزمة لم تنحل بعد لكون أطراف الحكومة الأخرى قد لا ترضى عن أي اتفاق مخالف لما تمّ الاتفاق عليه سابقاً. لن تستمر ألمانيا على الغالب بعروضها التي تقدمها للاجئين، أو بدعم سياسة الاستجابة للواصلين إلى شطآن الاتحاد الأوروبي، وستضطرّ لدعم وتعزيز السياسة التي دخلت في التطبيق منذ 2015: وهي منع المهاجرين من عبور البحر المتوسط عبر الاستعانة بمصادر رادعة من خارج دول الاتحاد الأوربي.
«التوافق على الإغلاق»
لسياسة الإغلاق آثار رهيبة على المهاجرين، مثل: أن يصبحوا عرضة للتعذيب والإهانة على يد خفر السواحل الليبيين أو غيرهم من الذين سيعترضونهم في البحر، والذين تمّ تدريبهم وتنظيمهم ومنحهم المعدات اللازمة في إيطاليا أو في إحدى دول الاتحاد الأوربي الأخرى. ففي ظلّ التجاذبات السياسية التي غذّت صعود أحزاب أقصى اليمين الشعبوية على طول أوروبا، والتي باتت تهدد الاتحاد الأوربي نفسه بالتفكك، بات حتّى المصنفون كتابعين «للتيارات الإنسانية» و«تيار يسار الوسط» يقبلون هذه السياسات على أنّها «شرّ لا بد منه».
«أليس أجدى بهؤلاء المهاجرين أن يبقوا في أوطانهم بدلاً من محاولة الوصول إلى أراضي أوروبا التي أدارت ظهرها لهم والتي تهددهم بإعادتهم إلى حيث جاؤوا؟». سواء يتمّ قول هذه الجملة بتردد أو بثقة، بصوت عالٍ أم بصوت خافت، بعدوانية أم بطيب قلب، فإنّ المواطنين الأوروبيين بمعظمهم يتمنون لو أنّ المهاجرين لديهم يختفون هكذا بكل بساطة فتنتهي المشكلة.
إنّ ما يُدعى «بالتوافق على الإغلاق» هو مجرّد وهم. فسياسات الإغلاق المتعارضة بشكل تام مع الديناميكية التي تتمّ فيها الهجرة قد فشلت بشكل منهجي في وقف وصول اللاجئين غير الشرعيين، وذلك كما يظهر من السجلات في الأعوام الثلاثين الماضية.
مذ قامت الدول الأوروبية بتعميم حرية الحركة للمواطنين الأوربيين في التسعينيات، في الوقت الذي أنكرت هذا الحق على السكان غير الأوروبيين، لم يتوقف وصول المهاجرين «غير المرغوب فيهم» بل تمّ الدفع بهم إلى الزوايا المظلمة فقط. والسبب في ذلك هو أنّه طالما هنالك وجود «لعوامل دفع» قويّة كالحرب والأزمات الاقتصادية، وكذلك «عوامل سـحب» قويّة كالعمل وفرص الرفاه واحترام حقوق الإنسان، وأنّ هذين العاملين متصلان عبر شبكات الهجرة العالمية العابرة للحدود، فستبقى فاعلية السياسات التي تطبقها الدول لوقف الهجرة بشكل دائم ضعيفة.
فعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية لم يكن الأمر يستغرق المهاجرين أكثر من وقت بسيط لفتح عدّة طرقٍ ومسارات جديدة للهجرة مقابل كلّ طريق ومسار تغلقه الدول. وتبعاً لكون هؤلاء المهاجرين مضطرين لاستخدام وسائل خطرة للانتقال، وغالباً ما تكون الشبكات الإجرامية هي المتحكمة بهذه الوسائل، فهم يضعون حياتهم في خطر كبير. لقد تمّ تسجيل وفاة أكثر من 30 ألف مهاجر في البحر منذ التسعينيات. لقد بات البحر الذي كان صلة وصل بين الحضارات البشرية لقرون قبراً كبيراً لهؤلاء البشر.
الخوف يولّد الخوف: الحلقة الخبيثة
إنّ سياسات الإغلاق هذه، والتي طبقتها في الغالب حكومات الوسط تحت ذريعة محاولة منعها- تصاعد المشاعر المعادية للمهاجرين- قد ساهمت في نهاية المطاف في المشكلة. فرغم الوسائل العسكرية المذهلة التي وفرتها الدولة لشرطة الحدود استمرّت الهجرة غير الشرعية، ممّا أعطى شعوراً لسكان أوروبا أن حكوماتهم قد «فقدت السيطرة»، وهو الشعور الذي تمّ إذكاؤه وتسليط الضوء عليه في أعقاب الانتفاضات العربية.
قاد عدم شرعنة الهجرة إلى حالة غير مبررة من اللامساواة في قلب المجتمعات الأوربية، ممّا سمح لأصحاب العمل بتخفيض الأجور في القطاعات التي يمكن للمهاجرين الواقعين في الخطر أن يشغلوها. ترك هذا الأمر انطباعاً لدى الطبقة العاملة بأنّ المهاجرين باتوا يشكلون منافسة غير مشروعة لهم.
وعليه فإنّ سياسات الإغلاق والتفريق لم تولّد سوى المزيد من الخوف ورفض المهاجرين. استغلت الأحزاب التي حشدت المقترعين- على قاعدة الخوف- هذه المشاكل، وقد جذبت في حقيقة الأمر انتباه العاطلين عن العمل الذين يزداد عددهم والذين لا ضمان صحياً لديهم والذين ضربتهم اللامساواة والذين يعدّون من «خاسري العولمة»، والذي يعدّ استياؤهم من الحال هو التربة الخصبة للمشاعر المعادية للهجرة.
ولهذا فقد علقنا في حلقة خبيثة هي المسؤولة عن إشعال نار الاستياء، وعن تصاعد قوّة أقصى اليمين.
نحو سياسة هجرة مفتوحة وتهدئة النزاع من أجل التنقل
أصبح البحر المتوسط على مرّ الأعوام جبهة تشهد النزاع من أجل التنقل، وهو الأمر الذي اشتدّ في أعقاب الانتفاضات العربية عام 2011، وأزمة الديون الأوربية. ومنذ ذلك الوقت أذكى كلا العاملين حركات الهجرة تجاه أوروبا واحتلت القوى التي تحاول وقف هذه الحركات مركز الضوء.
وقد أدّى نقص التضامن داخل الاتحاد الأوروبي مع ما يسمّى «دول الجبهات» في جنوبي وشرقي أوروبا إلى ضـخّ المزيد من الزخم في الأزمة. وفي حال الاستمرار في تطبيق السياسات ذاتها فلن تكون هنالك نهاية في الأفق للتوتر والعنف المحيطين بمسألة الهجرة، أو بالاتجاهات السياسية المقلقة التي تتصاعد بذريعتها.
إن نقلة جوهرية نموذجية هي أمر ضروري لكسر هذه الحلقة الخبيثة. على المواطنين الأوروبيين وصانعي السياسات على السواء أن يدركوا بأنّ المسألة لا تتعلق بما إن كان المهاجرون سوف يمارسون حريتهم في عبور الحدود، بل في التكلفة البشرية والسياسية لهذا العبور.
يمكن لسياسات الدول أن تخلق فقط إطاراً قانونياً لحركة البشر ليتبدى أثرها بالتالي عن طريق تنظيمها بشكل جزئي، لكن لا يمكن بأيّة حال أن تؤدي إلى منعها. يمكن فقط لسياسة أكثر انفتاحاً بما يخص الهجرة أن تجعل الهجرة تأخذ شكلاً لا يهدد لا المهاجرين ولا المواطنين الأوروبيين.
فعندما يحظى المهاجرون بطرق دخول شرعية إلى أوروبا، لن يكونوا مضطرين عندها للجوء إلى المهربين وإلى المخاطرة بحياتهم وهم يعبرون البحر. فإن لم يتم النظر إلى الهجرة ومراقبتها بالوسائل العسكرية فستبدو كعملية طبيعية غير قادرة على توليد المخاوف. يمكن عندها للدول أن تكشف بسهولة أكبر مصادر التهديد بين المهاجرين بما أنّ الهجرة لن تعود بكاملها أمراً مرمياً في الزوايا المظلمة. لن يسمح الوضع المقونن للاجئين عندها لأصحاب الأعمال بتخفيض ظروف العمل وجعلها أسوأ.
لكنّ مثل هذه السياسة بعيدة عن أن تكون جزءاً من جدول الأعمال الأوروبي للتعامل الكامل مع الأزمة. ذلك أن تطبيقها لن يقتصر على جعل السياسات أكثر انفتاحاً، بل سيتضمن اتخاذ إجراءات لازمة لنجاح مثل هذه السياسة، تجعلها إن تمّ الركون إليها علاجاً فاعلاً للجذور العميقة للنزاع على التنقل.
النظر أبعد من المقاربة الأوروبية الأحادية وغير المترابطة
يدّعي الاتحاد الأوروبي اليوم بأنّه يعالج أحد جوانب النزاع حول التنقل، وذلك باستخدام المساعدات ضمن ما يسمّى: «المقاربة العالمية للهجرة». فهو يدّعي بأنّه بعمله هذا يقارع «الأسباب الجذرية» التي أدّت إلى تقوية الهجرة ناحية أوروبا. أظهرت الأبحاث بوضوح بأنّ التنمية لا تحدث بشكل أوتوماتيكي ويقودها لتقليل الهجرة. لن يكون لهذه السياسة إلّا تأثير ضئيل طالما أنّ سياسات التجارة غير العادلة بين الاتحاد الأوربي والجنوب العالمي مستمرة ولا تغيير فيها، وهي هنا على سبيل المثال لا الحصر الزراعة والصيد في إفريقيا.
فمن الناحية العملية نتج عن استخدام الاتحاد الأوروبي لمنح المساعدات تحت ستار التنمية، فرض سياسات تحكم بالهجرة على الدول المتلقية في الجنوب العالمي، فبات الاتحاد الأوروبي بذلك يدعم الأنظمة التسلطية التي كانت هي السبب الأساس في هروب اللاجئين.
وعندما لم يفاقم النزاع- من خلال تدخله العسكري- كما حدث في ليبيا، أثبت الاتحاد الأوروبي أنه غير قادر على العمل كقوة استقرار في مواجهة النزاعات المدنية التي يتم تدويلها. يتضاعف هذا الفشل في وقت التنافس الشديد على الهيمنة العالمية. فالالتزام الحقيقي بالعدالة العالمية وبحلّ النزاعات هو أمرٌ ضروري ولازم، إن كانت أوروبا ترغب في الحدّ من عوامل إجبار وضع الكثير من البشر في مسارات صعبة، تجبرهم على النزوح عن مناطقهم وأقاليمهم، والذين لا يصل منهم إلى شواطئ أوروبا إلا عدد يسير.
معالجة الأسباب المؤدية لإقصاء المهاجرين
يقبع خلف نقص التوافق داخل الاتحاد الأوروبي ما يسمّى «بالمقاربة العالمية»، والتي تعاني من كونها أحادية الجانب، والتي تركز على الهجرة بوصفها «المشكلة».
وكنتيجة لذلك فهي تفشل في رؤية الهجرة بوصفها عملية اجتماعية طبيعية. وبالتالي هي غير قادرة على علاج الظروف التي تؤدي إلى تشكّل الدافع الاجتماعي والسياسي وراء حدوث الهجرة وإقصاء المهاجرين. إنّ مجرّد قدرة أن يؤدي وصول بضعة آلاف من المهاجرين إلى أوروبا إلى وضع الاتحاد الأوربي في هذه الأزمة الواضـحة يظهر مدى محدودية أفق «المقاربة العالمية»
من اللازم على صانعي القرار على المستوى المحلي والدولي، وبشكل متزامن أيضاً على الباحثين ومنتجي الثقافة والحركات الاجتماعية، ألّا تكتفون بالنقد الأخلاقي للعنصرية ولرهاب الأجانب، بل التصدي للعوامل المتجذرة عميقاً في تشكيل مثل هذه المشاعر العنصرية.
إنّ ما نحتاجه هو نظام اقتصادي أكثر شمولاً وعدلاً يمكنه أن يخفف من استياء السكان الأوروبيين. علاوة على ذلك يجب التأكيد وإبراز مزايا العيش في مجتمعات متنوعة بحيث يمكن تخطي التوترات التي تنشأ من اختلاف الثقافات والبشر بشكل طبيعي وسلس.
ويجب التأكيد على الروابط والقواسم المشتركة بين مواطني الاتحاد الأوروبي والمهاجرين. فالتضامن والمساواة بين المواطنين الأوروبيين والمهاجرين هي واحدة من الشروط الجوهرية للدفاع عن حقوق العمّال في ظروف عمل ملائمة.
الجميع في مركب واحد
إنّ معالجة الجذور العميقة المسببة للنزاع حول التنقّل ليست بالأمر الهيّن، فهي تنطوي على إدراك أنّ التوترات المحيطة بالهجرة غير قابلة للحل عبر سياسات الهجرة وحدها، أو من قبل صانعي القرارات وحدهم في هذا السياق. فالحل يتضمن رسم مسار يتم اتباعه بشكل جماعي يؤدي إلى اعتماد سياسات هجرة أكثر انفتاحاً، ولكن الأهم: أن نقيم أولاً مجتمعاً أكثر عدلاً. هذا الأمر ضروري لوضع حدّ لموت المهاجرين أثناء عبورهم البحر وفي تلك الحلقة الخبيثة المفرغة التي تفرضها سياسات الإغلاق، والتي تجد في داخلها العنف وشيطنه الهجرة. لقد فشلت سياسات الإغلاق في إيقاف الهجرة غير الشرعية، ولم تفعل أكثر من إذكاء نار اليمين المتطرف واتباع طريق تفكيك أوروبا. إن كانت أوروبا تريد إيقاف غرقها فعليها أن تنهي اتباع السياسات التي تفرض على المهاجرين الغرق في البحر المتوسط. سواء أعجبنا الأمر أم لا، وسواء أحببنا وصول المهاجرين إلى أوروبا أم لا، فجميعنا في مركب واحد.