أصل العلة ليس بالروبوتات:«الاقتصاد الأمريكي اقتصاد بطالة»
كنتُ أسخر منذ بضعة أسابيع من السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، شون سبايسر، بسبب كلامه الفصامي: «أظنّ بأنّ هناك خلطاً بين الرقم الكلّي للأشخاص العاملين، وبين تعليقات الرئيس القديمة التي عكست بأنّ اهتمامه الكلي ينصبّ على معرفة عدد الأشخاص الحقيقي الذين يعملون في هذه البلاد. وأنّ القاسم المشترك، بمعنى النسبة المئوية لعدد الناس الإجمالي، ليس انعكاساً دقيقاً لعدد الناس العاملين في هذه البلاد».
إعداد وتعريب: هاجر تمام
يعلم الله كم من السخرية يستحق على كلامه. لكنّه بدا وكأنّه مرتبك بخصوص نقطة جديّة: تخبرنا معدلات البطالة قصّةً مجتزأةً فقط عن سوق العمل. فإن كانت المعدلات منخفضةً لأنّ الكثير من الناس قد تخلوا عن البحث عن عمل لكون اليأس قد أصابهم، فهم على ذلك لا يعدون عاطلين عن العمل، وعليه، فإنّ معدلات البطالة ستخبرنا بقصة مضللة.
البطالة والفروق بين الجنسين
إذاً، هل لدى سبايسر، بتوجيه من الرئيس ترامب، وجهة نظر حقيقية هنا، وذلك رغم عدم قدرته على التعبير عنها؟
نعم هذا صحيح. فرغم أعوام الانتعاش من عمق الكساد الكبير، فإنّ ما يسمّى بمعدل العمالة المقرون بعدد السكان (إيبوب)، وهو جزء السكان غير المؤسساتيين الذين يزيد عمرهم عن ستّة عشر عاماً ويعملون بأجر، يبقى أقل من ذرا الدورية السابقة (غير المؤسساتيين: تعني الذين ليسوا في السجن أو في مشفى للأمراض العقلية أو في بيوت الرعاية. ونظراً للعدد الهائل من الأشخاص الموجودين في سجون الولايات المتحدة فهي ليست نسبة صغيرة، ولكنّ مناقشة الأمر ستتم في مكانٍ آخر).
لو أنّ جزء السكان العاملين اليوم هو ذاته في كانون أول 2007، عندما كان الكساد الكبير يبدأ تأثيره، لحصل 4.3 مليون شخص زيادة على عمل. ولو كانت النسبة هي ذاتها في أعلى مستوى لها في نيسان من عام 2000، لعمل 7.3 مليون شخص زيادة مقابل أجر. وكلاهما رقمان كبيران، حتّى في بلد يبلغ عدد العاملين فيه 153 مليون.
فيما يلي بعض الجداول البيانية لتوضيح هذه النقطة. أولاً: المعدل الموسع للتوظيف المقرون بعدد السكان (إيبوب) منذ بداية الأرقام الحديثة الشهرية عام 1948، والتي تمّ حسابها من خلال استطلاع ضخمٍ جدّاً على المنازل (الشكل رقم1).
يُبرز هذا الجدول الكثير من الأشياء. أولاً: تبدو جميع الخطوط مستوية إلى حدّ ما، سواء بالنسبة للرجال أو للنساء. يبدأ عند 56.6% في عام 1948، ويصل عند 60.1% في آذار 2017، حيث يهبط من الذروة 64.7% في نيسان 2000. لكنّ المسارات الجنسانية تتخذ مسارات مختلفة كليّاً. ينخفض معدل الرجال بشكل ثابت، ويشتدّ هبوطه خلال الكساد الكبير، حيث يهبط في أغلب العقود السبعة الماضية، من 83.8% في كانون الثاني 1948، إلى 66% في آذار 2017. وقد كان 72.1% من الرجال البالغين يعملون في وقت الذروة في عام 2000.
وعلى النقيض من ذلك، فقد ارتفع خطّ النساء بشكل مطّرد أكثر من نزول خطّ الرجال، فمن 30.9% إلى الذروة عند 58% عام 2000، وهو ضعف الرقم تقريباً. بدأ ينخفض منذ ذلك الحين ليصل إلى 54.7% الشهر الماضي. ومن أجل العودة إلى الذروة عام 2000، يجب على الرجال أن يجدوا 4.9 مليون، وعلى النساء أن يجدوا 2.8 مليون فرصة عمل. رغم أنّ النساء يعانين من التمييز بشكل شديد في سوق العمل، ورغم أنّ عدد الرجال العاملين هو أكثر من النساء، فإنّ الكساد الكبير كان أقسى على الرجال (رغم أنّ الانتعاش من تلك الانخفاضات كان أكثر «لطفاً» ناحيتهم).
حجة «شيخوخة السكان» تسقط
لماذا فشل الاقتصاد الأمريكي في توليد فرص عمل كافية للعودة إلى مستويات التوظيف ما قبل 2007؟ (سأحصر وجهة النظر الجنسانية في الوقت الحاضر، مع القول بأنّ التغييرات الهيكلية على المدى الطويل قد أثّرت على الصناعات ذات العنصر الذكوري الأكبر مثل الصناعات التحويلية، بينما قامت بتعزيز الأعمال ذات الحضور الأنثوي الأكبر، مثل البيع بالتجزئة أو الرعاية الصحيّة). فالأمر ليس أنّ الروبوتات تسرق وظائفنا، بل أنّ نموّ الإنتاجية يقارب الصفر. وهذا يناقض بشدّة السنوات التي سبقت ذروة التوظيف في عام 2000، عندما كانت الإنتاجية قويّة جداً، ومثلها كان نموّ التوظيف.
أحد التفسيرات التي كان يفضلها «الديمقراطيون» خلال إدارة أوباما هي «شيخوخة السكان»، حيث إنّ نسبة التوظيف في الفئات العمرية الكبيرة هي أقل منها في الفئات العمرية المنخفضة. لكنّه تفسيرٌ جزئي وحسب. لقد كان النمو بطيئاً جدّاً في هذا التضخّم، وهو الأبطأ على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. ولغرابة الأمر، فإنّ نموّ التوظيف كان أكثر ثباتاً في الحقيقة ممّا قد يشير إليه نمو الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بالاعتماد على علاقتهما التبادلية التاريخية الوثيقة. لو أنّ الروبوتات هي المُلامة، لكان العكس هو الصحيح.
دعونا نلقي نظرة عن كثب إلى قضيّة الشيخوخة (الشكل رقم2). ها هي بعض الرسوم البيانية التي تظهر معدلات التوظيف بحسب الفئة العمرية. أولاً: هناك ما يدعى بالعمّال ذوي السنّ الرئيسة، وهم من تتراوح أعمارهم بين 25 و54 عاماً. الهبوط في توظيف الذكور على المدى الطويل هو أكثر نعومة، والصعود لدى الإناث أكثر ثباتاً. لكنّ القصّة لا تختلف اختلافاً عميقاً عن الرسم البياني العام المشار إليه في الأعلى.
ولننظر تالياً إلى الرسم البياني عن العمّال الأصغر سنّاً (الشكل رقم3).
تقلّ العمالة بشكل حادّ عمّا كانت عليه في عام 2000، رغم تعافيها بعض الأحيان من العمق في 2009 و2010. لا يزال هذا الميلان أكثر اعتدالاً بالنسبة للمجموعة التي تضمّ الأعمار بين العشرين والرابعة والعشرين، ولا تزال ناعمة بخصوص فئة الخامسة والعشرين عاماً إلى الرابعة والثلاثين.
أحد أسباب الضعف لدى الأصغر سناً هو ذهاب عددٍ أكبر ممّن في أواخر مراهقتهم وبداية العشرينيات إلى الجامعة. هذا سيقود بشكل افتراضي إلى تحسين فرصهم الوظيفية في المستقبل، وهو ما يناقض بعض الأشياء المبتذلة التي تقال في الأنحاء الآن. لكن حتّى هؤلاء الذين يبلغون ما بين الخامسة والعشرين والرابعة والثلاثين، والذين وجدوا لهم مكاناً في سوق العمل بدلاً من البقاء خارجه، يعملون في مستويات أدنى من تلك التي كانوا يعملون بها في أعوام 2000 أو 2007. هذا قد يكون ألحق الضرر بمسيرتهم المهنية التي أثّر فيها الكساد الكبير، لكنّنا لا نعلم بعد على وجه التأكيد.
ولننظر الآن إلى العمّال الأكبر سنّاً (الشكل رقم4).
لم يرجع هؤلاء، الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والثلاثين والرابعة والأربعين، إلى الذروة في عامي 2000 و2007، لكنّ أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة والخمسين والرابعة والستين والأكبر منهم قد تخطو هذه الذروة (رغم أنّه من الواضح بأنّ جزءاً أصغر بكثير من السكان الذين تجاوزوا الخامسة والستين يعملون كالبقية). ولا يمكن للمرء سوى أن يستخلص بأنّ ضعف نظام التقاعد مسؤول عن ذلك بشكل جزئي: فكبار السن لم يعد باستطاعتهم أن يتحملوا نفقة التقاعد كما كانوا يفعلون من قبل.
حسابات إيبوب
وفيما يلي رسم بياني موجز للتغيّر في معدلات التوظيف منذ عام 2000 (الشكل رقم5).
تبتعد فرضية «شيخوخة السكان» عن المنطق وفقاً لهذه الأدلة، حيث أنّ معدلات التوظيف للفئات العمرية الخمس الأصغر تهبط، بينما ترتفع الفئات الأكبر سنّاً.
يمكننا اتباع مقاربة منهجية أخرى بالقيام بمحاكاة إحصائية لما سيكون عليه معدل التوظيف (إيبوب) حين تكون البنية العمرية مثلما كانت عليه في بداية الألفية. وهاكم ما فعلته هنا: لقد أتممت المحاكاة بأخذ معدل التوظيف عن كلّ فئة، ثمّ إيجاد المتوسّط المرجّح باستخدام أجزاء السكان في عام 2001. (لقد استخدمت عام 2001 لأنّه الوقت الذي حصلت فيه ذروة دورة الأعمال، حتّى لو أنّ معدل التوظيف (إيبوب) قد وصل إلى ذروته قبل عام من الاقتصاد الواسع. إنّ الفرق بين أجزاء عامي 2000 و2001 هو فرق ضئيل).
هذه الحسابات هي حسابات أولية. لقد استخدمت فقط حدود السن الواسعة من أجل المجموعات، فاستخدام حدود سنّ أضيق كان ليوصلنا إلى نتائج أدق. لكن هذا لن يغيّر النتيجة الواضحة: تفسّر «شيخوخة السكان» قرابة نصف النقص في معدلات التوظيف المقرونة بعدد السكان.
تباطؤ النمو:
حتى في فترات الانتعاش..!
ما هو الشيء الآخر المسؤول عن سلوك معدلات التوظيف البطيء إذاً؟ إنّ المذنب الرئيسي هو البطء في نمو الناتج المحلي الإجمالي، والذي يسجل أقلّ من نصف متوسط توسيع دورة الأعمال في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية (2.1% مقابل 4.4%). لقد تراجعت معدلات النمو مع كلّ تحسّن متعاقب منذ 1991، لكنّها الأضعف هذه المرّة من حيث الإيراد الهامشي الواسع الفعلي (الشكل رقم6).
لماذا كان النمو بطيئاً؟ هذا يشكّل موضوعاً بحدّ ذاته، لكن هناك أسباباً عدّة:
أحد الأسباب، وهو الشائع بين اقتصاديي الاتجاه السائد، هو أنّ فترات الركود العميقة جداً، كالذي حدث في 9/2008، تترك بشكل تاريخي ندوباً عميقة يكون التعافي منها بطيئاً وصعباً. وهناك طريقة أخرى أقل تقليدية في تفسير هذه «الندوب»، وهي أنّ الركود العميق بحدّ ذاته هو إشارة جديّة على مشاكل بنيوية تتخطّى الصعود والنزول الطبيعي في الاقتصادات الرأسمالية.
في حالة الولايات المتحدة، فإنّ المشكلة على المدى الطويل هي أنّ ضغط الأجور ومعايير الحياة الذي بدأ في مطلع الثمانينيات قد نجح في رفع أرباح الشركات (وجعل من الأثرياء أكثر ثراء)، لكنّه نجح بذلك على حساب تقويض أساسات اقتصاد يعتمد على مستويات عالية من الاستهلاك الجماهيري. لقد تمّ «حلّ» هذا التناقض لبعض الوقت عن طريق غزارة مستويات الاقتراض، والذي عوّض عن الركود في الأجور والمداخيل.
لكنّ الأزمة المالية عام 2007 و2008 أدّت إلى عكس هذا الاقتراض الشرس وإلى بدء الأسر بتقليل ديونها، وهذا أدّى إلى حجب الطلب الاستهلاكي رغم كونه أمراً منطقياً على مستوى أسرة. يمكن حلّ هذه المشكلة عن طريق سياسات الإنفاق الرامية إلى تحويل الدخل إلى الأسفل من خلال أجور أعلى وإنفاق أكثر على البرامج الاجتماعية والبنية التحتية، لكن تبدو هذه الطرائق مستحيلة سياسياً. بعبارة أخرى: لقد نفدت عربة النموذج النيوليبرالي من الوقود..!
كما أنّ هنالك تفسيراً آخر يقول: بأنّه برغم الأرباح الوفيرة، تقوم الشركات بتوزيع جزءٍ كبيرٍ من النقود على مدرائها التنفيذيين وحاملي الأسهم بدلاً من استثمارها في التجهيزات الإنتاجية وتوظيف العمّال. قامت الشركات غير المالية بين عامي 1952 و1982 بتوزيع 17% من التدفقات النقدية الداخلية (الأرباح مضافة إلى علاوات الاستهلاك) على حاملي أسهمها. ارتفع هذا الرقم إلى قرابة 30% في الثمانينيات والتسعينيات، وإلى 48% منذ عام 2000. (كان المعدل الوسطي عام 2016 غير قابل للتصديق عند 64%).
هذه واحدة من نتائج ثورة حاملي الأسهم التي بدأت في الثمانينيات: فالكنه المطلق لوجود الشركات هو رفع أثمان الأسهم لجعل حامليها أكثر ثراء، وهم الذين لا يسهمون بأيّ شيء مقابل ما يأخذون بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 808