حقيقة الصراع وظلاله بين السودان وجنوبه.. نفط السودان: تجسير درب النار.. ودور اللاعبين الكبار!
إذا كان ثمة شيء تكثفت حوله مشاعر التخبط لتحقيق انفصال جنوب السودان عن شماله، فهو الحماسة الزائدة التي أقدم بها الطرفان على تجزئة السودان وإشعال ملف النفط. فبينما كان الجنوبيون يصوتون للانفصال، كان النفط حاضراً في المخيّلة لا يغضُّ عنه طرف الجنوب ولا الشمال. وذلك يؤكد أنّ مشكلة النفط، كواحدة من القضايا العالقة بين البلدين، هي الواجهة التي تختبئ وراءها الأوضاع الجديدة، كنتائج للانفصال تنوء بحمل أعبائها السياسية والأمنية والاقتصادية. وحين تم الانفصال بقي النفط يرسم في طريق عبوره من جهة الشمال درباً من النار يصعب تجاوزه أو القفز عليه.
حقيقة الصراع وظلاله
حينما كان السودان موحّداً وكانت ثرواته الطبيعية في باطن الأرض، استمرت الحرب بين الجنوب والشمال لنصف قرن من الزمان. وبالرغم من أن الحرب لم تكن نفطية إلا أن السودان خرج منها منهكاً اقتصادياً، وضعيفاً عسكرياً. ذلك الضعف في الجهتين قابلته بعد الانفصال قوة الطموح السياسي لدولة الجنوب، وشاب ذلك الطموح تأثير معقّد من الشعور التاريخي بالظلم. كما شابت الموقف الشمالي قوة تكمن في أخطاء التقدير، غالباً ما تحيد عن جادة الدبلوماسية الحكيمة بين بلدين تمور بينهما العديد من التفاعلات السياسية والعسكرية والإستراتيجية.
استهلكت عملية انفصال الجنوب إنسانية الشعارات المطلقة، وتحول مطلب الانفصال المتحقق إلى دوافع دموية وقفت عند بند قسمة الثروة، التي لم تكن غير عنصر واحد هو النفط الذي تعتمد على عائداته الدولتان بنسب مختلفة.
لم تشغل بال الاقتصاديين مسألة الاكتفاء من الإنتاج النفطي في السودان بقدر ما تشغلهم التكلفة الباهظة لهذه الصناعة الحديثة والتوسع فيها. حيث ما زالت هناك شكوك في الجدوى الاقتصادية لاحتكار النفط من قبل أحد الطرفين، وهذا يلقي بظلال كثيفة على النظرة للصراع القائم الآن واحتمالية الحرب من منظور العامل النفطي. وفي جوانب أخرى يبدو حضور العامل النفطي في هذا الصراع وكأنه لا يعدو أن يكون اتكاء على عامل مستحدث للتنصل من مسؤولية القضايا الأخرى ذات الجذور الضاربة بعمق في تاريخ السودان.
لا يمكن إغفال امتزاج العوامل السياسية الاقتصادية مع الاجتماعية لبيان أهمية عوائد النفط التي كان مقرراً التوافق حولها منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005.
فجديرٌ بالملاحظة أنّ التنافس الحاد والصدام الجاري بين الدولتين هو امتداد للصراع العرقي والعنصري الذي كان جاريا إبان الحرب الأهلية التي ترسخت منها مرارات مغروسة بعمق في الصدور. وبعد اكتشاف البترول في الثمانينيات واستخراجه وتصديره في نهاية التسعينيات، ما كان على شركات النفط الأجنبية محددة المصالح والأهداف، إلا التحرك لإدارة عمليات التنقيب خلف سوح الوغى وتحت حراسة القوات الحكومية، ليتبدى الوجه الآخر لشراسة رأس المال.
وفي سعي السودان لتلبية رغبات الشركات الأجنبية التي تعمل على تنقيب وتكرير النفط، يحاول الآن إخفاء التحركات العسكرية على الحدود بين البلدين، متفادياً صدمة الشركات الكبرى التي أصابها سعار النفط، فالأمل معقود على زيادة الاحتياطي النفطي في المنطقة بالإضافة إلى ما ينتجه الخليج العربي وإيران. وبالرغم من ضآلة احتياطي النفط السوداني الذي يعدُّ السابع بعد نيجيريا وليبيا والجزائر وأنغولا ومصر وغينيا الاستوائية، إلا أنه يمكن أن يحدث فرقاً حتى للقوى الاقتصادية الصاعدة مثل الصين والهند وماليزيا.
وسط هذا الزخم من الأحداث السياسية والاقتصادية في العالم، انتقل التصعيد بين السودان ودولة جنوب السودان من العلن إلى الخفاء، غير أنه يظهر في تصريحات المسؤولين.
وبين سلسلة القضايا التي يتمسك الجنوب بحل حلقاتها متصلة ودونما انفصال، وبين سعي الشمال إلى تحصيل حقه من عائدات النفط والتوافق على رسوم عبوره عبر أراضي الشمال، تتعزز احتمالية نشوب الحرب رغم الاتفاقية الأمنية التي تم توقيعها في أوائل شهر نوفمبر هذا.
إنّ الاتفاق الأمني بين دولتي شمال وجنوب السودان والذي ينص على عدم اعتداء أي طرف على الآخر، قد تم انتزاعه بوساطة الاتحاد الأفريقي، ولم يكن اتفاقاً خالصاً لوجه العلاقات بين البلدين، وإنما دون روح تفاهم تدبّ فيه حيث لا يزال كل طرف متربصاً بالآخر.
فبعد أن دُقت طبول الحرب بعد فشل محادثات أديس أبابا في أواخر شهر يناير الماضي، وبعد رفض الرئيس سلفاكير ميارديت رئيس دولة جنوب السودان التوقيع على الاتفاق الإطاري، يتضح أن النفط ليس وحده أساس المشكلة، وإنما هناك ملفات أخرى عالقة منها الحدود، والجنسية، والمتأخرات المالية.
حاولت اللجنة الأفريقية العليا برئاسة ثامبو أمبيكي رئيس جنوب أفريقيا السابق على هامش قمة الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا بهذا الاتفاق أن تنثر بذور الثقة على أرض الخلافات بين الدولتين.
ولعل ما تزرعه الوساطة الأفريقية يثمر في القريب العاجل سلاماً يحل محل الفتنة، ولكن الأمر في مجمله لم يعتبره الطرفان أكثر من هدنة أمنية، تلاشت بمواجهات جديدة هددت طول الحدود بين السودان ودولة جنوب السودان لتسد آفاق حلول الوساطة والدبلوماسية.
الحاضرون في لعبة النفط السوداني
على العكس مما هو سائد بأن إنتاج النفط يلعب دوراً رئيساً في اقتصاد الدول بدعمه لعملية التنمية في إنتاجه وتصديره ودعمه للنشاطات الاقتصادية الحقيقية والمستديمة مثل الزراعة والصناعة، فإن النفط السوداني لم يستطع تحقيق هذه الأهداف طيلة العقدين الماضيين منذ اكتشافه.
وهذه القاعدة رغم شذوذها إلا أنها ليست ذات خصوصية سودانية، وإنما تنطبق على الدول ذوات الإنتاج النفطي المتنازع عليه، فأينما اكتشف النفط في دولة نامية غير ديمقراطية فإنه يأتي بالفساد، حيث تحاول الطغمة الحاكمة إثراء نفسها وأقربائها والموالين لها، بينما تترك بقية المواطنين في فقرهم المدقع. وبدلاً من أن يكون النفط أساساً يُبنى عليه الاقتصاد ويعمل على رفاه الشعب، فإنه يعمل على زعزعة الاستقرار وتشويه الاقتصاد.
ليس الصراع الداخلي وحده هو ما يخيم بظلاله السالبة على حاضر ومستقبل النفط في السودان، وإنما على صعيد العلاقات الدولية أيضاً. فقد كان لدولة مثل الصين دور في عمليات التنقيب في حقول نفطية أخرى غير حقول الجنوب مثل منطقة دارفور غرب السودان وكذلك منطقة شرق السودان.
وبالرغم من الاضطرابات في هذه الأقاليم إلا أن الصين، وفي ظل تصاعد اقتصادها المتنامي وبعد خفض وارداتها من النفط الإيراني، أخذت تستعد لسد النقص وتلبية حاجتها، وبذا فإنها تعتبر المتضرر الأكبر بعد دولة السودان.
وباعتبار الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، والمستورد الثالث له بعد الولايات المتحدة الأميركية واليابان، فإنها أول من سيقف في وجه هذه الحرب الاقتصادية، وقد تكون وقفتها محفوفة بالمخاطر.
وقد وقفت الصين بالفعل من قبل في وجه الحملات الأميركية على السودان في تسعينيات القرن الماضي باعتبار نظام الحكم داعماً للإرهاب. تلك الحملات عملت على إعاقة الشركات الأميركية والمتعددة الجنسيات من الاستثمار النفطي في السودان، الشيء الذي أفسح المجال واسعاً للشركات النفطية الآسيوية وخاصة الصينية والهندية والماليزية.
وإفريقياً وقفت الولايات المتحدة الأميركية على مقربة في مواجهة النهم الآسيوي للنفط.
وبينما تعتمد الولايات المتحدة على وارداتها النفطية من كندا والمكسيك، ومنطقة الخليج صاحبة الاحتياطي النفطي الأكبر المكتشف في العالم، غير أنها لا يرمش جفن استعدادها وتأهبها لحماية وارداتها من إفريقيا حيث تشكّل الشركات النفطية الأميركية حضوراً مقدراً في بعض الدول الإفريقية المصدرة للنفط جنوبي الصحراء. ويثير ذاك الحضور جدلاً كبيراً إزاء صمت الولايات المتحدة عن سلوكيات دول مثل تشاد وغينيا الاستوائية والتي تُعد من أكثر الدول فساداً في العالم حسب منظمة الشفافية الدولية للعام 2005.
والحضور الأميركي الاقتصادي والعسكري في تلك الدول لم يلفت الانتباه فحسب، وإنما شجع من ميول تلك الدول غير الديمقراطية إلى الاستمرار في ذلك، وفاقم من نزعات عدم الاستقرار فيها.
ولا يتوقف التوجس الأميركي عند حاجة الولايات المتحدة وحدها، بل يتعداها إلى حلفائها. ومن موقعها لم تزهد الشركات الأميركية في النفط السوداني، وإنما تنتظر ما سوف تنتج عنه مغامرة الشركات الآسيوية من الاستثمار في السودان.
هذه الشركات بإمكانها التنقيب عن النفط وتكريره من خلف ميدان المعركة، فلم يردعها تصاعد عدم الاستقرار في البلاد من قبل، ولم يردعها الآن صدام الدولة المنهارة مع شقيقتها في طور التكوين لتخرج بما تيسر، حتى ولو جرت مكان النفط دماء غزيرة.
دحض خيارات الحرب
إذا امتزج النفط بالسياسة فإننا نكون قد ولجنا عصر طاقة مستعر، هو عصر الحروب النفطية التي سيتميز بها القرن الحادي والعشرون. وقد لا يُعتبر العصر أميركياً بامتياز، وإنما دخل لاعبون آخرون ميدان الصناعة مثل الشركات الأوروبية والصينية والهندية والماليزية. وهذه لا تجرؤ على الاقتراب من الموارد النفطية في منطقة الخليج العربي الذي بدأ يتسرب من بين يدي أميركا التي تركز على أراضٍ أخرى جديدة.
وفي ظل تصاعد حدة الصراع العالمي من أجل السيطرة على مصادر الطاقة، نما الصراع السوداني الذي سقته الانفعالات العاطفية والخلافات الأساسية، فسلك أشقّ الطرق للوصول لحل القضايا العالقة. هذه الخلافات تتخذ أبعاداً واسعة وفي تصاعد مستمر لم يخفت صوته العسكري والعنيف في كل حالاته منذ نشوب الصراع.
وحيث لا بديل ملموساً في مجال الطاقة يغني عن النفط، وحيث لا نشاط اقتصادياً آخر يمكن اعتماده لتحقيق تنمية سريعة، فإن نُذر الحرب قد أطلقت العنان لتفاقم الصراع الذي ابتدأ بتبادل المكايدات، ولم ينته بالإعلان عن جاهزية الطرفين للدخول في معمعة القتال.
بالإضافة لدوافع الدولتين لشن حرب وهي دوافع ملطخة بوحل النفط، فإن أسباب التمادي في الإعلان عنها مراراً وتكراراً، لا تنفصل بحال عن منطقة اشتعالها من جهة وعن طبيعة نظامي الحكم في البلدين من جهة أخرى. فرئيسا دولتي شمال وجنوب السودان جنرالان أتيا من خلفيات أيديولوجية، يقفان على طرفي نقيض، يختلفان في كثير من الأشياء ولكن يتفقان في اعتقاد كل منهما أنه يقف في المكان الصحيح. إذا قامت الحرب فالكل خاسر، وسيضيق على من أعلنوها هامش المساومة ليكون الطرفان تحت رحمة الشركات المستثمرة.
إن سودان ما بعد الانفصال بشقيه الجنوبي والشمالي يقف على فوهة النفط المشتعلة بالداخل، ووسط التحولات السياسية بعد ثورات الربيع العربي، وتحت عمليات التغييرات الاقتصادية العالمية التي زادت من الطلب العالمي على النفط.
إذا وقفت دولتا السودان في محطة النهضة وإعادة صياغة الدولة اقتصادياً وسياسياً فإنهما ستريان داخل النفق بصيص حلول وتسويات للخلافات القائمة. وسواء رضي الحاكمون أم أبوا فإن الشراكة بين الدولتين لن تمحوها حدود الانفصال، بل يدعمها تقريب وجهات النظر من خلال الحوار، والتسلح بالأمل في صناعة تاريخ حديث يدحض كل خيارات الحرب المفتوحة.
• المصدر: الجزيرة
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 543