أزمة نظام: الثقب الأسود.. والانهيار الشامل!

كثيرون منا قالوا وكرروا لكم وأكّدوا تأكيداً شديداً بأننا لسنا في العام 1929، فالأمر أكثر خطراً بكثير! نحن هنا أمام أزمة نظام، أمام نظام استحواذ البعض على رأس المال استحواذاً يستند إلى الاستهلاك انطلاقاً من الديون.. وبالتالي فالحديث عن الديون فقط يعني إخفاء مشكلة الاستهلاك. والحال أنّه ينبغي التذكير بأنّه لا وجود للعمل دون استهلاك.

فضلاً عن ذلك، يعلّمنا التاريخ أنّ الأزمة لم تصل إلى العمق في العام 1929، بل في العام 1932، أي بعد ثلاثة أعوام.
قليلٌ منا يقدّم المعلومات عن مدى الكارثة.. يلخّص جوفانوفيك مستقبلنا بسخرية: مغامرات واقعية متلفزة للجميع! أمّا بول جوريون، الأكثر صحواً بيننا، فيشير إلى أنّها نهاية الرأسمالية.
ربما كان ستيغليتز وكروغمان وروبيني قد توقعوا الأزمة، لكنّهم لم يدركوا مداها. يتحدث المختبر الأوروبي للاستباق السياسي عن ثلاث موجاتٍ آثمة، وربما من الأفضل التحدّث عن تسونامي. إليكم إذاً جولةً صغيرةً يفترض فيها أن توضح لكم الأمور.

انهيار قطاعي الصناعة والتجارة
في الرابع والعشرين من حزيران 2009، أشار موقع لوبوان إلى أنّ الصادرات اليابانية قد انخفضت بنسبة 40.9 بالمائة خلال سنة. التجارة العالمية في أسوأ حال ونشهد انهيار قطاع النقل البحري (-21 بالمائة) وفي أجور النقل الجوي (-28 بالمائة).
في القطاع الجوي، نحن على شفير الهاوية بانخفاضٍ وفق الاتحاد الدولي للنقل الجوي بنسبة 16.5 بالمائة بالنسبة لأجور النقل وبنسبة 7.2 بالمائة بالنسبة لعدد الركاب في حزيران مقارنةً مع العام الماضي، وبالتالي تقدّر الخسائر للعام 2009 بتسعة مليارات من الدولارات.
نحن نرى ذلك هنا، 16.5 بالمائة من الخسائر المعلنة و28 بالمائة من الخسائر الحقيقية، هكذا يتم تزوير الأرقام.
إذا أخذنا بعين الاعتبار الحوادث الأخيرة (التأثير النفسي) وارتفاع سعر الوقود والأنفلونزا وتفاقم الأزمة، ينبغي أن يضرب هذا الرقم بثلاثة، لا بل بأربعة. نتوقّع حدوث العديد من الإفلاسات قريباً، وهو ما أعلنته في العام الماضي، في الثالث والعشرين من تشرين الأول 2008 في مقالتي التوقف عن التسديد.
وحالة صناعة السيارات أسوأ من ذلك. على سبيل المثال، انخفضت مبيعات السيارات في الولايات المتحدة الأمريكية في حزيران 2009: فورد: -10.9 بالمائة، جنرال موتورز: -33.6 بالمائة، تويوتا: -31.9 بالمائة، كرايسلر: -42 بالمائة، هوندا: -29.5 بالمائة، نيسان: -23.1 بالمائة.
بطبيعة الحال، أخّرت تقويمي لبضعة أشهر لأنّه تمّ حقن أموالٍ طائلة في الاقتصاد. وبالفعل، قرّر المصرف المركزي الأمريكي يوم الثامن عشر من آذار 2009 (اليوم الذي مات فيه الدولار) شراء سندات الخزينة، ما يعني تحويل الديون إلى نقد، وأكّد أنّه سيستحوذ على 1700 مليار دولار أي 12.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي من الصكوك التي يصدرها القطاع الخاص ومن السندات..

تفاقم البطالة
بالنسبة للرواتب التقاعدية على سبيل المثال، لن ينال 15 مليون بريطاني سوى 560 جنيهاً شهرياً، وفي بقية أوروبا، سيكون مثال ليتون نموذجاً مع 20 إلى 30 بالمائة من انخفاض رواتب التقاعد.
لكنّ الأسوأ يخصّ البطالة التي تنفجر، وآن الأوان لأن نظهر لكم كيف يتم تزوير الأرقام. فقد برهن جاك فريسينيه، الاقتصادي الفرنسي الذي ولد في العام 1937 وتعدّ أعماله مرجعيةً حول العمل والبطالة، على أنّ البطالة الحقيقية تزيد مرّةً ونصف المرة عن النسبة التي تعلنها منظمة العمل الدولية لأنّ الحساب لا يأخذ بالحسبان طالبي العمل قيد التأهيل والتوقف المسبق عن النشاط وأولئك الذين لا يبحثون عن عمل.
ففي فرنسا على سبيل المثال، ارتفعت البطالة بنسبة 18.7 بالمائة خلال عام، ويتوقع المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية أن يبلغ معدّل البطالة 10.5 بالمائة في أواخر العام (9.1 بالمائة في الفصل الأول)، ما يعني إذا أخذنا بالحسبان الواقع الذي سنعيشه، معدّلاً حقيقياً للبطالة بمقدار 16 بالمائة في كانون الأول.
وفي الولايات المتحدة، سيبلغ أيضاً معدّل 10.5 بالمائة، وبالتالي أيضاً معدّلاً حقيقياً للبطالة مقداره 16 بالمائة في كانون الأول.
الأمر بسيطٌ جداً في واقع الحال، فكلّ الأرقام مزيفة تماماً وأنا أدعوكم لأن تقرؤوا أو تعيدوا قراءة المقالة التالية: أزمة نظام ـ الحلول (رقم 5: دستور من أجل... ) في ما يخصّ إعادة رسملة المصارف لمساعدة المحاسبين الغشاشين. ستفهمون حينذاك لماذا كل شيءٍ يسير على نحوٍ أفضل.

أزمة شاملة
هذه الأزمة هي إذاً أزمةٌ نظام حقاً، نظامٌ مبني على العمل (الذي تستحوذ حفنةٌ من الناس على الجزء الأساسي من عوائده) المتعلّق بالاستهلاك، والاستهلاك بدوره متعلّقٌ بالديون.
فق موريس آليه، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 1988، «الاقتصاد العالمي بأكمله يستند اليوم إلى أهراماتٍ عملاقة من الديون، يستند بعضها إلى بعضٍ في توازنٍ هش».
للتذكير، ارتفع الدين الكلي للأسر الأمريكية منذ العام 2000 بنسبة 22 بالمائة، إنها كارثة!
كان برنار لييتاير (الذي أقام اليورو والاختصاصي في المسائل النقدية)، قد قدّم صورةً دقيقةً عن مدى الأزمة في الولايات المتحدة الأمريكية في كتابه الأبيض الذي نشره في تشرين الثاني 2008:
«ستكلف عملية الإنقاذ الأمريكية أكثر من مجموع كلّ النشاطات التاريخية التالية للحكومة الأمريكية، المعدّلة بسبب التضخم: سعر شراء لويزيانا والسياسة الجديدة لروزفلت وخطة مارشال وحروب كوريا وفيتنام وإفلاس إس أند إل والناسا والسباق على القمر مجتمعين».
وبالفعل، يقدّر مصرف التسويات الدولية BRI المبلغ الكلي للمشتقات (منتجات مالية تنعدم قيمتها أثناء أزمةٍ كبيرة) بقيمة 591963 مليار دولار بتاريخ 30 كانون الأول 2009، ما يمثّل أكثر من عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ولأولئك الذين يعتقدون أنّ هذه الأرقام لا معنى لها، إليكم الأدلة على الجريمة.
حاول أن تستدين عشرة أضعاف قيمة بيتك! يمكن لعالم المال، الذي يسيطر على مجمل الطبقة السياسية في العالم، أن يتيح لنفسه كل شيء.
لكن ينبغي التذكير بأنّ الشركات وعالم المال والمصارف مترابطة مع بعضها بعضاً، وهي حرفياً ملوّثة بهذه المنتجات المالية التي يطلق عليها بول جوريون اسم: «الانتقالات». بدأت أولى الإفلاسات الكبرى (كرايسلر وجنرال موتورز على سبيل المثال)، ونحن نشهد حالياً بتأثير الدومينو انفجاراً للنظام من الداخل. والمبالغ المتصلة بهذا الانفجار هائلةٌ إلى حدّ أنّها تجعل مجمل الدول ـ الأمم تختفي كثقبٍ أسود، وتسحب في طريقها وظائفنا ورواتبنا التقاعدية وكل وسائل حمايتنا الاجتماعية.
وكان لوران كارويه، مدير الأبحاث في المعهد الفرنسي للجيوسياسة والخبير في مجموعة العولمة في مركز التحليل الاستراتيجي (المفوضية العامة للتخطيط سابقاً) قد قدّر في أيار 2009 كلفة الأزمة بقيمة 103 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي 55800 مليار دولار:

هذا صحيح، كلّ شيءٍ يتحسّن!
لقد حاولت إذاً أن أخبركم مرّةً أخرى وأقدّم لكم براهين لا يمكن دحضها على مدى الكارثة القادمة، وأتمنى أنّ وعياً جماعياً هو قيد التشكّل. لابد من بناء نموذجٍ اقتصاديٍّ آخر، ينبغي ألاّ يكون نموذج البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، ودستورٍ للاقتصاد لأنّ أصل مشكلاتنا كلها يكمن هنا. ختاماً، أترككم كي تتأمّلوا في هذه الكلمات التي تلخّص بمفردها طريقة سير الأمور:
«بدايةً، نقرّر أمراً ما، ثمّ نطلقه علناً. ثمّ ننتظر قليلاً وننظر كيف هي ردود الأفعال، فإن لم يثر فضيحةً ولم يؤدّ إلى صدامات، لأنّ معظم الناس لم يدركوا ما تمّ تقريره، نواصل خطوةً خطوةً حتى لا يعود أيّ تراجعٍ ممكناً...». جان كلود جونكر، رئيس وزراء ووزير المالية في لوكسمبورغ، حاكم البنك الدولي بين العامين 1955 و1989، حاكمٌ أسبق للبنك الدولي للإنشاء والتعمير BIRD ولصندوق النقد الدولي، الرئيس الحالي للمجموعة الأوروبية، في مقابلةٍ أجرتها معه دير شبيغل، العدد 52/1999 صفحة 136..

جيل بونافي - ترجمة قاسيون

معلومات إضافية

العدد رقم:
416