المحرومون في الاتحاد السوفياتي.. (3/3)
كانت سلاسل الرسوم ابتكاراً عبقرياً لنقل الرسائل للأشخاص الذين لم يعتادوا القراءة، وقد أصبحت هذه الرسوم جزءاً هاماً من الثقافة الجماهيرية في الولايات المتحدة الأمريكية، كما كانت حتى ظهور التلفزيون أداة جبارة للهيمنة بحيث يمكن القول: إن تاريخ الإيديولوجيا الأمريكية الحديثة بكامله ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ تلك السلاسل. ويكتب عن هذه الرسوم عالم الثقافة إمبرتو اإيكو الذي درس هذه الظاهرة: «لقد ولدت الرسوم ثقافة فريدة هي الثقافة الجماهيرية، التي تقوم البروليتاريا فيها بإدراك النماذج الثقافية للبرجوازية، وهي واثقة تماماً بأن ذلك هو تعبيرها المستقل عن ذاتها».
الرسوم: البديل الروحي للأمريكيين!
لتصوير الأهمية التي يمثلها الغذاء الروحي بالنسبة للأمريكيين نسوق الحادثة التالية: أدى إضراب عمال المطابع الأمريكيين إلى انقطاع وصول سلاسل الرسوم إلى أكشاك البيع، وقد بلغ استياء السكان من الشدة قدراً جعل عمدة نيويورك يقوم شخصياً، ولعدة أيام، بقراءة تلك السلاسل عبر الإذاعة من أجل طمأنة سكان مدينته!.
وفي مثال آخر: أقام سكان إحدى مدن ولاية إيلنويز استفتاءً شعبياً غيّروا فيه اسم مدينتهم إلى متربوليس على اسم المدينة الخيالية التي يعمل فيها سوبرمان.
لقد دلت الأبحاث المهمة على أنه في منتصف الستينات كان هناك 80 ـ 100 مليون أمريكي يقومون يومياً بقراءة السلاسل في الجرائد، أي أن 58% من الرجال و57% من النساء لم يكونوا يقرؤون تقريباً من الجرائد سوى تلك السلاسل، فحتى أثناء الحرب العالمية الثانية كان قارئ الجريدة العادي يقوم بقراءة السلسلة أولاً، ثم يقوم بقراءة ملخص أخبار الحرب. كما بينت الدراسات أن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 ـ 39 سنة أبدوا اهتماماً كبيراً بسلاسل الرسوم. أما فيما يتعلق بالأطفال في سن المدرسة فإن 99% منهم يقرؤون السلاسل بانتظام، بحيث تتحول مناقشة سلاسل الرسوم الهزلية إلى موضوع رئيسي في أحاديث الطلاب، الشيء الذي يجعل هذا (النوع من الثقافة) آلية بالغة الأهمية في التنشئة الاجتماعية للأطفال.
لقد أصبحت الشخصيات المبتكرة وحتى النماذج الأولية التي تم إيجادها بشكل اصطناعي كـ«سوبرمان» أو «بات مان» مثلاً جزءاً ضرورياً من العالم الروحي للإنسان الأمريكي.
عندما قام (ألكاب) مؤلف السلسلة المشهورة «ليل إبنير» بإدخال شخصية جديدة لسلسلته: «لينا» المرأة الأقبح في العالم أو «المرأة الضبعة»، طلب من القارئ أن يرسل اقتراحاته في رسم ملامح وجه تلك المرأة، فكانت النتيجة أن استلم أكثر من مليون رسالة بهذا الشأن.
في منتصف السبعينات كانت سلسة «ليل إبنير» تنشر في أكثر من ألف جريدة أمريكية، ويقرؤها 80 مليون أمريكي يومياً، وقد قام جون شتينبك بترشيح ألكاب لنيل جائزة نوبل في الآداب. ويمكن إرجاع هذا الاستيلاء الناجح للغاية على جموع الجماهير بواسطة سلاسل الرسوم لامتزاج النص بالصورة البصرية.
لغة اصطناعية جديدة
بعد أن تمكنت سلاسل الرسوم من فرض سلطتها الواسعة على القارئ، انتقلت لأداء مهام أخرى أكثر تعقيداً بهدف تعميق الهيمنة وتجديدها عبر إنتاج لغة اصطناعية جديدة مفرطة في التبسيط؛ فقام مؤلفو هذه السلاسل بالتعاون مع أخصائيين بالتحليل النفسي وعلوم اللغة بإعداد، ومن ثم إدخال المصطلحات التي أحدثوها في وعي القارئ. وسرعان ما دخلت هذه الكلمات والمصطلحات الجديدة إلى لغة الوعي اليومي، ومن ثم تحولت إلى اللغة الرسمية السائدة.
مع أننا في روسيا نعد أنفسنا أمة قارئة تقليدياً، لكن من الصعوبة بمكان أن نتصور الدور الذي لعبته سلاسل الرسوم في تشكل الوعي الجماهيري للأمة الأمريكية. وبغض النظر عن محتوى هذا الوعي، فقد خلقت السلاسل إحساساً باستقرار المجتمع، حيث كانت تقود العائلة الأمريكية العادية من جيل إلى جيل، وتزودها بمنظومة إحداثيات ومعايير ثقافية مستقرة. ففي إحدى كتب تاريخ سلاسل الرسوم الصادر عام 1977، وردت معلومات عن السلاسل الهزلية الأكثر شهرة التي استمرت في الصدور ثمانين عاماً دون انقطاع، مثل سلسلة سوبرمان المعروفة، ومن أبرز هذه المعلومات «أن الأمريكي يمضي حياته برفقة الأبطال ذاتهم، ويستطيع أن يبني خطته الحياتية انطلاقاً من حياة تلك الشخصيات حيث يرتبط هؤلاء الأبطال بذكرياته منذ الطفولة، فهم أقدم أصدقاء لديه، وباعتبار أنهم يصحبونه عبر مسيرة حياته في الحروب والأزمات وتبديل أماكن العمل والطلاق وغيرها.. فإن تلك الشخصيات تصبح أكثر عناصر وجوده استقراراً».
في روسيا، كانت منظومة الإحداثيات المستقرة تقوم بشكل أساسي على الدين والعادات الشفهية غير المكتوبة والآداب، ولم نعرف اختلاق مثل تلك الأدوات بشكل اصطناعي ومهين كما هو سائد في المجتمع الأمريكي، ولكن الذي حدث في الستينات هو ظهور حالة فراغ وخلل في منظومة الإحداثيات، فتراجع تأثير الدين بشكل حاد، أما العادات الشفهية الآتية من القرية فأصبح تأثيرها ضعيفاً على الجيل الثاني من سكان المدينة. أما بالنسبة لدخول الأفكار الرفيعة في التفكير الجماهيري فلم يكن كافياً، ولم يسد هذا الفراغ، وقد أدى هذا الواقع إلى حالة أضحى فيها استهلاك الصور التي تحافظ على استقرار النواة الثقافية أدنى من المستوى المطلوب.
البدائل المزيفة.. طريق مسدودة
الطريق الذي يسير عليه الغرب سيقود إلى إفراغ الإنسان وفقدان علاقته مع العالم ومع الآخر، وإلى اختلال المسيرة الطبيعية لتطوره، لأن الغرب كمساحة مليئة بالصنميات، خلق إنساناً من نمط خاص. وفي هذا الاتجاه، وجد الغرب نفسه في طريق مسدود، فصناعة الثقافة الجماهيرية وجدت نفسها مضطرة لإنتاج صور يكون تأثيرها على الإنسان أكثر قوة وتدميراً، ولكن الشيء الذي يجب تسليط الضوء عليه هو أن الغرب تمكن بشكل مؤقت من الاستجابة للحاجات الجديدة للإنسان، وقام بإشباعها عبر البدائل المصطنعة والمزيفة. وبالنتيجة، استولت ثقافة إنتاج الصور الرخيصة على الجمهور، وبذلك تمكن النظام البرجوازي من الهيمنة الثقافية التي أكسبته الاستقرار.
لا يتسع المجال لنتناول كل أنواع (أنظمة الإشارات) التي تشترك في عمليتي إقامة الهيمنة أو نسفها، وسنكتفي بذكر نوعين منها: الأول ذو أهمية غنية عن التعريف، وهو مجال الأصوات، أي عالم الأشكال الصوتية للثقافة، أما الثاني فأهميته غير منظورة بشكل مباشر، ألا وهو عالم الروائح.
كان السكون والأصوات، واللذان يؤثران على المشاعر وليس على العقل، يلعبان دوراً هاماً في برمجة السلوك. لقد تشكلت الكلمة مع كل ما تحمله من قوة سحرية خارقة من الأصوات المبهمة التي يطلقها قائد السرب أو القطيع، وكل من يعرف الحيوانات يعرف كم هي غنية بالنبرات الصادرة عنها وكم تؤثر فيمن يسمعها.. مثل مواء القطط أو نباح الكلب أو صهيل الخيل، أما فيما يتعلق بالكلمة، فإن إدراكها يتعلق بدرجة كبيرة بنبرات الصوت الذي نطقت به، فمن أدى الخدمة العسكرية يعلم ما هو أثر الصوت القيادي أو الآمر، ولابد من التذكير بأن أبرز مؤسسي علم اللسانيات هما العالمان المنحدران من روسيا ياكوبسون، وكروبسكوي صاحب مؤلف «أسس علم النطقيات»، حيث أوضح كروبسكي أن علم النطقيات هو ذلك الفرع من اللغة الذي يدرس العلاقات المتبادلة بين الجزء المعنوي - السيمنطقي - الدلالي للغة، وبين الجزء الصوتي لها. لقد تحدثنا عن «الإرهاب السيمنطقي» كأسلوب للسيطرة من حيث اغتيال الكلمات ذات المعاني العميقة المتعددة، أو من حيث تبديل معاني الكلمات، وصولاً لإنتاج لغة جديدة اصطناعية مبسطة (لغة مضادة).. إضافة لذلك، يحتل علم الأصوات اللغوية مكانة هامة في التأثير على العالم المحيط، وقد كان العالم هايدكر يؤكد أنه: «من أجل اكتشاف الوجود بكل ظواهره الخفية لابد للسامع أن يسلم نفسه بحرية لسلطان الصورة المسموعة لذلك الوجود»، وهناك أبحاث قام بها محللون نفسيون حول الكيفية التي يؤثر بها صوت رجل السياسة على اللاشعور، وكيف انعكس ذلك على الجمهور بعد المناظرات الإذاعية بين كندي ونيكسون في انتخابات عام 1960.
ونراقب اليوم الحملة الواسعة الهادفة لتحريف الأسس الصوتية للغة الروسية عبر الإذاعة والتلفزيون. أما عن تأثير الموسيقى على الوعي فيكفي تذكّر تأثير مارش عسكري أو جنائزي، أو تأثير الأغنية الوطنية (قومي أيتها البلاد العظيمة)، أو استعراض فرقة روك أمام جمع من المعجبين.. لنلمس هذه الحقيقة. لقد كتبت ألوف الكتب حول دور الموسيقا في الهيمنة الثقافية مثلها مثل قنوات التأثير الأخرى كالكلمة والحركة والصورة البصرية.
تأثير الرائحة
لنعد الآن إلى ظاهرة أقل وضوحاً من عالم الصوتيات وهي الروائح، حيث يمكن أن نعتبر عدم إعطاء التقدير اللازم للروائح (العطور) بصفتها فرعاً بالغ الخصوصية من الثقافة، أمراً غريباً للغاية. ويكفي أن نتذكر الدور الذي تلعبه العطور كإشارات في أكثر العلاقات الإنسانية حساسية. إن الرائحة كمنظومة إشارات، تتميز بتأثير قوي على السلوك، فحتى سماع الكلمة التي تصف الرائحة تؤثر على مخيلة الإنسان الذي يبدأ بالإحساس بتلك الرائحة، ولهذا السبب يتم استخدام كلمة الرائحة في الاستعارات الأدبية على نطاق واسع، كما أن لغة السياسة تحوي العديد من تلك الاستعارات، بهدف إحداث صدمة نفسية لدى السكان.
لقد طبق الغرب نظرية الروائح على نطاق واسع بهدف تقوية النواة الثقافية للمجتمع، وقُدمت للناس الذين ينتمون لمختلف الفئات الاجتماعية والثقافة الفرعية وجبة غنية من الروائح. وقد قامت قطاعات صناعية ضخمة بتطوير صناعة العطور والمكياجات والتبغ والمشروبات وغير ذلك من الصناعات التي كان للرائحة فيها الدور المفتاحي في انجذاب الإنسان لها، فالمصممون يخططون كيف يجب أن تكون الروائح في الفنادق والمطارات والمطاعم وفي الأحياء السكنية، والشخص الذي كان يحل بالغرب قادماً من الاتحاد السوفييتي، كان أول ما يجذب اهتمامه هو التضاد القائم في عالم الروائح.
الخيار السوفييتي.. وبدء الانهيار
كيف رد المشروع السوفييتي على احتياجات المجتمع المدني الجديد؟
نعتقد أن الطريقة التي اتبعها المشروع السوفييتي بهذا الصدد لم تكن موفقة، إذ كانت تجري المجاهرة بأنه ليست هناك حاجة إلى الصور، وفي حالات أخرى كان يجري تصوير الاحتياج للصور بالفساد والفجور. ومن المستغرب تلك اللامبالاة أو حتى النفور الشديد، الذي قوبلت به أبسط احتياجات النساء السوفييتيات للمكياج وغيره من الأشياء ذات الأهمية البالغة لتأمين راحتهن النفسية عبر الإشارات. ولقد انعكس هذا النفور بوضوح في فترة الخمسينات عندما أجريت عدة حملات بهدف استئصال الأشخاص المتأنقين بالزي الحديث. لقد ظهر هؤلاء الأشخاص بادئ الأمر ضمن الطبقات الاجتماعية الميسورة، فساد الاعتقاد بأن الظاهرة وليدة تلك الفئة الاجتماعية المميزة وصاحبة المراتب. لم يتمكن النظام من إدراك حقيقة الموضوع من حيث بدء بروز ظاهرة اجتماعية جماهيرية مقبلة. والنظام السوفييتي الذي يستطيع تأمين الاحتياجات الحياتية لأجيال الشباب التي ترعرعت في ظروف المدينة الكبيرة كان عبر مضاعفته تلك الحشود من المحرومين، يقود نفسه إلى نهايته المحتومة ويحفر قبره بيده، رغم كل ذلك جرى في النظام السوفييتي بعض المنافذ المخففة للضغوطات كالرياضة مثلاً وإن كانت غير كافية. بعض هذه المنافذ تم الوصول إليه اعتماداً على الحدس كالمسلسلات التلفزيونية التي بوشر بإنتاجها. النجاح الضخم الذي حصده مسلسل (17 لحظة من الربيع) كان من الواجب أن ينبه ويحذر القائمين على النظام السوفييتي، فهذا النجاح أظهر بجلاء أن الحشود بحاجة لتناول صور سهلة الإدراك تساعد على ترسيخ الاستقرار.
خلال فترة «الإصلاحات» في روسيا تم إجراء تجربة ضخمة هي (إحلال الإشارة مكان الشيء أو إبدال الأشياء بالإشارات)، حيث أجريت هذه التجربة على أشياء ذات أهمية حياتية كبرى (كالمواد الغذائية على سبيل المثال). فأكثر من نصف السكان طالبوا باستبدال الأشياء (المواد الغذائية على مائدة كل منهم) بصورتها (المواد المعروضة على واجهة المحلات). ففي استطلاع للرأي جرى عام 1989 تبين أن 74% من المثقفين عدّوا نجاح البيروسترويكا مرتبطاً برؤية المواد الغذائية المكدسة في واجهة المتاجر والدكاكين. هذا الجواب يعكس الحاجة للصورة ولواجهة العرض. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الذين أجابوا بتلك الطريقة هم أشخاص جيدو التغذية بشكل عام، ولكن أظهروا أن المهم بالنسبة لهم ليس فقط مادة الاستهلاك، بل صورة تلك المادة التي لا يستطيعون اقتناءها، فوفرة المواد الغذائية في الواجهات العامة لا تعني إطلاقاً توفرها على مائدة الغذاء في المنزل. واليوم، ورغم معاناة كثير من أولئك من سوء التغذية إلا أنهم يكابرون ويرفضون الرجوع إلى الماضي الفقير بالصور..
الصنمية البضاعية
عندما التحقت بالجامعة كان لايزال بعض الأساتذة يرتدون قمصاناً عسكرية أعيدت خياطتها، وسراويل من الساتان، ولم يكن لديهم إي حاجة للجينز، ولكنها نشأت بعد نحو خمس سنوات، لقد تم اختيار حل سيء للخروج من هذا الوضع، فلم يجر تحديد المشكلة نفسها، ولا دراسة حالتها الحرجة المتأزمة. بعد ذلك تكلموا عن مشكلة أوقات الفراغ، ولكن ذلك لم يكن صلب المشكلة، ومع ذلك فالموضوع لم يتعدّ مرحلة النقاش فقط.. والسبب الرئيسي يكمن في تأثير المادية المبتذلة التي أفرغت منها كل أفكار ماركس العظيمة عن الصنمية البضاعية، وبقيت فقط الاستنتاجات المبالغ بها عن الاستغلال. ويجب الاعتراف أن ماركس لم ينه معالجة هذا الموضوع، مع أنه كان يرى المشكلة وحذّر منها. إن مصيبتنا لم تكن في الطرق السيئة التي اتبعت في حل المشكلة، بل كانت في عدم إدراك جوهر المشكلة، خاصة عندما جرى النظر إلى الناس الذين يعانون على أنهم متصنعون ويستحقون الازدراء، فهكذا ظهرت المعايير الأخلاقية الازدواجية، وظهر الغضب أيضاً. لقد وصل الموضوع إلى اتهام كل من حاول استهلاك ولو شيء من الغذاء الروحي الذي يختلف عن الوجبة الرسمية، بالمنشق عن المجتمع. والمشكلة الأهم أن المعايير المستحسنة رسمياً (من الأفلام والآداب والرقصات)، هي تركيبة حسنة فعلاً، ولكنها في الوقت نفسه لم تعد قادرة على تغطية كل الحاجات الحقيقية والمتنوعة للإنسان. ففي هذا العصر أصبحت تلك التركيبة والمعايير الرسمية كريهة بالنسبة للكثيرين، وهكذا احتدم الصراع الذي توطن داخل الوعي الجماهيري وجرى تضخيمه إلى أقصى حد، بحيث تحوّل خلال فترة البيروسترويكا إلى عنصر هدم أساسي في تحطيم هيمنة النظام السوفييتي.
وبالوقت عينه، نذكر كيف كانت ردة فعل الغرب مغايرة تماماً عند اصطدامه بصراع مماثل، تجلى في حينه بظهور تيارات معادية للثقافة الرأسمالية السائدة في أواخر الستينات، كالهبيين مثلاً.
لقد جنّد الغرب طاقات ذهنية كبيرة لمعالجة الموضوع، واستطاع شيئاً فشيئاً دمج تلك الثقافة المضادة وجعلها تتكامل مع النواة الثقافية للمجتمع الرأسمالي، وكانت النتيجة أن هيمنة الدولة البرجوازية لم تتزعزع، بل أصبحت أكثر قوة من السابق.
من بين البرامج المدروسة بعناية، وأكثرها تعبيراً، هي سلسلة أفلام رامبو وجيمس بوند، حيث يقوم البطل في كلتا الحالتين ـ وهو ممن تبدو عليه صفات المنشقين ـ بالدفاع عن القيم الأساسية لنمط الحياة الأمريكية.
كذلك في سلسلة أفلام رامبو، قام المؤلفون بوضع الثقافة المضادة في خدمة السياسة المحافظة، رامبو الشخص غير الامتثالي ذو خصائل الشعر الطويلة جداً، يواجه الدولة البيروقراطية، أي أنه جرى توظيف كل الصفات الجذابة لتيارات المنشقين في خدمة إيديولوجية يمينية متطرفة، لتحقيق التأثير المطلوب، ولهذا السبب قام الغرب بإنتاج آلاف الأفلام المماثلة التي أغرق بها العالم، والآن يغرق بها روسيا.
بالتأكيد المسألة ليست سهلة، ولا يجوز الانحدار إلى مستوى إنتاج صور ومعايير تحول الإنسان إلى أبله معتوه، وليس المطلوب السماح باستعمال الجنس والعنف والمسرح السياسي الرخيص كما يفعل الغرب.
لنتذكر كيف حذر كاتبنا العظيم ديستويفسكي من مغبة ذلك، ولكن بالمقابل لا يجوز التوفير على حساب إمداد الناس بالإشارات، ومن الواضح أنه ما من دولة تستطيع أن تؤمن احتياجات الناس فيها للصور والمعايير الإيجابية بمفردها، لذلك لابد من استيراد الصور والمعايير الإيجابية بطريقة لا تؤثر سلبياً على حضارتنا، فالاحتياطي العالمي لهذه الصور الحضارية ضخم للغاية.
إذا نجونا حالياً، فمهمتنا المستقبلية ستصبح أسهل بكثير، لأن النظام السوفييتي القديم ـ الاشتراكية التعبوية ـ قد تهدمت، وطالما تم اقتلاعنا منها بطريقة فظة ومؤلمة، فهذا يعني أننا لن نقوم بهدم النظام السوفييتي، بل على العكس تماماً، سنقوم بإعادة تكوينه على صورة جديدة ندرك فيها أن الناس لا يحتاجون إلى البروتين فقط، بل يحتاجون إلى الفيتامينات أيضاً.
ترجمة: حمزة منذر