من قاموس الاستعمار الجديد.. مصطلحات لاستمرار نهب الشعوب
هي كلماتٌ اقتحمتْ معجمَنا العربيّ وحياتَنا اليوميّة في السنوات الأخيرة، فملأتْ صفحات الصحف والمجلات، وأُقيمتْ على شرفها الندواتُ وورشاتُ العمل. كلماتٌ اجتاحتنا بسرعة، كما تجتاحنا إعلاناتُ السلع الجديدة بقوّة، فلا تسمح لنا بالتفكير في حاجتنا إليها أصلاً، ولا بالتساؤل كيف أصبحتْ «طبيعيّة»، ولماذا، ولمَ الآن؟
«حكْم القانون»، «الحكْم الرشيد»، «الحوْكمة»، «الشفافيّة»، «الملْكيّة الفكريّة»... ما هو تاريخُ هذه الكلمات؟
«اقتصاد المعرفة»، «التنمية البشريّة»، «الموارد البشريّة»... كيف حلّت هذه المصطلحاتُ مكانَ «التنمية الاقتصاديّة» و«الموارد الطبيعيّة»؟
«مبادرة»، «ريادة»، «قيادة»، «تطوّع»... لمَ الآن؟ قيادة مَنْ، ومن أجل ماذا؟ والتطوّع في ماذا؟
كيف احتلّتنا تلك الكلماتُ؟ من أين أتتنا؟ وما هي البنية التحتيّة التي سهّلتْ «سفرَها» إلينا؟ وما هي علاقتُها بالمرحلة التاريخيّة العربيّة الراهنة، مرحلة الاستعمار الأميركيّ الجديد؟
كلمات طُُبّعت بسبب اعتبارها جزءاً من العولمة التي يُنظر إليها، كظاهرةٌ طبيعيّةٌ حصلتْ من دون تدخّل أحد، وأدّت إلى رفع الحواجز بين الدول، بحيث أصبح العالمُ «قريةً صغيرةً» غابت فيها العلاقاتُ السلطويّةُ وأصبحتْ للأفكار «جوانحُ تساعدها على الطيران». إنّ هذه النظرة إلى العولمة تمنعنا من فهم عمليّة صناعة الأفكار وإنتاج المعرفة وتسويقها لمصلحة الاستعمار، ولمصلحة النخَب الاقتصاديّة في بلادنا. وأما اعتبار العولمة «قوّةً ناعمةً» تسهّل النهبَ والاستعمار، فيسمح بتفكيك البنية التحتيّة لنقل المصطلحات والأفكار، بدلاً من الاعتقاد بأنّ هذه الأخيرة تسافر في شتّى الاتجاهات دون أن تفرضها أيُّة جهة.
كلمات غير بريئة
تُعتبر عمليّةُ نقل هذه الكلمات جزءاً من الاستعمار الأمريكيّ الجديد الذي يرتدي عباءةَ العولمة، التي هي ـ بدورها ـ رديفٌ لاقتصاد السوق الحرّة، أو لما يُسمّى النظام الاقتصاديّ النيوليبراليّ. ويعتمد هذا الاقتصادُ على تغييب القطاع العامّ، وتحويل الدولة من دولة خدمات إلى دولة أمنيّة. وفي هذه الدولة يُترك المواطنون لرعاية أنفسهم، بينما تنهمك تلك الدولةُ أولاً في تهيئة المناخ لجذب الاستثمارات الأجنبيّة ـ أيْ تسهيل عمليّات النهب؛ وفي تهيئة الموارد البشريّة للعمل عند المستثمرين ثانياً في المحافظة على «الأمن» وقمع أيّ اعتراض على الظلم الناجم عن ذلك النهب، المترافق عادةً مع فتح الأسواق.
وإذا كان الاستعمار يلجأ أحياناً إلى الدعاية (البروباغندا) الرخيصة لاستقطاب القلوب والعقول، فقد تنبّه أيضاً إلى أهميّة استخدام «التخصُّصيّة المهنيّة» التي تُعتبر أكثر قدرةً على إقناع النخَب ضمن الشعوب المستعمَرة. فـ«التخصّصيّة» تعطي الانطباعَ بحياد يمكّن من تغييب المساءلة عن أهداف «الاختصاصيين« الغربيين وارتباطهم بمصالح بلادهم السياسيّة. ويسهّل هذه المهمّةَ تراكماتُ عُقد نقص كوّنها لدينا الاستعمارُ السابقُ والحاليّ.
هذه الورقة تتناول دور «التخصُّصيّة» في تسهيل الهيمنة الاستعماريّة، ومن ثم تسهيل النهب، وذلك من خلال تسليط الضوء على مصطلحات تنتمي إلى ثلاثة محاور. المحور الأول يتناول المصطلحات القانونيّة الجديدة كـ «الحكم الرشيد» و«الملْكيّة الفكريّة». والمحور الثاني يلقي الضوءَ على اقتصاد المعرفة وما يتعلّق به من تنمية بشريّة ورأسمال بشريّ. وأما المحور الثالث فيتعلّق بالعمل مع الشباب، وثقافة الريادة والقيادة والمبادرة.
1 - المصطلحات القانونيّة
أ ـ للقانون علاقةٌ عضويّةٌ بالاستعمار الغربيّ، استخدمه دائماً لنهب ثروات الشعوب من أراض ومعادن، ولاستعباد عمّالها، في أمريكا الشماليّة والوسطى، وأفريقيا، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط. وقد ساعد على ذلك أمران. الأول هو مقارنةٌ خاطئةٌ روّجها الاستعمارُ، إذ صَوّر الغربَ مالكاً أوحدَ للقانون الذي تفتقر إليه الشعوبُ الأخرى؛ ولذلك فقد «توّجب» على ذلك الغرب نشرُ القانون كجزء من «رسالته التمدينيّة» للشعوب الأخرى. والثاني هو ترويج «حياد» القانون، من خلال التركيز على تخصّصيّته، أيْ على أنّه مهنة لا تتعاطاها سوى فئة من المختصّين به. ومن ثم تغيب أسئلةٌ من نوع: قوانين مَن؟ ومن أجل من؟ ومَن يضعها؟ وما هي القوانين التي تُغيّر؟ وما هي أهدافُها السياسيّة؟
وإذا كان الاستعمارُ في عصر الاقتصاد الليبراليّ قد روّج فكرةَ تغيير القوانين من أجل «التنمية»، فإنّ الاستعمار الجديد في عصر اقتصاد السوق يروّج فكرةَ تغيير القوانين من أجل «دمقرطة» العالم النامي. ولمّا كان هذا الاستعمارُ الجديدُ يتّخذ من العولمة غطاءً له، فقد دأبت النخبُ الاقتصاديّةُ على الترويج لفكرة افتقار الدول النامية إلى مقوّمات النظام الاقتصاديّ المؤسّساتيّ اللازم لانضمامها إلى السوق العالميّة ـ ذلك الانضمام الذي هو وسيلتُها «الوحيدةُ» للتنمية. وهكذا فإنّ خطاب «القانون» يكرّس فكرة «التفوّق الغربيّ» الذي لازم الاستعمارَ دائماً. ومن هنا تربط المؤسّساتُ الماليّةُ العالميّة، كالبنك الدوليّ وصندوق النقد ومنظّمة التجارة العالميّة، إقراضَ دول العالم الثالث بتغيير القوانين، وذلك من أجل فتح أسواقها أمام الاستثمار الأجنبيّ. كما أنّها تسوّق خطاباً قانونيّاً «غربيّاً» يسهّل نهبَ العالم النامي من خلال عمليّات التفاوض اللاضميريّة مع الشركات العابرة للقارّات.
من المهمّ التركيزُ هنا على أنّ معطم الوسائل «القانونيّة» التي تُستخدم حاليّاً لنهب دول العالم النامي قد استُخدمتْ في فترات سابقة من الاستعمار في أنحاء مختلفة من العالم. وهكذا فإنّ قوانين «فتح الأسواق» و«الحوْكمة» التي تفْرضها المنظّماتُ الاقتصاديّةُ العالميّة قد استخدمها سابقاً رجال الأعمال والمصرفيين الغربيين، بالتعاون مع النخب الاقتصاديّة المحلّيّة، من أجل فتح شرايين أمريكا اللاتينيّة وتسهيل نهبها. كما استخدمها الاستعمارُ سابقاً في أفريقيا لتسهيل نقل العبيد إلى أمريكا، وهي تُستخدم اليومَ في القارّة السوداء لتسهيل نهب البترول والمعادن والموروث الحضاريّ في تلك القارّة. ثم إنّ لفتح أسواق العراق وأفغانستان بالقوّة رديفها التاريخيَّ في الصين خلال حروب الأفيون في القرن التاسع عشر. بل إنّ قوانين حماية الصناعات الغربيّة، التي تعتمد على فرض ضرائبَ عالية على البضائع المستورَدة إلى الدولة المستعمرة، في الوقت الذي تُستباح فيها أسواقُ العالم النامي، إنما هي سياسةٌ استخدمها الاستعمارُ السابقُ، وتحديداً البريطانيّ، في البنغال.
التغيير الوحيد الذي طرأ على استخدام القانون في عمليّات النهب في عصر العولمة، عصر الاستعمار الأمريكيّ، هو في فصل القانون عن السياسة الاقتصاديّة، ومن ثم التركيز على أنّ دور القانون ينحصر بتأمين الفاعليّة الاقتصاديّة، لا العدالة الاجتماعيّة. فوظيفة القانون في عصر العولمة هي تأمينُ تسهيلُ «الاستثمار»، والمحافظةُ على حقوق «الملْكيّة والملْكيّة الفكريّة»... أيْ، باختصار شديد، تحويلُ القانون إلى صديق للسوق والنخَب الاقتصاديّة. والحال أنّ التغييرات «القانونيّة» لاستباحة الأسواق المحلّيّة تجري عادةً تحت عنوان «تحديث القوانين من أجل الحكم الرشيد وسيادة/حكم القانون».
ب ـ سيادة/حكم القانون والحكم الرشيد. تنبع فكرةُ «سيادة القانون» أو «حكم القانون»، ومرادفُها «الحكمُ الرشيد»، من أنّ القانون أمرٌ تقنيّ، لاسياسيّ، مستقلٌّ عن المجتمع ومؤسّساته، لا علاقة له بتوزيع الثروة ولا بالعدالة الاجتماعيّة، بل همُّه الأولُ إيجادُ سوق فعّالة تخدم «الديمقراطيّة» (بمعناها النيوليبراليّ).
المفارقة هي أنّ مصطلح «سيادة القانون» نشأ من أجل خدمة النخَب المالكة. فأوّلُ استعمال له حصل في بريطانيا، حين احتدم الصراعُ بين البارونات والملك جايمس الأول حول قانون التحديث الذي كان التيودريّون يحاولون تطبيقَه. كذلك الأمرُ في الولايات المتحدة: فقد كان أولُ استخدام للمصطلح محاولةُ من الرئيس جايمس ماديسون لحماية حقوق الأقليّة المالكة ضدّ الأكثريّة غير المالكة، أو (بتعبيره) من أجل حماية الأقليّة من ظلم الأكثريّة.
في عصر العولمة، أو عصر الاستعمار الجديد، اعتمد مصطلح «سيادة القانون» على:
أولاً: مؤسّسات تحمي الملْكيّة الفكريّة وحقوق التملّك، وتحدّ من تدخّل الحكومات. وهذا المعنى هو الذي يروّجه رجالُ الأعمال بهدف فتح أبواب الاستثمار واستباحة أسواق العالم النامي.
ثانياً: حكومات تحفظ القوانينَ المستحدثة، وتدعم القطاعَ الخاصَّ وتحارب الفقر. وتعبير «محاربة الفقر» في هذا السياق، وهو تعبيرٌ حلّ محلّ «توزيع الثروات» أو «العدالة الاجتماعيّة»، يهدف إلى التحكّم بالفقراء من أجل ضمان سكوتهم عن النهب الذي يُقترف باسم القانون والمحافظة على الأمن، أمن الشركات العابرة للقارّات.
ج ـ الملْكيّة الفكريّة. ينبع هذا المصطلح من تركيز الاقتصاد الرأسماليّ على أهميّة تقدير المواهب الفرديّة كدافع لتفجير الإبداع. على أنّ الفلسفة الفرديّة، التي تُعْلي الملْكيّةَُ الفكريّةَُ من شأنها، إنّما جاءت خدمةً للشركات العابرة للقارّات لاحتكار الأسواق.
2 ـ مصطلحات اقتصاد المعرفة
المجموعة الثانية من المصطلحات التي اجتاحت قاموسَنا اليوميّ تتعلّق بالاقتصاد، وتحديداً بما يسمّى «اقتصاد المعرفة». وهذا الأخير مصطلحٌ أصبح ملازماً للسياسات التنمويّة التي تقترحها المؤسّساتُ الاقتصاديّةُ العالميّةُ ومجموعةُ الدول الثماني، ناصحةً دولَ العالم النامي بالتحوّل إليه إنْ أرادت أن تتطوّرَ وتزدهر. فإذا كان الحكمُ الرشيد وسيادةُ القانون شرطين أساسيين لـ «تشجيع الاستثمار، فإنّ التحوّل إلى اقتصاد المعرفة شرطٌ أساسيٌّ للتنمية المستدامة والنموّ الاقتصاديّ. وقد ترافق «اقتصادُ المعرفة» (شأن مصطلح «سيادة القانون») مع مصطلحات مشتقّة أخرى، كـ«المجتمع المعرفيّ» و«التنمية البشريّة» و«مجتمع المعلومات». ومثلما سَهّل اعتبارُ القانون أمرُا تقنيّاً لاسياسيّاً اقتباسَ المصطلحات القانونيّة وعدمَ التفكير في علاقتها بالاستعمار، فإنّ اعتبارَ الاقتصاد علماً، ومن ثم الحديثَ عن «اقتصاد» لا عن «سياسة اقتصاديّة» يمْكن الاختلافُ عليها، سهّل هو الآخر تطبيعَ المصطلحات الاقتصاديّة والاعتقادَ بحيادها دونما مساءلة.
ظهر هذا المصطلح أولاً في السبعينيّات عندما نشر دانييل بلّ كتاباً تحت عنوان المجتمع ما بعد الصناعيّ، وفيه أعطى المعرفةَ بعداً اقتصاديّاً إنتاجيّاً. ومع بداية «الثورة التكنولوجيّة» اقترح هذا الاقتصاديُّ من جامعة ستانفورد نظريّةً جديدةً آنذاك للنموّ الاقتصاديّ، أَدرجت التكنولوجيا ومعرفتَها جزءاً عضويّاً من الاقتصاد، وبدأتْ تعتبر المعرفة العنصرَ الثالثَ للاقتصاد بعد اليد العاملة ورأس المال.
ومنذ ذلك الحين أضحى المصطلح بمثابة إنجيل للمؤسّسات المانحة والبنك الدوليّ. وقد ارتبط المصطلح بـ«التنمية البشريّة» التي أصبحتْ تُستعمل بدل «تنمية الموارد الطبيعيّة». ذلك لأنّ الخطاب التنمويّ في اقتصاد السوق يقوم على الرأسمال البشريّ، وباسم هذا الخطاب يقوم البنكُ الدوليّ بإعطاء الدّيْن المشروط للدول النامية من أجل مساعدتها على الانتقال إلى اقتصاد المعرفة. وهكذا يشْرف البنكُ المذكور، وعددٌ من المؤسّسات المانحة الأخرى كـ«الصندوق الأمريكيّ للتنمية»، على تغيير المناهج التربويّة بغيةََ إنتاج رأسمال بشريّ يعزّز اقتصادَ المعرفة، وبالتالي التنميةَ المستدامة. وهكذا أيضاً يُخْبر البنكُ الدوليُّ الحكومات ما عليها أن تفعله للدخول في الاقتصاد العالميّ: مزيداً من الإنفاق على التعليم، ومن ثم مزيداً من الإنفاق على التعليم «المناسب». وهذا الأخير يعني التربيةَ الموجّهة للإبداع المُدرّ للربح، ويعني التربيةَ التي تقدّم الحوافزَ لتشجيع ومكافأة الموظّفين والأفراد الذين يستثمرون في التربية والاختراعات والشركات الخاصّة.
فقد روّجت المنظّماتُ العالميّةُ التي فَرضتْ هذه السياسات الاقتصاديّة أنّ العيب ليس في اقتصاد السوق بل في عدم توفّر اليد العاملة الطيّعة والقادرة دائماً على التكيّف مع متطلّبات الاقتصاد الجديد؛ ومن ثم فلا حاجة إلى تغيير السياسات التنمويّة التي تفرضها المؤسّساتُ الاقتصاديّةُ العالميّة، بل الحلّ هو في تنمية الخبرات العالية والتعليم الجامعيّ. وهكذا يعلّم الشبابُ في هذا العالم أنّ عليهم بذلَ مجهود أكبر في الدراسة، وأن يتنافسوا لكي يبدعوا، فيحصلوا على عمل في بلاد أصبحتْ تعتمد على اقتصاد المعرفة. وعندما تعجز التربيةُ عن مساعدة الأفراد على النجاح والتفوّق، فالسبب حتماً ليس خللاً في النظام الاقتصاديّ، والحلُّ هو دائماً في العودة إلى التدريب والحصول على المزيد من التعليم. ومن هنا كانت فكرةُ التعليم المستمرّ والتدريب في مكان العمل، اللذين يعطيان أربابَ العمل في الشركات الخاصّة حقَّ طرد العمّال والموظّفين بحجّة عدم مواكبتهم للمتطلّبات التقنيّة اللامتناهية لسوق العمل.
هذه الدعاية تزعم أنّ سرّ نموّ اقتصاد أمريكا يعود إلى اعتمادها على اقتصاد المعرفة، وعلى تقدّمها في النموّ البشريّ. ولكنّ هذه الدعاية تحجب دور النهب في تنمية الاقتصاد الأمريكيّ ـ وأعني نهبَ الشركات الأمريكيّة للموارد الطبيعيّة في أرجاء العالم ـ ودورَ الجمارك الباهظة التي تفرضها الحكومةُ الأميركيّةُ على الاستيراد من أجل حماية صناعاتها. كما تحجب هذه الدعايةُ أيضاً استغلالَ (أو بالأحرى استعبادَ) هذه الشركات لعمّال العالم من أجل تصنيع المنتجات بأبخس الأسعار، ومن ثم بيعها بأسعار خياليّة في كافّة الأرجاء. وأخيراً تَحْجب هذه الدعاية أنّ النهب يؤدّي إلى تراكم أموال لدى هذه الشركات تخوّلها الاستثمارَ في تمويل عمليّات إنتاج المعرفة، التي تدفع بدورها إلى اختراعات تدرّ الأموال.
نجح هذا الخطابُ في الانتشار بسبب الاعتقاد السائد بأنّ المعرفة، كما القانون وسيادته، جيّدة لنا. ولكنّ قلّةً فحسب تسأل: المعرفة من أجل ماذا؟ وأيُّ نوع من المعرفة هو هذا؟ ومَن يحدّده؟ وهذه الأسئلة وجيهة ولاسيّما حين نعْلم أنّ التربية التي يتمّ ترويجُها إنما هي من نوع واحد: نيوليبراليّة، فرديّة، تنافسيّة، متوجّهة إلى سوق العمل!
3 ـ العمل المجتمعيّ وثقافة المسؤوليّة
وللفرد في نظام اقتصاد المعرفة صفات: فهو مبادر، رياديّ، قياديّ، متطوّع، مشارك. وإذا كان دورُ التربية والتعليم في اقتصاد السوق هو خلق اليد العاملة الفاعلة في الاقتصاد المعولم، فإنّ صقل الصفات المناسبة للعمل في نظام كهذا هو من مهمّات المنظّمات غير الحكوميّة التي تعمل على «تمكين» الشباب من أجل أن يكون «مبادراً ورياديّاً وقياديّاً ومتطوّعاً».
ثمة ملاحظتان مهمّتان في هذا السياق. الأولى أنّ كلّ هذه الصفات نابعةٌ من سمة ملازمة لاقتصاد السوق، وهي تخلّي الدولة عن دورها في الرعاية، وتحمّلُ الأفراد مسؤوليّةَ رعاية أنفسهم بأنفسهم... والملاحظة الثانية تتعلّق بتماهي النخب المحلّيّة مع الاستعمار: فكما يعمل الاستعمارُ على «تمكيننا» كدول من أجل اللحاق باقتصاد السوق، تتمتّع نخبُنا بالقدرة على «تمكين» الشباب والمرأة. فالمصطلح ينبع من أنّ هناك فئةً متمكّنةً من النخب، تمتلك قدرات وصفات تفتقر إليها عامّةُ الشعب. وعليه، تعطي هذه النخبُ نفسَها حقَّ المبادرة بهدف تمكين الآخرين.
يثقَّف الشبابُ على تحمّل المسؤوليّة من خلال برامج «القيادة والريادة» التي تهدف، حسب مموّليها، إلى تربية قادة المستقبل. والحقّ أنّ لسان حال هذه البرامج هو كالتالي: «نعلّم الشبابَ التركيزَ على مشاريع صغيرة ذات أهداف يمْكن تحقيقُها، يستطيعون العملَ عليها، وبالتالي لمسَ نتائجها، بدلاً من التركيز على أحلام كبيرة لا يمْكنهم تحقيقُها. ونعلّمهم ذلك رحمةً بمجتمعاتهم المحلّيّة، بحيث لا ينتظرون الحكومة لتحلّ مشاكلهم؛ ومن هنا أهميّةُ أخذ المبادرة». وهكذا فـ«تمكين» الشباب يهدف إلى إعدادهم لغياب الدولة الخدماتيّة، وتحمّل المسؤولية من خلال إشراك القطاع الخاصّ.
من الجليّ أنّ هذه البرامج تهدف إلى «لاتسييس» الشباب، وإلى إبعادهم عن الهموم الكبيرة، وإلى دعوتهم إلى التركيز على «المحلّيّة»، الأمر الذي يعزّز الهويّات الضيّقة. وأما هموم الوطن، أي «الأحلام الكبيرة»، فتُترك لمن يستطيع تنفيذَها من الدول المستعمرة!
خاتمة
هي، إذنْ، كلماتٌ سهّلت النهب من خلال فصل القانون عن السياسة، والتحوّلَ إلى أصوليّة السوق بعد تغييب الحديث عن السياسات الاقتصادية.
هي كلماتٌ كان جورج أورويل قد نبّه إلى أنّها من النوع الذي يؤدّي فسادُها إلى فساد المجتمع بأسْره. فـ«الحكم الرشيد» و«اقتصاد المعرفة» و«التنمية البشريّة» و«الريادة» عدّلها الاستعمار وشوّهها لتغطية أهدافه.
هي كلماتٌ تساعد على الفصل بينـ«ـهم» وبينـ«ـنا». وهذا يسهّل التدخّلَ الاستعماريّ بحجة أنـّ«ـهم» يريدون أن يعطو«نا» ما يملكون.
إنها كلماتٌ استعماريّةٌ على النمط الأمريكيّ. إنها اللغة التي تقف وراءها بنيةٌ أعمقُ من التفكير والمحاججة المتلازميْن لرؤية واشنطن إلى نفسها بوصفها إمبراطورية، وإلينا بوصفنا مستعمرات. فالكلمات تخْلق واقعاً، بالرغم من أنّ اللغة الجديدة التي نستعملها تمرّ من دون أيّة ملاحظة: فلا يُتوقّفُ عندها، ولا يُعلّق عليها، فتسهم في تقبّل وتطبيع النشاطات الأمريكيّة في منطقتنا، وتُعْمينا عن رؤية واقع الاستعمار الجديد الذي نعيش... واقع النهب الجديد الذي يحصل باسم التخصّصيّة وتحديث القوانين و«دخول العولمة».
سيادة القانون، الريادة، المبادرة...: كلماتٌ من الممكن أن تحمل في طيّاتها معاني المقاومة إنْ نحن أعطيناها المعاني التي نريد... إنْ نحن استعدْناها. ألم يحصلْ ذلك على مرّ التاريخ؟ ألم تغيّر النخبُ الحاكمةُ القوانين كي تحتفظ بمكتسباتها، فتستوعب الطبقاتُ الأخرى هذه القوانينَ وتستخدمها لمصالحها؟ ولكنّ البداية تكون في الوعي بكيفية استعمال هذه الكلمات لاستعمارنا، كي يتسنّى لنا من بعد ذلك امتلاكُها وتحويلُها إلى مقاومة.