حسين علي خاص قاسيون - بوسطن - الولايات المتحدة حسين علي خاص قاسيون - بوسطن - الولايات المتحدة

قضايا محرّمة في السياسة الأمريكية.. الأمريكيون محرومون من مناقشة الأزمة الاقتصادية التي يدفعون ثـمنها فقراً وبطالةً!!

إن الأمريكيين قلقون حول الوضع المالي: غليان أزمة المساكن، انهيار الدولار، التضخم. لا يعرف معظمهم ما الذي أدى إلى ذلك، لكنهم يدركون بأن هناك شيئاً فاسداً يسود في النظام الاقتصادي. لا يتحدث كلا الحزبين السياسيين، الجمهوري والديمقراطي، بصراحة مع الجمهور الأمريكي، بل بدلاً من ذلك، قال المتحدثون الرئيسيون للناس على شاشات التلفزة إن حكامهم يعرفون بالضبط ما هو الخلل، وسوف يقومون فوراً بتصحيحه، فكل ما يحتاجه الاقتصاد هو مناورة مالية صغيرة يقوم بها الفدرالي الاحتياطي، وبعد ذلك كل شيء سيكون على ما يرام، ولا يوجد أي خلل جوهري في النظام الاقتصادي. إن تلك الأجوبة المصطنعة لم تعد ترضي أحداً إلا القليل الذين لهم مصلحة بإعطائها، لكن، في جميع الأحوال تلك هي كل الأجوبة التي أعطيت للأمريكيين..

مناقشات سطحية.. وجرعات مهدئة

 مرة أخرى يُحرم الأمريكيون من مناقشة كاملة ومثمرة في موضوع من المواضيع الأكثر أهمية وتأثيراً في حياتهم. ينحصر النقاش فقط حول القيام بإصلاحات ثانوية لا طائل منها: هل يجب على الاحتياطي الفدرالي أن يقوم بهذا التعديل الطفيف أو ذاك الإصلاح المبتذل؟ لو قرأنا الصحف الرئيسية وشاهدنا قنوات التلفزة، لن نقرأ أو نسمع أية أسئلة جوهرية تُطرح. إن النقاش ينحصر بالسطحيات دون الجوهر.

عدم الاستقرار في الأسواق النقدية العالمية والهبوط الشديد في قيمة الدولار الذي كان مقبولاً كاحتياطي نقدي في الأسواق العالمية، والأزمة الاقتصادية الكبيرة، أدى كل هذا إلى عدم إمكانية الاستمرار في التمتع بالاستقرار النسبي للدولار، وإلى ضرب كل الوعود والتطمينات التي تقول إن النظام كان جيداً ولا عيب فيه. إن المزيد من أنصاف الحلول والجرعات المهدئة ستؤدي فقط إلى تأخير يوم الحساب المحتوم.

كتب جون آدامز الى توماس جفرسون في عام 1787 «إن كل هذا الارتباك والفوضى والعوز في أمريكا لم يأت، إلى حد بعيد، من نقص في الفضائل أو الضعف الأخلاقي، بقدر ما أتى من الجهل الصريح لطبيعة العملة النقدية، الائتمان، والتداول». 

القرن العشرون.. الحكومات تخالف الدستور!

إن الدستور الأمريكي يبدو واضحاً حول السلطات المالية الممنوحة للحكومة الفدرالية. يقع على عاتق الكونغرس مسؤولية دستورية للحفاظ على قيمة الدولار بواسطة جعل الذهب والفضة فقط الغطاء المالي القانوني، وليس إصدار (سندات ائتمانية وطبع المزيد من العملة). إن سلطة تنظيم وضبط قيمة النقد لا تعني بأن الحكومة الفدرالية لها الحق بتخفيض قيمة العملة، بل إنها مجرد سلطة لتقنين وتنظيم الدولار المعروفة قيمته والمحددة مسبقا بمعيار الذهب. كما أن الدستور يشير إلى سلطة الحكومة للإعلان عن النسبة بين الذهب والفضة، أو بين الذهب وأية معادن أخرى، وذلك على أساس قيم السوق الجارية لتلك المعادن. أنجزت تلك المسؤولية بشكل جيد نسبياً في القرن التاسع عشر على الرغم من إساءة استعمال الدولار الذي جرى خلال الحرب الأهلية. نشأت المشاكل عندما تم تجاهل أو إساءة استعمال أنظمة وقواعد معيار الذهب (التأريخات الاقتصادية السطحية للقرن التاسع عشر ألقت باللائمة، بشكل سخيف، على معيار الذهب من أجل الأوقات العصيبة التي عانى منها الأمريكيون حينذاك). حددت قيمة الدولار بوزن معين من الذهب حتى عام 1933 عندما كان يمكن استبدال 20 دولاراً بأونصة من الذهب. لكن في تلك السنة تخلت الحكومة الأمريكية عن معيار الذهب. صادرت الحكومة الأمريكية واقعياً مقتنيات الأمريكيين من العملة الذهبية لاغية حتى العقود الخاصة التي كانت تقضي بالدفع ذهباً مقابل الخدمات أو البضائع، وأعلنت بأنه لا يمكن للمواطنين الأمريكيين بعد الآن تحويل الدولار إلى ذهب، لكنها أخذت بعين الاعتبار المبادلة بواسطة البنوك المركزية الأجنبية بسعر 35 دولاراً للأونصة. كان هذا خفضاً لقيمة الدولار من النسبة القديمة البالغة 20.67 دولاراً للأونصة. في عام 1971 أعلن ريتشارد نيكسون بأنه خلال سنة واحدة وبمعدل تبادل 35 دولاراً للأونصة، لن تملك الولايات المتحدة أونصة واحدة متبقية من الذهب. بدأت حكومات أخرى تدرك بأن الدولار، الذي كان قد تضخم إلى حد كبير، بدأ يفقد قيمته، وبدأ يكثر باطراد الذين يطالبون بالذهب بدلاً من الدولار وفاءً لخدماتهم وبضائعهم. عند تلك النقطة أغلق نيكسون نافذة الذهب، أي حتى البنوك المركزية الأجنبية لن تستطيع  أن تحصل على الذهب مقابل الدولار. بعمله هذا قطع نيكسون آخر صلة متبقية كانت تربط الدولار مع الذهب. 

من العبث.. إلى الاحتيال!

لنرَ الآن كيف يعمل نظام الاحتياطي الفدرالي بشكل اعتيادي. عندما نقرأ بأن رئيس الاحتياطي الفدرالي يخفّض معدلات الفائدة، ماذا يعني ذلك؟

يشير المحللون إلى شيء يدعى معدل الفائدة المالي الفدرالي، إنه المعدل الذي تطلبه البنوك عندما تقترض من بعضها البعض.. يتطلب من البنوك أن تحتفظ بجزء محدد من الأموال المودعة لديها كاحتياطي فلا يجوز إقراض تلك الأموال، إذ يجب أن تكون موجودة لتلبي السحوبات المحتملة للزبائن. قد تجد البنوك نفسها تحت سقف الاحتياطي المطلوب الاحتفاظ به المحدد من قبل الاحتياطي الفدرالي، وذلك لو قامت هذه البنوك بإقراض الكثير من الأموال، أو لو قام عدد كبير من الزبائن بسحب أموالهم بشكل مفاجئ غير اعتيادي. تقترض البنوك بعضها من بعض عندما تحتاج إلى مبالغ نقدية إضافية لتغطي بها الاحتياطي المالي المطلوب منها الاحتفاظ به. يرتفع  معدل الفائدة المالي الفدرالي عندما يكون هناك طلب كبير من البنوك للاقتراض والقليل من العروض من البنوك المستعدة للإقراض. لأسباب محددة، سنعرضها لاحقاً، يعمل الاحتياطي الفدرالي غالباً للحيلولة دون ارتفاع معدلات الفائدة الفدرالية، على الرغم من أن الاحتياطي الفدرالي لا يستطيع وضع معدل فائدة معين، لكنه يستطيع أن يتدخل في الاقتصاد بطريقة ما، تؤدي إلى تخفيض معدل الفائدة الفدرالي، وهذا يتم بشراء سندات الرهون من البنوك مما يوفر لها مبالغ أكثر من الأموال، وبالتالي احتياطيات أعلى يستطيع البنك التصرف فيها بإقراضها لبنوك أخرى تحتاج إلى تلك الأموال.

السؤال هنا هو: من أين حصلت الحكومة على الأموال التي تشتري بها سندات الرهون؟ لقد خلقت هذه الأموال من لا شيء، أي ببساطة، كتبت الحكومة شيكّات على نفسها، ومسحوبة عليها، وأعطتها للبنوك. إذا كان ما أقوله يبعث على الريبة والشك، فهذا يعني بأنه مفهوم تماماً، وبشكل واضح. هنا، أخيراً، نرى كيف أن نشاط الحكومة الاتحادية يؤدي إلى خفض معدلات الفائدة التي تمنحها البنوك.

تملك البنوك الآن احتياطيات زائدة تستطيع إقراضها، إما لبنوك أخرى، أو للأفراد، أو للشركات. ولكي تجتذب مقترضين أكثر، يجب عليها تخفيض معدلات الفائدة، وتخفيض مقاييس الاقتراض، أو تخفيض الاثنين معاً. عندما تتدخل الحكومة بالطريقة هذه عارضة في التداول أموالاً وسندات ائتمان متزايدة تخلقها من لا شيء، يؤدي ذلك إلى أنواع كثيرة من المشاكل الاقتصادية، ويؤدي إلى تخفيض قيمة الدولار، وبذلك تجعل الناس أكثر فقراً. حتى محاولات تحفيز النشاط الاقتصادي والتي تأتي من الاقتراض والإنفاق الإضافيين تؤدي أيضاً، على المدى البعيد، إلى مزيد من المشاكل الاقتصادية، ويؤدي هذا الازدهار الزائف إلى أوقات عصيبة لاحقة، ويؤدي في نهاية المطاف إلى الركود الاقتصادي، وهذا ما نشهده الآن. 

آلة طباعة الدولار.. ومركزة الثروة

لنرَ أولاً آثار التضخم على قيمة الدولار: بطبع المزيد من النقود، ومع زيادة عرضها في الأسواق يكون الاحتياطي الفدرالي قد خفّض قيمة كل دولار موجود في التداول سابقاً. وكلما خلق الاحتياطي الفدرالي نقوداً إضافية انخفضت قيمة ما يملكه الفرد من أموال. عندما يزداد عرض النقود ترتفع الأسعار.. يصبح كل دولار يساوي أقل مما كان يساويه سابقاً، أي يشتري بضائع أقل مما كان يستطيع أن يشتريه في الماضي. لنتخيل مزاداً لبيع اللوحات الفنية، حيث يعطى فيه كل مزايد مليون دولار إضافي، هل يمكن لنا أن نتوقع بأن المزايدات لن ترتفع؟ إن السوق يعمل بالطريقة نفسها ما عدا أنه يوجد في اقتصاد السوق الحر أعداد كبيرة من البائعين عوضاً عن بائع واحد في المزاد.

قد يقول البعض إن الأسعار ترتفع في الواقع لكن ترتفع المعاشات والرواتب أيضاً، وبالتالي لا يسبب التضخم مشاكل حقيقية في الجوهر.  إن هذا المفهوم الخاطئ يهمل أحد أمكر وأحطّ تأثيرات التضخم: إنه إعادة توزيع الثروة من الشرائح الوسطى والطبقة الفقيرة إلى الطبقة الغنية. إن ارتفاعات الأسعار التي نتجت عن التضخم لا تحدث جميعها في الحال وبالدرجة نفسها. إن أولئك الذين يستلمون الأموال الجديدة يستلمونها أولاً قبل أن تكون الأسعار قد ارتفعت، إنهم يتمتعون بمزيد من الثراء المفاجئ. خلال هذه الفترة، عندما ينفق هؤلاء هذه الأموال الجديدة، وعندما ينفق المستلمون الآخرون الجدد أموالهم أيضاً، وهكذا دواليك، تبدأ الأسعار بالارتفاع على امتداد السوق وقبل أن تبدأ الأموال، التي يقال عنها زيادة في الأجور، بالوصول بالقطّارة إلى معظم الناس. عندما يقوم الشخص العادي في النهاية بشراء احتياجاته، يدفع أثماناً أعلى لمشترياته، بينما يكون أجره الذي يتقاضاه ما يزال هو نفسه لم يتغير بعد ليتناسب مع العروض المتزايدة للنقود في السوق، والتي يتم طباعتها وخلقها عارية من أي غطاء.

في الوقت الذي تكون فيه هذه الأموال الجديدة قد وصلت إلى التداول على امتداد الاقتصاد يكون الناس العاديون قد راحوا يدفعون أثماناً عالية لمشترياتهم. إن الغنى الذي حققه الأشخاص الذين لهم علاقات جيدة مع النظام السياسي القائم (بكلمات أخرى، هؤلاء الذين استلموا الأموال الجديدة المخلوقة من دون أية تغطية: المتعهدون لمشاريع حكومية، والبنوك الكبيرة، والذين على شاكلتهم) حصلوا عليه على حساب الآخرين المباشر. يعرف ذلك بتأثيرات التوزيع الناتجة عن التضخم. يتعرض الشخص العادي بذلك إلى السلب والنهب بصمت من خلال طرق غير مرئية، وعادة هو لا يفهم ماذا يحدث له بالضبط، ولا يوجد أحد من المنتمين إلى المؤسسة السياسية له المصلحة أو لديه الحافز ليخبره بما يجري. عندما تتآكل مدخرات الأمريكيين عمداً كما يحدث الآن، فإن هؤلاء الأمريكيين يدفعون بذلك ضريبة مخفية تفرض عليهم بمكر وسرية. لا يملك معظم الأمريكيين أية فكرة حول جوهر الأمر الذي أدى إلى تراجع مستوى معيشتهم، بينما تتلقى الحكومة وزبانيتها الغنائم المسلوبة، وتكون خدعة الابتزاز آمنة طالما لا أحد يفهم أو يكشف ماذا يجري. 

الازدهار الزائف.. اقتراب الكارثة

كما قلنا، يحاول الاحتياطي الفدرالي غالباً أن يؤجل لحظة الحساب، الفترة الأليمة عندما تصفّى حسابات الاستثمارات السيئة، وعندما تعود قوانين اقتصاد السوق إلى فعلها. مع ذلك، يعمد الاحتياطي الفدرالي إلى تخفيض أسعار الفائدة مرة تلو الأخرى بهدف تحفيز الاقتصاد. يستمر الازدهار الزائف، لكن لا يستطيع الاحتياطي الفدرالي أن يستمر بهذه اللعبة التضليلية إلى الأبد: استمرار التضخم بدون نهاية يؤدي إلى تضخم في التضخم (أي زيادة مفرطة في التضخم)، وبالتالي إلى انهيار الدولار. في بعض الحالات، وبعد الوقوع في دوامة التضخم مرة بعد أخرى كطريقة لتحفيز النشاط الاقتصادي، تجد البنوك المركزية بأنه لم يعد لسياساتها أي تأثير يذكر. بمعنى بأن النظام القائم ككل الذي تعمل من خلاله هذه البنوك، قد استنزف إلى النهاية. لا يمكن للبنوك المركزية خلق الازدهار من لا شيء، عبر طبع المزيد من العملات الورقية، حتى لو تم تخفيض سعر الفائدة إلى الصفر كما فعل البنك المركزي الياباني في تسعينات القرن الماضي، حيث خفض سعر الفائدة إلى الصفر من أجل تحفيز الاقتصاد ولكنه لم ينجح. عندما أسّس البنك الاحتياطي الفدرالي في عام 1913، ما كان سعره يساوي 100 دولار أصبح سعره 2014.81 دولار في عام 2006. ما قيمته 100 دولار في عام 2006، كانت قيمته تساوي 4.96 دولار في عام 1913. كما نرى، فإن الدولار قد فقد كل قيمته تقريباً منذ تأسيس البنك الاحتياطي الفدرالي وحتى الآن. لكن لو ظل مقياس الذهب معمولاً به لزادت قيمة النقود التي يملكها الناس، ولما تعرضوا للسلب والنهب نتيجة التضخم، فما كان يكلف 100 دولار في عام 1820 كلف 63.02 دولار في عام 1913. 

موجات جديدة من الإفلاس والركود

القليل من الأمريكيين فقط من يتفاجأ بالإحصائيات: ارتفعت أسعار البيوت بنسبة 45 بالمائة بين عام 1998 وعام 2005. كانت هذه الزيادة الحادة علامة على الأزمة الاقتصادية الشديدة التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي الآن التي جلبت وما تزال تجلب عواقب حقيقية وخيمة على الناس من خسارة لبيوتهم المرهونة للبنوك إلى الإفلاس. إن تداعيات الأزمة لم تنته بعد، فهناك موجات جديدة من الإفلاس والركود ستمتد لتشمل ليس المؤسسات المالية وحسب، وإنما القطاعات الإنتاجية أيضاً، أي الاقتصاد الحقيقي كما حصل في قطاع البناء، وكما يحصل الآن في صناعة السيارات.

في وسط هذه الأزمة لا نرى أحداً يدعو إلى مساءلة الحكومة ممثلة بالبنك الاحتياطي الفدرالي لتحمل المسؤولية عن حقن الاقتصاد بأموال زائفة عارية لا قيمة لها، والتي يمكن وضعها في المقام الأول في التسبب بكل هذه الأزمة التي بدأت بالمساكن، وراحت تمتد الآن إلى كل أنواع القطاعات الاقتصادية والمالية.

عندما يتم تجاهل جذور المشكلة عند معالجة هذه الأزمات، لا بد أن يكون الفشل هو النتيجة. لا يمكن حل مشكلة التضخم بمزيد من التضخم. يقول المرتبطون بالمؤسسة السياسية: لسوء الحظ، إن الأزمات المالية تحدث، فهي ببساطة أحد العوارض الجانبية في اقتصاد السوق الحر. هذه الإجابة تلائم القائمين على هذا النظام، لذلك نسمعها تتكرر دائماً، فهي تعطي هؤلاء المسؤولين عن الانهيار المالي والاقتصادي الذي يواجه أمريكا الآن فرصة تعفيهم من مسؤولية ما يحدث وتتجاهل جذور المشكلة الكامنة في طبيعة النظام نفسه.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 00:07