الرأسمالية المأزومة تحتاج إلى نزاع عسكري ضخم (25)


جيوستراتيجيا: لكنّ هذه السلطات منبثقةٌ من الاقتراع العام، من تصويت الشعوب. إذا مضينا بالتحليل إلى مداه الأقصى، هل ينبغي علينا أن نستنتج بأنّ الشعوب الغربية ترغب في الرأسمالية؟

جان لوي إزامبير: بالفعل، لقد أدلت الشعوب الغربية حتى الآن برأيها لمصلحة ممثّلين عن الرأسمالية، دون أن تعرف  عملياً أيّ شيءٍ عن طبيعتها ولا حتّى أن تتصوّر إلى أين يمضي بها هذا النظام حالياً، فلنأخذ فرنسا مثالاً، في العام 1981، أثناء الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية التي تلتها، سنحت للشعب الفرنسي فرصة الاختيار بين استمرارية النظام الذي ترمز إليه الأحزاب المحافظة، وبين القطيعة التي اقترحها آنذاك الحزب الشيوعي الفرنسي عبر البرنامج المشترك للحكم الذي قدّمته قوى اليسار التي كان الحزب الاشتراكي وراديكاليو اليسار مشاركين فيها، وكان البرنامج المشترك للحكم منبثقاً هو نفسه من سنوات التزام الشيوعيين الفرنسيين بفتح دربٍ جديدٍ في بناء ديمقراطية متقدمة، وبالفعل، أتى ذلك البرنامج بعد عدّة حملاتٍ وطنيةٍ كبيرةٍ قام بها الحزب الشيوعي الفرنسي وتطوير ونشر برنامج الحزب بملايين النسخ بعنوان «تغيير الوجهة»، برنامج من أجل حكمٍ ديمقراطي للوحدة الشعبية، من أجل تحضير البرنامج، قام المناضلون الشيوعيون آنذاك بحملاتٍ كبيرة تضمّنت بثّ معلوماتٍ ونقاشات، جُمعت على مدى عدّة أشهر ضمن «دفاتر البؤس» معيشة وآمال الشعب في الأرياف والأحياء والمصانع والجامعات، وقد سمح ذلك كلّه بمساعدة الناس في مشكلاتهم اليومية ـ على سبيل المثال، عبر معارضة التسريحات في شركاتٍ رابحةٍ أو منع عمليات الاستيلاء المترافقة مع الطرد ـ وفي الوقت عينه إجراء مناقشاتٍ معهم حول التغييرات الواجب تطبيقها من أجل سياسةٍ وطنيةٍ جديدة. وفي لحظة التصويت، أثناء الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تلتها، تراجعت أغلبية المصوّتين أمام الحملات الإعلامية المناهضة للشيوعية والتجأت إلى حضن الحزب الاشتراكي، وما أن أصبح هذا الحزب في السلطة حتّى سارع للتخلي عن التزاماته بضغطٍ من البرجوازية ومن الحكومة الأمريكية التي عارضت وجود وزراء شيوعيين في الحكومة الفرنسية. هكذا، تخلّى «جيل فرانسوا متيران» عن جميع التحوّلات الجذرية المتضمّنة في البرنامج المشترك للحكم، لاسيّما تأميم القطاعات الرئيسة في الاقتصاد، وتطوير الديمقراطية وكلّ إجراءٍ يسمح بإجراء قطيعةٍ مع النظام. مرّةً أخرى، تمّت البرهنة على أنّه من دون حزبٍ ثوري، من دون تحشيدٍ ودعمٍ لمقترحات القطيعة مع النظام، لا يمكن أن يوجد تغييرٌ حقيقي. فلو أنّ الإجراءات التي خطّط لها الحزب الشيوعي الفرنسي لقيت آنذاك دعماً شعبياً كبيراً، لكان مجرى الأمور مختلفاً جدّاً، بما في ذلك بصدد المسألة الأوروبية. من جانبٍ آخر، إذا أعدتم اليوم قراءة «تغيير الوجهة»، برنامج الحزب الشيوعي الفرنسي، أو حتّى البرنامج المشترك للحكم للعام 1972، ستلاحظون مع مرور الزمن ونظراً للوضع الحالي صواب مقترحات تلك الفترة التي لا يحتاج بعضها سوى إلى بعض التعديلات لتصبح راهنة. إذاً، على كلٍّ منّا أن يتحمّل مسؤولياته في مواجهة التاريخ. لا يمكن إجراء الانتقال إلى بناء مجتمعٍ اشتراكيٍّ إلاّ على أساس توازن قوى اجتماعيةٍ وسياسيةٍ لمصلحة الشعب ولا يمكن أن يكون إلا نتاج إرادته ونضاله، بعد نحو ثلاثين عاماً، يواصل الشعب الفرنسي، ومن دون استخلاص دروسٍ من تجاربه، التصويت تارةً لليسار وتارةً لليمين من دون أن يعي بعدُ أنّه يولي سلطته في واقع الأمر لسادة المال والاقتصاد عينهم. بالتالي، تبقى السياسة التي يعيشها يومياً عينها ولا يتغير شيءٌ في الأعمال، في الحياة الاقتصادية التي يكرّس لها جلّ وجوده، بطبيعة الحال، تفاقم الوضع على مدى ثلاثة عقود انقضت منذ العام 1981 وبدأ الشعب يدفع غالياً ثمن مسيره  «يمين ـ يسار ـ يمين ـ يسار» بطالةً وضرائب ورسوماً واستبعاداً وتقييداتٍ وقوانين تقتل الحرية وحروباً، لكنه لا يستطيع أن يلوم أحداً سوى نفسه، فهو من يقرّر في نهاية المطاف، بنضالاته وتصويتاته. لكن دعونا نتذكّر أنّ التاريخ قد أظهر بأنّ الثورات غير مدرجةٍ في التقويمات الانتخابية التي تُعدّها البرجوازية.


الأولوية للفعل على الاقتراحات الثورية
جيوستراتيجيا: هل المسؤولية تقع فقط على شعبٍ جاهلٍ بالسياسة وبتاريخه أو الأكثر انشغالاً بـ»مشكلاته الصغيرة» منه بمآل المجتمع والكوكب؟ 

جان لوي إزامبير: لا، بطبيعة الحال. الأزمة لا تحثّ على التفكّر والفعل. إذ تلعب وسائل الإعلام التي يمتلكها أصحاب ملياراتٍ عن طريق المصارف وشركات الاتصالات دوراً مهماً في تضليل الجماهير. إن رفع عملٍ تافهٍ مثل فيلم «أهلاً بكم في منزل آل شتي» إلى مصاف النجاح السينمائي أو تبجيل الجماهير لموت شخصٍ متقلّبٍ شهيرٍ إعلامياً مثل مايكل جاكسون لم يقدّم شيئاً أصيلاً للموسيقى وكان يتعاطى المخدرات ويضاجع الأطفال الصغار وكان يشدّ بشرته ويبيّضها ليتخلّص من كونه أسود البشرة إلى مصاف الإله يكفي لقول الكثير عن المستوى الثقافي لفئةٍ من المجتمعات الغربية. نحن بعيدون حقاً عن الموسيقيين والمغنين الكبار مثل كينغ أوليفر وسندي بيشيه وكاونت بيزي ولويس أرمسترونغ وراي تشارلز وأوتيس ريدينغ وغيرهم، تعبُر موسيقاهم الشعبية الأجيال! وهذا ليس سوى مظهرٍ لعواقب المعارك التي تشنّها الشركات عابرة القومية، الأمريكية والأوروبية واليابانية، للتحكّم بوسائل الإعلام الكبيرة ومجموعات الصحافة في الأقمار الصناعية مروراً بكبار العاملين في السينما. لاشكّ في أنّ الشعب سيخرج من سباته السياسي حين ننتقل من «من يريد أن يكسب الملايين؟» إلى «من سيذهب إلى الحرب؟»، منذ ثمانينيات القرن العشرين، ارتكب قادة الحزب الشيوعي الفرنسي أخطاء استراتيجيةً جسيمة. وكما لو أنّهم لم يفهموا دروس الماضي، يواصلون البحث عن تحالفاتٍ انتخابية مع أحزابٍ أخرى إصلاحيةٍ بدل تفضيل اقتراحاتٍ توقظ الوعي وتنظيم نقاشاتٍ وطنيةٍ واسعة حول المسائل الأساسية وتجميع الناس في الفعل بجرأة. حين سيطرح حزبٌ أو حركةٌ أسئلةً من قبيل «ما السبيل إلى التحكّم بالنظام المصرفي والمالي؟»، «أيّ تنظيمٍ مصرفي ومالي للاقتصاد؟»، «أيّ إجراءاتٍ لإدارةٍ ديمقراطيةٍ للشركات؟» أو «ما السبيل إلى جعل مجلس الشعب تمثيله الوطني؟»، وهي أسئلةٌ إجاباتها أساسيةٌ للشروع في إجراء قطيعةٍ مع النظام، آنذاك سيبدأ المجتمع في الاستيقاظ. راهناً، ينبغي عدم الاعتماد على قادة أركان النقابات الذين ينشغلون أساساً بتنظيم مجرى الاستياء بهدف تجنّب موجات الغضب الكبيرة التي بدأت تهدر. من المؤسف بخاصةٍ أن نرى ممثّلي النقابات يفاوضون على تقليص عدد المسرّحين في الشركات السليمة مالياً في حين كان ينبغي ألاّ يقتصروا على الدعوة إلى النضال للإبقاء على العمل وتطويره، وفرض أن يفتح أرباب العمل حسابات الشركة والنضال من أجل حقوقٍ جديدةٍ بهدف المشاركة في إدارتها. قولوا لي ما هي فائدة لجان الشركات حين يكتشف العاملون بين عشيةٍ وضحاها خطط تسريحٍ معدّةٍ منذ وقتٍ طويل؟! هل لاحظتم كيف تمّ حذف الحركة الراديكالية التي ولدت من القاعدة والخاصة بعزل المسؤولين عن خطط التسريح تلك؟ لقد اختفى هذا النمط من الفعل المثير حقاً للاهتمام اختفاءً عملياً من النشرات الإخبارية التلفزيونية وغيرها بين عشيةٍ وضحاها. راهناً، بين الأحزاب التي تدعى بالتقدمية والتي تخلو من المقترحات الثورية وبين النقابات التي أقلّ ما يقال عنها إنّها رحيمة، لم يكن بوسع سلطة «من يعدّون حبات البازلاء» وفق تعبير هيرفيه سرييكس أن يأمل أفضل من ذلك..

 

جيوستراتيجيا: هل هذا يعني أنّ الوضع مأزومٌ سياسياً وأن الخروج من الأزمة سيكون صعباً؟

جان لوي إزامبير: إنّ فكرة إمكانية وجود مخرجٍ من الأزمة دون مخرجٍ من النظام الذي يولّده هي محض هرطقة، هذا يعادل الرغبة في علاج نزلةٍ وافدةٍ من دون قتل الفيروس المسبب لها، مرةً أخرى، لا تهدف هذه الخرافة إلاّ إلى خداع الشعب عبر دفعه إلى الاعتقاد بأنّ المستقبل سيكون أفضل في حال قبل إجراءاتٍ جديدةٍ معاديةٍ للمجتمع من قبيل رفع سنّ التقاعد إلى 65 سنة على سبيل المثال، إنّها ليست سوى التتمة المنطقية لمنطق «اعمل أكثر كي تكسب أكثر» التي طوّرها الاتحاد من أجل حركة شعبية. لن يكون هنالك مخرجٌ من الأزمة لسببٍ بسيطٍ هو أنّ الرأسمالية لم تعد قابلةً لإعادة ترتيبها. لقد استطعتم ملاحظة مدى صمت وسائل إعلام القوى المالية بصدد أصل الأزمة وعواقبها العامّة ومداها في بلدانٍ أخرى. ينبغي بخاصّةٍ تجنّب أن تعي الجماهير مدى الأضرار والمسؤولين عن الوضع من أجل مزيدٍ من سَجنها في منطق الحتمية والتخلّي عن النضال.

 

لم نعد نعيش ديمقراطية

جيوستراتيجيا: هل يعني ذلك أنّ الإفقار المستمرّ للمجتمع سيتواصل على نحوٍ فجٍّ على حساب المصلحة العامة ولمصلحة كبار ملاّكي الاقتصاد الخواص وحدهم؟

جان لوي إزامبير: نعم. نحن ندخل مرحلةً جديدةً تتزايد فيها نسب البطالة على نحوٍ هائلٍ وتحرَم فيها ملايين إضافيةٌ من المواطنين من الحق في العيش اللائق من عملهم، حيث سيزداد فقر الجماعة البشرية المهددة أصلاً في حين يتواصل إثراء فئة كبار الملاّكين الخواص للاقتصاد. وفق تقرير الصحة العالمية الذي نشره بنك الأعمال الأمريكي ميريل لينش وكاب جيميني، «من المتوقّع أن يبلغ تزايد ثراء أصحاب الثروات المالية الخاصّة الكبيرة بمعدل 7.7 بالمائة سنوياً ليبلغ 59100 مليار دولار ببلوغ العام 2010». هاكم أناسٌ معفيّون من زيادة مدّة العمل ومن الجهد الوطني اللذين تحاول الحكومات الغربية فرضهما على الشعوب لتجعلها تدفع كلفة أزمةٍ ليست الشعوب مسؤولةً عنها. هنالك خياران: استمرار النظام والحرب، أو الثورة. سوف تتجلّى الفرضية الأولى في تعزيز الطابع التسلّطي للسلطة السياسية، آخر مراحل الإمبريالية قبل الدكتاتورية والحرب، حيث تؤدّي الحرب الاقتصادية دائماً إلى الحرب الشاملة. وهذا ما نشهده في فرنسا وفي معظم البلدان الرأسمالية. إنّ السلطة السياسية تصبح أكثر تسلّطاً، وتتقلّص كلّ الحرّيات تدريجياً بحجة الوقاية والأمن والنظام، ويتمّ تحجيم الهيئات المنتخبة من حيث قدرتها على اتخاذ القرار والتدخل، سواءٌ تعلّق الأمر بالهيئات الجماعية أم بلجان الشركات أم بغيرها. في هذه المرحلة، لا تزال البرجوازية تتمتّع بوسائل لتقسيم الشعب عبر محاباة «الأنوف المزيفة» في المعارضة مثل الحزب الاشتراكي في فرنسا وتقديم تياراتٍ رجعية إلى الحياة السياسية، تعرف أنّها ستساهم في بثّ الاضطراب في معركة الأفكار. إنّها حالة حركة الخضر التي تزعم أنّها حركةٌ بيئية، والتي تبرعمت على أحد عواقب الرأسمالية ـ تدهور البيئة البشرية على يد الشركات عابرة الجنسية ـ وكبرت في أتونها من دون التشكيك في النظام والأسباب العميقة لهذا التدهور.

 

جيوستراتيجيا: لكنّ حركة البيئة تشجب تدمير البيئة؟

جان لوي إزامبير: طبعاً، ويقول الحزب الاشتراكي إنّه يريد معارضة سياسة رئيس وزراء نيكولا ساركوزي دوناجي بوسكا. لكنّك تستطيع أن تشجب ما تريد، وهذا أمرٌ لا يزعج إطلاقاً البرجوازية طالما أنّك لا تتطرّق إلى ما هو أساسي، أي السبب، أي أصل هذا التدمير: سلطتها السياسية وسلطة القوى المالية، نظامها وأسلوب إدارتها للشركات وللمجتمعات البشرية. على سبيل المثال، إنّ خطاب أولئك البيئيين المتعارضين، في مجال التحكّم بالطاقة النووية وتطويرها، يذكّر بتلك العقليات المتأخّرة التي كانت تتّهم في ثلاثينيات القرن التاسع عشر القطارات البخارية الأولى بأنّها تنشر السلّ في الأرياف. أمّا بالنسبة إلى الرابطة الشيوعية الثورية - الحزب الشيوعي الجديد المناهض للرأسمالية، أيّاً كانت التغييرات في اسمه، فقد ساهمت هذه المنظمة دائماً في تقسيم الحركة الشعبية وإضعافها بعباراتٍ ثوريةٍ مزيفةٍ وينبغي أن نحاربها بوصفها كذلك. من جانبٍ آخر، هي غائبةٌ تماماً عن التحرّكات العمالية ضد الأزمة.

 

مسألة الجبهة الوطنية
جيوستراتيجيا: وماذا عن الجبهة الوطنية؟

جان لوي إزامبير: الأمر مشابهٌ إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى الجبهة الوطنية التي تشجب القوى المالية، لكنّ برنامجها السياسي لا يوصي بأي إجراءٍ اقتصاديٍّ جذري يضع حدّاً لسيطرة تلك القوى ويكره سادة الاقتصاد على إعادة ما غنموه بطريقةٍ غير شرعية.

على عكس ما تروّج له حملات ذلك الحزب، المهاجرون ليسوا مسؤولين عن البطالة. أنا أتحدّث بطبيعة الحال عن المهاجرين الذين يأتون للعمل في فرنسا ولديهم تأهيل، أو للتدرّب في إطار عقودٍ مع شركاتٍ أو جامعات، أو عن أولئك الموجودين منذ عدّة أجيال ولا أتحدّث عن الهجرة غير الشرعية الناجمة من تفاقم البؤس، ممّن يتخلّون عن كفاحهم الوطني لتغيير نظام الأشياء. هؤلاء الأخيرون، الذين يكونون غالباً غير متعلّمين وغير مؤهلين وأميّين وأحياناً مهرّبين ينبغي إعادتهم من الحدود من دون أيّ تأجيل، لا وضعهم في معسكرات احتجازٍ على حساب دافعي الضرائب. حاولوا كفرنسيين أن تذهبوا على نحوٍ غير شرعي، «من دون أوراق»، إلى بلدٍ إفريقي أو حتى إلى ألبانيا لتحكموا على الاستقبال الذي سوف تتلقّونه... ما يكلّف فرنسا غالياً هم كبار أرباب العمل الذين يجتذبون ويستخدمون تلك اليد العاملة الرخيصة وغير المتعلّمة لتحطيم النسيج الاجتماعي والتقدّم الديمقراطي، اللذين هما عائقان أمام إثرائهم. وحين لا يكفيهم ذلك، ينقلون الشركات، مثل مجموعة ميشلان، كي ينجم من ذلك بطالةٌ في فرنسا وينتجوا بكلفةٍ أقلّ وفي كثيرٍ من الأحيان بنوعيةٍ أدنى في بلدانٍ تقوم اليد العاملة فيها بكلّ الأعمال وبأجورٍ بخسة. للتذكير: حالياً، تقوم الشركات متعددة القومية باستغلال 350 مليون طفل عبر العالم! وللتذكير أيضاً، لأن أحداً لا يتحدث عن ذلك، تلقّى كبار أرباب العمل الفرنسيون نحو 65 مليار يورو من الدولة على شكل مساعدات، إضافةً إلى استفادتهم من إعفاءاتٍ ضريبيةٍ بلغت قيمتها 8.5 مليار يورو، و25 مليار يورو كباقةٍ من القروض المحسّنة وخفض كلفة العمل، إلخ. في الوقت نفسه، لم تكن الدولة تحتسب سوى 6 مليارات من اليورو للمسكن و5 مليارات لعدالةٍ هي أصلاً من بين آخر بلدان أوروبا في ميزانيتها!... ما يكلّف فرنسا كثيراً، كبار أرباب العمل والبطالة التي يصطنعونها وتنظيمهم الفاسد، مجلس أرباب العمل في فرنسا (ميديف). لا تعترف الجبهة الوطنية بصراع الطبقات، وهو شرطٌ أساسيٌ للنضال من أجل انعتاق الإنسان، ولذلك فهي لن تستطيع أن تمضي حتى النهاية في المعركة التي تزعم أنّها تشنها، لكن ذلك لا يعني أنه لن يكون لها دورٌ لتلعبه. لكن كي تزعم أنّها «جبهة» و«وطنية»، لاشكّ في أنّها ستضطر إلى أن تستدلّ بالمستقبل أكثر من استدلالها بالماضي في خطابها ومقترحاتها وأنّ مناضليها سيرغمون على عدم التردّد في أن يصطفّوا إلى جانب العمّال المكافحين دفاعاً عن مستقبلهم بدلاً من انتهاج خطابٍ معادٍ للنقابات، مضى عليه الزمن. حين ستقرّر الجبهة الوطنية استهداف أصحاب المليارات الذين ينهبون فرنسا بدلاً من استهداف المهاجرين الذين يساهمون في إثرائها بعملهم، حين سيقترح هذا الحزب النضال من أجل تأميم النظم المالية الكبرى وإعادة ممتلكات الأمّة لها وتطوير الديمقراطية المباشرة وينادي بهذا النضال، حينذاك سيبدأ في نيل المصداقية بوصفه «جبهةً وطنية». في تلك الحال، سوف يندرج هذا المنطق في خطّ مقترحاته من أجل «أوروبا للشعوب»، بالتناقض مع «أوروبا المصارف». لكنّه حالياً يبقى منغلقاً في خطابٍ معادٍ للشيوعية والنقابات والوظائف ويتعلّق بأسمال النظام مثلما تفعل الكنيسة الكاثوليكية ـ أنا أتحدّث بطبيعة الحال عن المؤسسة لا عن الإيمان، حتى إن كنت ملحداً ـ ويتعارض بالتالي مع كلّ تجمّعٍ وطنيٍ حول مقترحات القطيعة. تخيّلوا القوّة التي كان سيمثلها تجمّع وتحشيد المنظمات ـ الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات، إلخ. ـ وهي تعمل بالتنسيق فيما بينها على أهدافٍ مشتركة للقطيعة، بحيث يحتفظ كلٌ منها بهويته بطبيعة الحال. إن جبهةً وطنيةً مفتوحةً، ديمقراطية، على المقترحات الخلاّقة، تتشابك مع المجتمع المناضل، يمكن أن تلعب دور المجمّع هذا. بعد ذلك، يتولّى كلّ طرفٍ مسؤولياته في مرافقة تلك الجبهة أو عدم مرافقتها بصدد الأهداف المعنية، لكنّ الوضوح سيكون تامّاً في المجتمع بصدد من يدافع حقّاً عن مصلحة الفرنسيين العامة. لماذا لا تدعم الجبهة الوطنية العمّال الذين يحتجزون من يقومون بتسريح العاملين في شركاتٍ وافرة الصحة للمطالبة بحقوقٍ جديدةٍ في الشركات؟ من الواضح أنّ مقترحات التغيير مفقودةٌ وتقتصر على الفترات الانتخابية عوضاً عن الحياة اليومية لدى الفرنسيين. بطبيعة الحال، لا يمكن تبرير رفض الطبقة السياسية للجبهة الوطنية. لكنّ الجبهة تتحمّل مسؤولية هذا الوضع من جانبٍ بسبب عدم تحديدها للمسؤولين الحقيقيّين عن الأزمة ومن جانبٍ آخر عبر بقائها منغلقةً في قيدٍ يميني وشعبوي يمنعها جزئياً من الزعم بأنّها تصبح وطنيةً وشعبية. قادةٌ هم غالباً قادمون من الأحزاب البرجوازية أو ذات «الفكر الانغلاقي» يتماهون بأقوالهم وصورتهم مع قوى الماضي أكثر ممّا يتماهون مع قوّةٍ تحمل المستقبل وتدعو لتغيرٍ جذري. لكن حتى مع عدم وجود أيّ أفقٍ للتغيير الحقيقي حالياً، البرجوازية الكبيرة منشغلةٌ جدّاً بتقلّص قاعدتها الشعبية. وتشهد على ذلك وقائع عدّةٌ كمحاولاتها المتكرّرة لدعوة الشعوب للتصويت عدّة مرات أو إحلال التصويت على البرلمان محلّ تصويتٍ شعبي حول مسائل تلزِم الأمة بمجملها حين لا يناسبها التصويت، ومحاولة اصطناع تقسيماتٍ إدارية وفق الطلب، إلخ. نحن لم نعد نعيش ضمن ديمقراطية.