جيواستراتيجية من أجل أوراسيا
يهدف نشر هذه المقالة إلى تعريف القارىء على أجواء النقاشات الدائرة في واشنطن حول هيمنتها العالمية في نهاية القرن العشرين حول القضايا الجيوسياسية الرئيسية، على أنّ العقلية التي تحكم هذه المقالة مازالت حاضرة بشكل جدي في المنظومة الأمريكية رغم تبخر مقوماتها الموضوعية. الرسائل الأساسية للمقالة هي ضرورة منع قيام أي تحالف في أوراسيا خارج العباءة الأمريكية، والعمل على توسيع الناتو والاتحاد الأوروبي شرقا، وضرورة تقسيم روسيا (تحت عنوان الفدرلة الهشة) وإرساء تفاهم استراتيجي أمريكي ـ صيني. يتلو هذه المقالة نشر ثلاثية تستعرض أولها الطروحات الراهنة للكاتب حول نهاية الهيمنة الأمريكية بما يسمح للقارىء بتكوين نظرة حول التحول المتسارع بميزان القوى الدولي، على أن يعالج الجزء الثاني بعض جوانب أزمة الحلف الأميركي الأوروبي، وتختم بتناول تسارع تعمّق العلاقات الصينية الروسية وأثارها على الهيمنة الغربية.
ترجمة: غيث الخوري ـ سلام الشريف ـ علاء أبو فرّاج
أوراسيا المحورية
عندما ظهرت أول القضايا المتعلقة بالشؤون الخارجية، قبل خمس وسبعين عاما، كانت الولايات المتحدة قوة معزولة ذاتياً في النصف الغربي من الكرة الأرضية وتتدخل بشكل متقطع في شؤون أوروبا وآسيا. مع بداية الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تلتها اضطرت الولايات المتحدة إلى تطوير التزام متواصل اتجاه أوروبا الغربية والشرق الأقصى. بعد صعود الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى منفردة، أصبح وضع خطة متكاملة وشاملة لمنطقة أوراسيا أمر حتمي وضروري.
أوراسيا هي موطن الدول الأكثر ثقة وقوة ودينامكية سياسية في العالم. كل الساعون والمطالبون بموقع القوة العالمية عبر التاريخ خرجوا من أوراسيا، إضافة إلى أن أوراسيا تضم أكبر دولتين من حيث التعداد السكاني، الصين والهند، الطامحتين إلى الهيمنة الإقليمية، كما أنها تضم كل القوى ذات الكمون الاقتصادي والسياسي المنافس للأسبقية الأميركية. الاقتصادات الستة الأكبر والأكثر انفاقا عسكرياً، خلف الولايات المتحدة، تتواجد هناك، كما تتواجد كل القوى النووية المعلنة ماعدا واحدة وكل القوى النووية الغير معلنة ماعدا واحدة أيضا.
تشكل أوراسيا 75% من سكان العالم، و60% من من الناتج الإجمالي القومي العالمي، و75% من مصادر الطاقة العالمية، وعليه فإن القوة الكامنة لأوراسيا مجتمعة تطغى على قوة أميركا نفسها.
أوراسيا هي القارة العملاقة المحورية في العالم، والقوة التي ستسيطر عليها سيكون لها تأثير حاسم على اثنين من المناطق الثلاث الأكثر إنتاجية في العالم من الناحية الإقتصادية وهما أوروبا الغربية وشرق أسيا. بلمحة سريعة على الخريطة يتبين أن البلد المهيمن في آوراسيا سوف يسيطر بشكل أوتوماتيكي تقريبا على الشرق الأوسط وإفريقيا. وباعتبار آوراسيا رقعة الشطرنج الجيوسياسية الحاسمة، فإنه لم يعد كافياً ومناسباً صياغة سياسة لأوروبا وأخرى لآسيا. مايحدث في مسألة توزيع القوة على الكتلة القارية الأوراسية سيكون له أهمية حاسمة على أسبقية أميركا العالمية وإرثها التاريخي.
إن استراتيجية مستدامة لأوراسيا يجب أن تميز بين الأمور الأكثر إلحاحاُ وضرورة في المدى القصير للسنوات الخمس القادمة، والمدى المتوسط للسنوات العشرين القادمة، والمدى الطويل ماهو أبعد من ذلك. علاوة على ذلك فإنه يجب النظر إلى هذه المراحل كجزء من سلسلة متصلة وليس كأجزاء منفصلة.
في المدى القصير يجب على الولايات المتحدة تعزيز وإدامة التعددية الجيوسياسية السائدة على خريطة آوراسيا. إن هذه الاسترتيجية ستسمح بقسط كبير من المناورة السياسية والتلاعب الدبلوماسي، لمنع نشوء أي تحالف معادي من شأنه تحدي السيادة الأمريكية، ناهيك عن إمكانية التحكم بأية دولة تسعى لذلك بشكل منفرد. في المدى المتوسط، فإن ماسبق يجب أن يؤدي إلى ظهور شركاء متوافقين استراتيجيا،ً مدفوعين من قبل القيادة الأمريكية، مما قد يشكل نظاما أمنيا أكثر تعاونا عبر آوراسيا. في المدى الطويل، يمكن أن يتحول ماتقدم إلى القلب العالمي لمسؤولية سياسية مشتركة بشكل حقيقي.
وفي الجزء الغربي من آوراسيا، ستواصل فرنسا وألمانيا دورهما كلاعبين أساسيين، والهدف المركزي بالنسبة لأمريكا يجب أن يكون مواصلة توسيع نطاق رأس الحربة الديمقراطي الأوروبي. وفي الشرق الأقصى، فمن المرجح أن يكون دور الصين محورياً بشكل متصاعد، ولن تتمكن الولايات المتحدة من وضع استراتيجية لآوراسيا مالم يتم رعاية توافق سياسي صيني أمريكي. وفي المركز الأوراسي، فإن المنطقة الواقعة بين أوروبا الموَسّعة والصين الصاعدة إقليمياً، سوف تبقى ثقباً سياسياً أسوداً حتى تعيد روسيا تعريف نفسها بشكل قاطع كدولة مابعد امبراطورية (post imperial). وفي الوقت نفسه وفي الجنوب من روسيا، فإن آسيا الوسطى مهددة بأن تصبح مرجلاً للصراعات الإثنية والتنافس بين القوى العظمى.
قوة لابديل عنها
من غير المرجح منازعة مكانة أمريكا كالقوة الأولى والأهم في العالم من قبل أي منافس منفرد لأكثر من جيل قادم. فلا يوجد أي دولة يمكنها أن تبلغ مبلغ الولايات المتحدة في الأبعاد المفتاحية الأربعة للقوة (العسكرية، الاقتصادية، التكنولوجية والثقافية) التي تمنح نفوذ سياسي كلي. في حال عدم قيام أميركا بمسؤوليتها كمايجب، فإن البديل الحقيقي الوحيد للزعامة الأمريكية هو الفوضى العالمية. لقد كان الرئيس كلينتون على حق عندما قال أن أمريكا قد أصبحت "الأمة التي لاغنى عنها" بالنسبة للعالم.
الإشراف الأمريكي على العالم سيكون موضع اختبار عبر توترات واضطرابات وصراعات دورية. ففي أوروبا هناك مؤشرات على تراجع زخم التكامل والتوسع وبأن التوجه القومي قد يعود ويستيقظ. أما تواصل البطالة الواسعة حتى في أكثر الدول الأوروبية نجاحاً، قد يغذي ردات الفعل المعادية للأجانب مما قد يدفع بالسياسة الألمانية والفرنسية نحو التطرف. التطلعات الأوروبية للوحدة سوف تتحقق فقط إذا تم تشجيعها، وحثها بين الفينة والأخرى، من قبل الولايات المتحدة.
إن مستقبل روسيا أقل وضوحاً، وآفاق تطوره الإيجابي أكثر ضآلة. لذلك يجب على أمريكا بلورة سياق سياسي ملائم لاستيعاب روسيا ضمن إطار تعاون أوروبي أوسع وفي الوقت ذاته يعزز استقلالية جيرانها حديثي السيادة. حتى ذلك الحين، فإن قابلية أوكرانيا أو أوزبكستان على الاستمرارية سوف تبقى غير مؤكدة، وخصوصا إذا فشلت أمريكا في دعم جهودهما القومية.
كما أن فرص مساومة كبرى مع الصين يمكن أن تكون مهددة بسبب أزمة حول تايوان والديناميات السياسية الداخلية للصين أو ببساطة تدهور العلاقات الصينية الأمريكية. إن إي عداء بين أمريكا والصين يمكن أن يوتر العلاقات بين الولايات المتحدة واليابان، وربما يتسبب في اضطراب في اليابان نفسها. وبذلك فإن الاستقرار في آسيا سيكون معرضاً للخطر، ويمكن لهذه الاحداث أن تؤثر على موقع وتلاحم بلد كالهند، الذي يعتبر مفصليا لتحقيق الاستقرار في جنوب آسيا.
المهمة العاجلة، في آوراسيا المتقلبة، هي التأكد من عدم تمكن أي دولة أو مجموعة من الدول، من اكتساب القدرة على إبعاد الولايات المتحدة أو حتى إضعاف دورها الحاسم. ومع ذلك فإنه لاينبغي النظر إلى تعزيز استقرار التوازن العبر للقارة كغاية بحد ذاته، وإنما كوسيلة نحو تشكيل شراكات استراتيجية متأصلة في المناطق الرئيسية من آوراسيا. إن هيمنة أميركية غير مؤذية يجب أن تثبط الآخرين من تشكيل خطر عليها، ليس فقط من خلال رفع تكاليف ذلك، بل أيضا عبر احترام المصالح المشروعة لذوي الطموح الاقليمي في أوراسيا.
بصورة أكثر تحديداً فإن الهدف على المدى المتوسط يتطلب تعزيز شراكات حقيقة مع أوروبا أكثر اتحاداً وتحديداً(تعريفاً) من الناحية السياسية، ومع الصين المتفوقة إقليمياً، ومع روسيا مابعد امبراطورية وذات توجه أوروبي ومع الهند الديمقراطية. لكن، النجاح أوالفشل في صياغة علاقات استرتيجية على نطاق واسع مع أوروبا والصين هو الذي سيصيغ الدور المستقبلي لروسيا ويحدد معادلة القوة المركزية في آوراسيا.
رأس الحربة الديمقراطي
بالنسبة لأمريكا فإن أوروبا هي رأس الحربة الأساسي في أوراسيا. مصلحة أميركا في أوروبا الديمقراطية هائلة، فبخلاف روابط أمريكا مع اليابان يرسخ الناتو النفوذ السياسي والقوة العسكرية الأمريكية على المنطقة الأوراسية. ومع استمرار الدول الأوروبية الحليفة باعتمادها الكبير على حماية الولايات المتحدة فإن أي توسيع للنطاق السياسي الأوروبي يعد توسيع للنفوذ الأمريكي بشكل تلقائي. وعلى العكس فإن قدرة الولايات المتحدة على وضع تأثيرها ونفوذها في أورسيا، يعتمد بشكل أساسي على إقامة روابط متينة عبر المحيط الأطلسي.
إن أوروبا أكبر وحلف شمال أطلسي موسع، سوف يخدم المصالح قصيرة الأجل وطويلة الأجل لسياسة الولايات المتحدة. فأوروبا أكبر ستوسع نطاق النفوذ الأميركي، دون أن تؤدي في نفس الوقت لنشوء كيان أوروبي مندمج سياسيا للدرجة التي تجعل منه قادر على منافسة الولايات المتحدة في قضايا ذات أهمية جيوسياسية بشكل خاص في الشرق الأوسط. كما أن أوروبا معرفة الحدود (محددة) هي أمر أساسي لامتصاص روسيا في نظام تعاون عالمي.
لايمكن لأمريكا لوحدها أن تجعل من أوروبا أكثر توحداً ، فهذه مهمة الأوروبيين وخصوصاً الفرنسيين والألمان، ولكن في الوقت نفسه يمكن لأمريكا أن تعيق قيام الوحدة في أوروبا وسيكون لهذا نتائج كارثية عل الاستقرار في أوراسيا وعلى المصاح الأمريكية، ومالم تصبح أوروبا موحدة أكثر فمن المرجح أنها ستكون عرضة للتفكك مجدداً. على واشنطن أن تعمل على نحو وثيق مع الفرنسيين والألمان في بناء أوروبا قابلة للحياة سياسياً، بحيث تبقى مرتبطة بالولايات المتحدة، وتوسع نطاق النظام الديمقراطي الدولي. إن الاختيار بين فرنسا وألمانيا ليس هو المشكلة، فمن دون كلا الدولتين لن يكون هناك أوروبا، ومن دون أوروبا لن يكون هناك أبدا نظام تعاوني عبر أوراسيا.
عملياً، فإن كل ذلك يتطلب في نهاية المطاف قبول أمريكا إشراك الأخرين في قيادة حلف شمال الأطلسي، وتفهم التخوفات الفرنسية بخصوص الدور الأوروبي في إفريقيا والشرق الأوسط، والدعم المستمر لتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقا حتى عندما يصبح هذا الاتحاد أكثر قوة وحزما سياسياً واقتصادياً. كما أن اتفاقية للتجارة الحرة عابرة للمحيط الأطلسي (ملاحظة من المترجم: أي بين أوروبا وأميركا)، التي دافع عنها عدد من القادة الغربيين، يمكن أن تخفف مخاطر المنافسة الاقتصادية المتنامية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إن النجاح التدريجي للإتحاد الأوروبي في دفن العداوات البينية الأوروبية القائمة منذ قرون، سيقابله تناقص تدريجي في دور أميركا كوسيط ومحكم في أوروبا.
كما أنّ توسعة حلف الشمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي سينشطان السعي الأوروبي المتضائل للعب دور أكبر، بنفس الوقت الذي يوطد، لصالح كل من أميركا وأوروبا، الفوائد الديمقراطية التي تم تحقيقها عبر النهاية الناجحة للحرب الباردة. الأمر الذي لا يقل أهمية هنا هو العلاقة الأوروبية الأميركية طويلة المدى، فأوروبا جديدة مازالت قيد التشكل، واذا ماكان لهذه الأوروبا أن تبقى جزأً من الفضاء "الأوروـ أطلنطي"، فإن توسعة حلف الشمال الأطلسي أمر جوهري.
وبناء على ذلك، فإن توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي يجب أن يمضي قدماً في مراحل مدروسة. إليكم جدول زمني تخميني ولكنه واقعي لهذه المراحل ،على افترض الالتزام الجدي لأميركا وأوروبا الغربية: بحلول العام 1999 سيكون قد تم قبول أول ثلاثة دول في أوروبا الوسطى كأعضاء في حلف شمال الأطلسي، رغم أن إدراجهم ضمن الاتحاد الأوروبي ربما لن يتم قبل عام 2002/2003. وبحول العام 2003 من المرجح أن يكون الاتحاد الأوروبي قد شرع بمحادثات الانضمام مع دول البلطيق الثلاثة، ومن المرجح أن يحقق الناتو تقدما في مسألة عضويتهم بالإضافة إلى رومانيا وبلغاريا، ومن المرجح أن يكتمل هذا الانضمام قبل العام 2005. وبين عامي 2005 و 2010 فإن أوكرانيا يجب أن تكون جاهزة لإجراء مفاوضات أولية مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، على افتراض أنها قد أجرت إصلاحات داخلية هامة وجرى تحديدها كبلد من أوروبا الوسطى.
إن الفشل في توسيع حلف شمال الأطلسي من شأنه أن يحطم مفهوم توسيع أوروبا ويضعف معنويات أوروبا الوسطى وأسوأ من ذلك فإنه يمكن أن يوقظ التطلعات الروسية النائمة في وسط أوروبا. علاوة على ذلك فإنه من غير الواضح فيما إذا كانت النخبة السياسية الروسية تشاطر الأوروبيين رغبتهم بتواجد قوي لأميركا سياسياً وعسكرياً في أوروبا. وفي حين أن تعزيز علاقات تعاون مع روسيا هو أمر مرغوب فيه، فإنه من المهم بالنسبة لأميركا أن ترسل رسالة واضحة حول أولوياتها العالمية، وإذا كان لابد من الاختيار بين نظام أوروبي ـ أطلسي موسع وعلاقات أفضل مع روسيا، فإن الأولوية يجب أن تكون للخيار الأول.
مهمة روسيا التاريخية:
إن الروابط االجديدة لروسية مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، والتي أخذت شكلها الرسمي من خلال المجلس المشترك للناتو وروسيا, يمكن أن تشجع روسيا على اتخاذ قرارها الذي طال تأجيله لصالح أوروبا بـعد انتهاء وضعها كقوة عظمى. عضوية رسمية في مجموعة السبعة (G-7) وتحسين آليات اتخاذ القرار السياسي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (المشتملة على امكانية انشاء لجنة امنية خاصة مؤلفة من أمريكا وروسيا وعدة دول مفتاحية في اوروبا) يمكن أن يشجع روسيا للالتزام البنّاء في السياسة الأوروبية والتعاون العسكري. هذه الخطوات مترافقة مع الاستثمارات في البنية التحتية والدعم المالي الغربي الجاري حالياً، خصوصاً في شبكات الاتصال، خطوات كهذه يمكن ان تقرّب روسيا إلى أوروبا بشكل كبير.
لكن دور روسيا طويل المدى في آوراسيا سوف يعتمد بشكل كبير على تعريفها لنفسها. فعلى الرغم من تزايد النفوذ الإقليمي لأوروبا والصين، تبقى روسيا مسؤولة عن أكبر مساحة من العقارات في العالم تمتد عبر عشر مناطق زمنية، محجمة ً الولايات المتحدة والصين أو أوروبا الموسعة. إن الحرمان من الأراضي ليس هو مشكلة روسيا الرئيسية، بل على روسيا أن تواجه حقيقة أن الصين وأوروبا أكثر قوة اقتصادياً، وأنها تقع خلف الصين في الطريق إلى التحديث الاجتماعي.
في ظل هذه الظروف، يجب أن تكون الأولوية بالنسبة لروسيا تطوير وتحديث نفسها بدلا من الانخراط في جهد عقيم لاستعادة مكانتها كقوة عظمى. ونظرا لحجم البلاد وتنوعها، فإن إقامة نظام سياسي لامركزي واقتصاد للسوق الحرة سيكون له على الأغلب الفضل في إطلاق الكمون الإبداعي للشعب الروسي وللموارد الطبيعية الهائلة في روسيا. كما أن كونفدرالية روسية ضعيفة التماسك (مخلخلة) مؤلفة من روسيا الأوروبية وجمهورية سيبيريا وجمهورية الشرق الأقصى سيكون من الأسهل لها إقامة علاقات اقتصادية وثيقة مع جيرانها. كل من هذه الكيانات الكونفدرالية ستكون قادرة على التحكم بكمونها المحلي الخلّاق، والتي جرى خنقها لمدة قرون باليد البيروقرطية الثقيلة لموسكو. بالتالي فإن روسيا لامركزية ستكون أقل أهلية للتحول إلى قوة عظمى.
من المرجح أكثر أن تقوم روسيا بالقطيعة مع ماضيها الامبراطوري في حال كانت الدول السوفيتية سابقاً والمستقلة حديثا حيوية ومستقرة، حيث أن حيويتها سوف تعدّل الوساويس الإمبراطورية الروسية المتبقية. كما أن الدعم السياسي والاقتصادي للدول المستقلة حديثا يجب أن يكون جزءا لايتجزء من استراتيجية أشمل لدمج روسيا ضمن نظام تعاوني عابر للقارات. أنّ سيادة أوكرانيا تشكّل عنصراً بالغ الحساسية في مثل هذه السياسة، الأمر الذي ينطبق على دعم دول محورية استراتيجياً مثل أذربيجان وأوزبكستان.
استثمارات دولية واسعة النطاق في منطقة وسط آسيا متزايدة الانفتاح ليس من شأنه أن يعزز استقلال الدول الحديثة وحسب، ولكنه سيعود أيضا بالنفع على روسيا الديمقراطية مابعد الإمبراطوية. إن استغلال موارد المنطقة سيزيد من الرخاء ويدفع نحو شعور أكبر بالاستقرار ويحد من مخاطر اندلاع صراعات على شاكلة تلك التي اندلعت في البلقان. كما أن تنمية الإقليم يمكن أن تشّع على الأقاليم الروسية المجاورة التي تميل إلى أن تكون متدنية التنمية الاقتصادية . بشكل تدريجي سيصبح القادة الجدد في المنطقة أقل خوفا من العواقب السياسية الناتجة عن علاقات اقتصادية وطيدة مع روسيا. بعد ذلك يمكن قبول روسيا الغير امبرطورية كشريك اقتصادي رئيسي في المنطقة، بيد أنها لن تكون القوة العظمى التي تحكمها.
الجنوب الأوراسي المتقلب
لتعزيز الاستقرار في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، يجب على أميركا أن تكون حذرة بحيث لا تبعد تركيا وأن تستكشف في الوقت نفسه فيما إذا كان التحسن في العلاقات الأمريكية الأيرانية أمراً ممكناً. إذا شعرت تركيا بأنها منبوذة أوروبياً فستصبح إسلامية أكثر، وستقل احتمالات تعاونها مع الغرب لدمج آسيا الوسطى في المجتمع الدولي. يجب على أميركا أن تستخدم نفوذها في أوروبا لتشجيع انضمام تركيا النهائي للاتحاد الأوروبي، وأن تثبت ذلك عبر التعامل مع تركيا كدولة أوروبية، شريطة أن لا تأخذ السياسات التركية الداخلية منعطفاً إسلامياً دراماتيكياً. كما أن مشاورات دورية مع تركيا حول مستقبل حوض بحر القزوين وآسيا الوسطى، سيعزز الشعور التركي بالشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ويتعين على أميركا أن تدعم التطلعات التركية لامتلاك خط أنابيب من باكو أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي على سواحل البحر الأبيض المتوسط، بحيث يكون بمثابة منفذ رئيسي لاحتياطات الطاقة إلى حوض بحر قزوين.
إضافة إلى ذلك، فإنه ليس في مصلحة أميركا إدامة العداء مع إيران، وأي صلح يجب أن يستند في نهاية المطاف إلى اعتراف البلدين بالمصلحة الاستراتيجية المتبادلة في استقرار محيط إيران الإقليمي المضطرب. إنّ إيران قوية، حتى وإن كانت على أسس دينية ولكن غير مهووسة بمعاداة الغرب، لا تزال تُعد مصلحةأميركية. إن المصالح بعيدة المدى للولايات المتحدة يمكن أن تتحقق بشكل أفضل عبر التخلي عن الاعتراضات الأمريكية القائمة على التعاون الاقتصادي الوثيق الأيراني- التركي، وخاصة في بناء خطوط الأنابيب الجديدة في أذربيجان وتركمانستان. في الواقع فإن المشاركة المالية الأمريكية في مثل هذا المشروع ستصب في مصلحة أميركا.
على الرغم من كونها لاعب غير فاعل في الوقت الحالي، فإن الهند تمتلك دوراً هاما في المشهد الآوراسي. من دون الدعم السياسي التي كانت تتلقاه من الاتحاد السوفيتي، فإن الهند محدودة من الناحية الجيوسياسية من قبل التعاون الصيني الباكستاني. إن بقاء الديمقراطية الهندية هو أمر مهم بحد ذاته، لأنه يدحض بشكل أفضل من مجلدات في النقاش الأكاديمي فكرة أن حقوق الإنسان والديمقراطية محصورة بالغرب وحده. كما تثبت الهند أن «القيم الأسيوية» المعادية للديمقراطية التي يروج لها متحدثون من سنغافورة إلى الصين، هي التي تعد معادية للديمقراطية وليست بالضرورة أسيوية. إن فشل الهند سيشكل ضربة للآفق الديمقراطي في آسيا وسيزيل القوة التي تساهم في التوازن الآسيوي، لاسيما في ضوء صعود الصين. يجب على الهند أن تشارك في المناقشات المتعلقة بالاستقرار الإقليمي، ناهيك عن تعزيز وتشجيع الاتصالات الثناية بين المجمعات الدفاعية الأمريكية والهندية.
الصين باعتبارها المرساة الشرقية:
لن يكون هناك توازن مستقر للقوة في آوراسيا دون تفاهم استراتيجي عميق بين أميركا والصين وتعريف أوضح للدور الصاعد لليابان. هذا ما يطرح أمام أميركا معضلتين: تحديد تعريف عملي للنطاق المقبول به للصعود الصيني كقوة إقليمية مهيمنة، وإدارة القلق الياباني ازاء مكانتها كمحمية أميركية. يجب تجنب المخاوف المفرطة من القوة المتزايدة للصين والصعود الاقتصادي لليابان، وضخ الواقعية في السياسة التي يجب أن تكون مستندة إلى حسابات استراتيجية متأنية تستهدف تجيير القوة الصينية لتصب في مصلحة تسوية إقليمية بنّاءة وتوجيه طاقة اليابان في شراكة دولية أوسع.
جذب الصين إلى حوار استراتيجي جدي هو الخطوة الأولى لتحفيز اهتمامها في تسوية مع أميركا والتي تعكس الشؤون المشتركة البلدين في شمال شرق آسيا وآسيا الوسطى. حريٌّ بواشنطن أيضاً إزالة أية شكوك بشأن التزامها نحو سياسة الصين الواحدة خشية أن تتفاقم قضية تايوان وخصوصاً بعد ابتلاع الصين لهونغ كونغ . بالمثل، فإنه في مصلحة الصين أن تثبت أنه حتى الصين العظمى قادرة على حماية التنوع ضمن ترتيباتها السياسية الداخلية.
لإحراز التقدم فإن الحوار الاسترتيجي الصيني الأمريكي يجب أن يكون مستمرا وجديا. إن هكذا تواصل يسمح بمعالجة مقنعة حتى للقضايا الخلافية مثل تايوان وحقوق الإنسان. يجب ان يتم اخبار الصينين بأن اللبرلة الداخلية ليست شأن داخلي بحت، بما أنه فقط صينٌ ديموقراطية ومزدهرة قد تحظى بفرصة جذب تايوان سلمياً. إن إي محاولة لإعادة التوحيد بشكل قسري ستهدد العلاقات الصينية الأمريكية وتعوق قدرة الصين على جذب الاستثمارات الأجنبية. كما أن تطلعات الصين للتفوق الإقليمي والمكانة العالمية ستصبح عرضة للخطر.
على الرغم من أن الصين تبرز كقوة مهيمنة إقليمياً، فإنه من غير المرجح أن تصبح قوة عالمية لفترة طويلة. فالمفهوم التقليدي السائد بأن الصين ستكون القوة العالمية القادمة يبث الذعر خارج الصين، فيما يعزز جنون العظمة داخلها. كما أنه من غير المؤكد أن معدلات النمو الهائلة في الصين يمكن الحفاظ عليها للعقدين القادمين. وفي الواقع إن موصلة النمو بالمعدلات الحالية على المدى الطويل يتطلب مزيجا موفقا بشكل غير اعتيادي من القيادة الوطنية، والطمأنينة السياسية، والانضباط الاجتماعي، وتحقيق مدخرات عالية، وتدفقات ضخمة من الاستثمار الأجنبي، والاستقرار الإقليمي. إن استمرار مزيج مكون من كل هذه العوامل لفترات طويلة أمر غير مرجح.
وعلى فرض أن الصين استطاعت تجنب الاضطرابات السياسية الخطيرة وتمكنت من إدامة النمو الاقتصادي لمدة ربع قرن، وهما افتراضان متفائلان، فإنها لاتزال دولة فقيرة نسبيا. وبمضاعفة الإنتاج الإجمالي القومي لثلاث مرات سوف تكون الصين أقل من معظم الدول في نصيب الفرد من الدخل، وسيكون جزء كبير من سكانها مايزالون فقراء. كما أن تصنيفها من حيث انتشار الهواتف والسيارات وأجهزة الكمبيوتر، ناهيك عن السلع الاستهلاكية، سيكون منخفضا جداً.
خلال عقدين من الزمن قد تكون الصين مؤهلة كقوة عسكرية عالمية، اذ أنّ اقتصادها ونموها ينبغي أن يمكنا حكامها من تحويل جزء كبير من الناتج الإجمالي المحلي لتطوير وتحديث القوات المسلحة، إضافة إلى مراكمة المزيد من ترسانتها النووية الاستراتيجية. ومع ذلك، إذا كان هذا الجهد زائداً يمكن أن يكون ذو أثر سلبي على النمو الاقتصادي للصين على المدى الطويل، كما كان لسباق التسلح من أثر سلبي على الاقتصاد السوفيتي. تراكم صيني واسع النطاق سيحث اليابان على رد فعل مضاد. على أي حال بغض النظر عن قواتها النووية، لن تكون الصين قادرة على إظهار قوتها العسكرية خارج إقليمها لبعض الوقت.
أن تصبح الصين العظمى قوة اقليمية مهيمنة هو موضوع آخر. إن مجال تأثيرللصين في الفضاء الإقليمي سيكون أمراً واقعاً ومن المرجح أن يكون جزء من مستقبل اوراسيا. على أنه لايجب الخلط بين مجال تأثير كهذا ومنطقة هيمنة سياسية حصرية كما كان للإتحاد السوفيتي في اوروبا الشرقية. من المرجح ان في هذه المنطقة سيكون على البلدان الأضعف ان تتعامل باحترام مع مصالح ووجهات نظر وردات الفعل المتوقعة للقوة المسيطرة اقليمياً. بالمختصر فإن فضاء تأثير الصين يمكن ان يعرف بأنه الفضاء الذي يعد سؤال"ما هي وجهة نظر بكين حول هذا الموضوع؟" السؤال الأول الذي يطرح في عواصمه المختلفة.
والمرجح أن تتلقى الصين العظمى دعما سياسيا من جاليتها الثرية في سنغافورة، بانكوك، كوالالامبور، مانيلا، وجاكرتا، ناهيك عن تايوان وهونغ كونغ. وفقاً لمجلة «آسيا ويك»، فإن مجموع الأصول الإجمالية لخمسمئة من كبريات الشركات الصينية المملوكة في جنوب شرق آسيا ما يقارب 500 مليار دولار. بلدان جنوب شرق اسيا قد وجدت انه من الحكمة أن تخضع في بعض الأحيان للحساسية السياسة الصينية ولإهتماماتها الاقتصادية. أن تصبح الصين قوة سياسية حقيقية وقوة اقتصادية من الممكن أن يظهر بشكلٍ أوضح تأثيراً في الشرق الأقصى الروسي في الوقت الذي ترعى به توحيد الكوريتين.
ليس بالضرورة أن يتعارض النفوذ الجيوسياسي للصين العظمى مع مصلحة أمريكا الاستراتيجية في استقرار وتعددية آوراسيا، فعلى سبيل المثال إن اهتمام الصين المتزايد في آسيا الوسطى سيحدّ من قدرة روسيا على تحقيق إعادة الاندماج السياسي للمنطقة تحت سيطرة موسكو. بهذا الخصوص فيما يتعلق بالخليج «الفارسي»، فإن احتياجات الصين المتنامية للطاقة تعني أن لديها مصلحة مشتركة مع أمريكا في الحفاظ على الوصول إليها وعلى الاستقرار السياسي في المناطق المنتجة للنفط. وبالمثل، فإن الدعم الصيني لباكستان يقيد طموحات الهند لإخضاع هذا البلد، في حين أنه يوازن الميل الهندي للتعاون مع روسيا فيما يتعلق بأفغانستان وآسيا الوسطى. كما أن مشاركة الصينيين واليابانيين في تطوير شرق سيبيريا يمكن أن يعزز الاستقرار الإقليمي.
خلاصة القول هي أن أمريكا والصين بحاجة لبعضهم البعض في آوراسيا. وعلى الصين العظمى النظر إلى أميركا كحليف طبيعي لأسباب تاريخية وسياسية في نفس الوقت، فعلى عكس اليابان أو روسيا، لم يكن للولايات المتحدة أبدا أية مخططات إقليمية في الصين، مقارنة مع بريطانيا العظمى، فإن أمريكا لم تقم أبدا بإذلال أو إهانة الصين. وعلاوة على ذلك، فإنه من دون علاقة استراتيجية قابلة للحياة مع أمريكا، من غير المرجح أن تستطيع الصين بالاستمرار في جذب الاستثمارات الأجنبية اللازمة لتفوقها الإقليمي.
كذلك الأمر بالنسبة للأمريكيين بدون اقامة علاقة استراتيجية امريكية صينية تكون بمثابة المرساة الشرقية لانخراط امريكا في اوراسيا ستفتقد أميركا لجيواستراتيجيا في الجزء الأساسي من اسيا، مما سيحرم أمريكا جيواستراتيجيا في اوراسيا أيضا. بالنسبة لأمريكا، قوة الصين الإقليمية موظفة في إطار أوسع ضمن التعاون الدولي يمكن أن تصبح رصيد استراتيجي مهم مساوٍ لأوروبا وأكثر ثقلاً من اليابان ضامناً لإستقرار اوراسيا. للاعتراف بهذه الحقيقة، يمكن ان تدعى الصين للقمة السنوية لمجموعة السبعة الكبار (G-7) وخصوصاً بعدما توسعت الدعوة لتشمل روسيا.
إعادة ضبط الدور الياباني
بما أن رأس الحربة الديموقراطي في الجزء الرئيسي من أوراسيا الشرقية لن يكون ظاهراً في وقتٍ قريب، كل ما يهم هو جهد الولايات المتحدة الأمريكية لتنشأة علاقة استراتيجية مع الصين تقوم على أساس اعترافهم بأن يابان الديمقراطية والناجحة اقتصادياً هي شريك أمريكا العالمي ولكن ليس حليف خارجي لهم في آسيا ضد الصين. فقط على هكذا قاعدة يمكن بناء توافق ثلاثي يحوي في طياته قوة أمريكا الدولية وتفوق الصين إقليمياً وقيادة اليابان الدولية. إن أي توسيع ملحوظ في التعاون الأمريكي الياباني سيكون تهديداً لهكذا توافق، لا يجب أن تكون اليابان بمثابة حاملة طائرات امريكية في الشرق الأقصى غير قابلة للغرق أو أن تكون شريك أمريكا العسكري الأساسي في اسيا. الجهود الرامية إلى تطوير الأدوار اليابانية هذه ستنهي دور الأمريكي في الجزء الرئيسي من أسيا وتبطل أمكانية التوصل إلى توافق استراتيجي مع الصين ويحبط قدرة أمريكا في تعزيز الاستقرار في أوراسيا.
ليس لليابان دور سياسي رائد تلعبه في آسيا نظراً لكونها لا تزال تحصد كرهاً إقليميأ بسبب تصرفاتها قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. لم تسع اليابان لذلك النوع من المصالحة مع الصين وكوريا كذاك الذي سعت إليه ألمانيا مع فرنسا وتسعى له مع بولندا. مثل حالة انعزال بريطانيا بالنسبة لأوروبا,فإن اليابان مفصولة سياسياً عن الجزء الرئيسي من آسيا، ومع ذلك بإمكان اليابان أن تحظى بدور عالمي مؤثر من خلال تعاون وثيق مع الولايات المتحدة في أجندتها الجديدة بالاهتمام العالمي المرتبط بالتنمية وحفظ السلام مع تجنب أي جهود، تؤدي لنتائج عكسية، لتصبح قوة إقليمية اسيوية. يجب على الحنكة الأمريكية ان تقود اليابان في هذا الاتجاه.
في الوقت الحالي يمكن لمصالحة حقيقية يابانية-كورية أن تسهم بشكلٍ كبير في تهيئة وضع مستقر لتوحيد نهائي لكوريا, والتخفيف من المضاعفات الدولية التي قد تترتب على إنهاء التقسيم في البلد. على الولايات المتحدة الأمريكية أن تعزز هذا التعاون. هناك الكثير من الخطوات المحددة يمكن أن يتم تكييفها مع هذه الحالة تتراوح من برامج جامعية مشتركة لدمج التشكيلات العسكرية مثل الخطوات التي اتخذت لتحفيز المصالحة الألمانية الفرنسية، ولاحقاً بين ألمانيا و بولندا. دعم شامل وإقليمي للشراكة اليابانية والكورية يمكن بدوره أن يسهل تواجد مستمر أمريكي في الشرق الأقصى بعد وحدة كوريا.
لا داعي للقول ان علاقة سياسية وطيدة مع اليابان تعد من ضمن اهتمامات أمريكا العالمية. ولكن أن تكون اليابان تابع أو ند أو شريك لأمريكا أمر يعتمد على قدرة الأمريكيين واليابانيين على تحديد أهدافهم الدولية المشتركة و فصل المهام الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الاقصى عن تطلعات اليابان لدور عالمي. بالنسبة لليابان ـ وعلى الرغم من النقاشات المحلية حول السياسة الخارجية ـ تبقى العلاقة مع أمريكا هي المنارة التي تحدد سمت التوجه الدولي لليابان. إن ضلال اليابان سواء بالجنوح نحو إعادة تسليح أو توافق منفصل مع الصين، سينهي الدور الأمريكي في منطقة أسيا والمحيط الهادئ ويمنع نشوء تسوية ثلاثية مستقرة بين أمريكا واليابان والصين.
إن ضلت اليابان الطريق ستكون مثل حوت وصل الشاطئ على الرغم من تخبطه اليائس ولكنه لازال يشكل خطراً.
إذا ما أدارت وجهها إلى العالم ما بعد آسيا، يجب أن يعطى لليابان مكان مميز ومحفز بحيث يتم إشباع اهتمامها الوطني. على عكس الصين التي تستطيع أن تسعى لتكون قوة عالمية من خلال أن تصبح قوة إقليمية كخطوة أولى، اليابان تستطيع أن تكسب تأثير دولي فقط من خلال تجنبها السعي لتكون قوة إقليمية.
هذا ما يجعل من المهم بالنسبة لليابان أن تشعر بأنها شريك أمريكا الخاص في "مهنة العالمية" وهذا مرضي سياسياً بالقدر الذي يعد مفيد اقتصادياً. لهذا الغرض على الولايات المتحدة الأمريكية النظر في تبني اتفاقية تجارة حرة أمريكية يابانية خالقة بذلك فضاء اقتصادي أمريكي ياباني مشترك، خطوة كهذه تطبع الرابط الاقتصادي المتنامي بين الاقتصادين بطابعٍ رسمي يمكنها أن تؤمن تربة داعمة لوجود أمريكي مستمر في الشرق الأقصى وارتباط عالمي بناء مع اليابان.
الأمن العابر للقارات
على المدى الطويل، قد يتم تعزيز الاستقرار في أوراسيا عبر نشوء نظام أمن عابر لأوراسيا، لربما في بدايات القرن القادم. إن هكذا ترتيب أمني عابر للقارات قد يشمل حلف الناتو الموسع والمرتبط بمعاهدة تعاون أمني مع روسيا والصين و اليابان. لكن لبلوغ هذا الهدف، يتوجب أولا على الأميركان واليابانيين اطلاق حوار أمني ثلاثي يجتذب ويلزم الصين. إن محادثات أمنية ثلاثية الأطراف أميركية ـ يابانية ـ صينية قد تشتمل على أطراف أسيوية أخرى، وتؤدي لاحقا لحوار مع "المنظمة من أجل التعاون والأمن في أوروبا". الأمر الذي بدوره يعبد الطريق من أجل سلسلة مؤتمرات للدول الأوروبية و الآسيوية حول مواضيع الأمن. وهكذا فإن نظاما أمنيا عابر للقارات سيأخذ بالتشكل.
إن تعريف مضمون نظام أمني عابر لأوراسيا ومأسسة شكله من الممكن أن يصبح المسألة التنظيمية الكبرى في القرن القادم. من الممكن أن يكون مركز الاطار الأمني العابر للقارات هو عبارة عن لجنة دائمة مؤلفة من القوى الأوراسية الكبرى، أميركا، أوروبا، الصين، اليابان، روسيا مفدرلة والهند، والتي تعالج بشكل جماعي المسائل الحساسة لاستقرار أوراسيا.
إن نشوء هكذا نظام عابر للقارات سيحرر أميركا بشكل تدريجي من بعض أعبائها، بنفس الوقت الذي يديم دورها الحاسم كمحكم لأوراسيا لأكثر من جيل.إن النجاح الجيوستراتيجي في هذا المشروع سيكون التركة المناسبة للدور الأميركي كالقوة الفائقة العالمية الأولى والوحيدة.
زبيغينو بريجنسكي
مفكر استراتيجي وكادر من كواد السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية الذين لا يتغيروا رغم تغير رؤساء البلد. مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر فترة ١٩٧٧ـ١٩٨١ والحائز على جائزة الحرية من الرئيس الأميركي على تطبيع العلاقات الأميركيةـ الصينية كما أنه أنه عضو مؤسس مع دايفيد روكفلر للجنة الثلاثية الأميركيةـالأوروبيةـ اليابانية أو مايعرف بالثالوث الامبريالي. يعرف عن الكاتب انخراطه الرسمي والميداني في قضايا السياسة الخارجية . فمثلا نجد على شبكة الانترنت أثرا للقائه قادة طالبان أثر دور أميركا في دعمها والقاعدة، ولكلمته الموجهة للمتظاهرين في كييف أثر اندلاع الأزمة الأوكرانية.