جرائم الحرب الأمريكية تمتد من إفريقيا والشرق الأوسط إلى أوكرانيا إلى متى يستطيع بوتين الانتظار؟
قد يعتقد المرء أن اشمئزاز «المجتمع الدولي» من المجازر العشوائية التي ارتكبتها واشنطن بحق المدنيين في ثماني دول، كانت لتقود محكمة الجنايات الدولية إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق كل من الرؤساء: بيل كلينتون وجورج بوش وباراك أوباما، إضافة للعديد من المسؤولين في أنظمتهم، إلا أن الجانب الصوتي مما يسمى «المجتمع الدولي» - أي الغرب- اعتاد على جرائم واشنطن ضد الإنسانية، حيث أنه لا يكلف نفسه مجرد الاحتجاج عليها.
ومما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من الحكومات الغربية متواطئة مع واشنطن في جرائمها هذه، حيث من الممكن أن ينال العديد من أعضاء هذه الحكومات حصتهم من مذكرات الاعتقال التي أتينا على ذكرها سابقاً.
روسيا.. الاستثناء الوحيد
أصدرت وزارة الخارجية الروسية «كتاباً أبيض» يتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان ودور القانون في أوكرانيا، حيث يعتقد الأمريكيون المضللون إعلامياً أن روسيا هي المسؤولة عن الانتهاكات الحاصلة في أوكرانيا. هذا ويوثّق الكتاب المذكور، بعناية ودقة، الانتهاكات التي جرت في أوكرانيا في الفترة الممتدة بين شهري كانون الأول من عام 2013 وآذار من عام 2014. لن تسمع أي شيء تقريباً عن هذا الكتاب في وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، كما أنه ليس من المرجح أن يلقى تغطية كافية في أوروبا. فالحقائق الواردة فيه تتعارض كلياً مع موقف الغرب الذي يشكّل هذا الكتاب إحراجاً كبيراً له.
قتل بالوكالة!
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ازداد معدل القتل الذي يتعرض له الأوكرانيون بأوامر من واشنطن وبتنفيذ من حكومتها «الدمية» في كييف، الأمر الذي أدى إلى نزوح أكثر من 100 ألف أوكراني باتجاه الأراضي الروسية هرباً من الهجمات الجوية والمدفعية التي تستهدف منازل المدنيين في بلادهم. وفي هذا الإطار، باءت كل المحاولات التي بذلتها الحكومة الروسية لإشراك كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وكييف في مفاوضات للوصول إلى تسوية سلمية بالفشل.
واشنطن ليست مهتمة بالتسوية فهي تواصل، رغم انزعاجها من اعتماد أتباعها في حلف الناتو على الطاقة الروسية ونمو العلاقات الاقتصادية بين أوروبا وروسيا، عبر وكيلتها كييف استهداف المواطنين في الأجزاء الشرقية وجنوب الشرقية من أوكرانيا الحالية، والتي كانت في السابق جزءاً من روسيا. فقد أعلنت واشنطن أن هؤلاء المدنيين هم «إرهابيون»، كجزء من سيرورة عملها على جرّ موسكو إلى التدخل العسكري لحمايتهم، لتصف هذا التدخل - في حال حصوله - بأنه عملية إلحاق وغزو. كما أنها ستستخدم هذه البروباغاندا*، التي قد يصدح بها الإعلام الغربي، للضغط على أوروبا بهدف دعم عقوباتها على روسيا. ومن شأن هذه العقوبات أيضاً أن تدمر، وعلى نحو فعّال، العلاقات الاقتصادية الناشئة بين أوروبا وآسيا.
لم تنجح واشنطن في فرض عقوباتها، فعلى الرغم من استعداد أتباعها الأوروبيين كميركل، إلا أن المصالح التجارية لكل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا تمنع إتمام هذا الأمر. هذا وتأمل واشنطن بأنها إذا تمكنت من إجبار روسيا على التحرك، فإنها ستتمكن من تشويه صورة الأخيرة جنباً إلى جنب مع إسكات المصالح التجارية عبر البروباغاندا.
تنازل ورهان
في ردّ منه على هذه المؤامرة الأمريكية، دفع بوتين مجلس الدوما إلى سحب صلاحياته التي تخوّله إرسال قوات روسية إلى أوكرانيا. فالرئيس بوتين، وعلى عكس الرؤساء الأمريكيين كلينتون وبوش وأوباما، لا يطالب بسلطة استخدام القوات العسكرية بدون إذن الهيئات التشريعية في بلاده.
أما ردّ واشنطن على موقف بوتين التنازلي هذا، فقد تجسّد بزيادة عمليات قتل المدنيين بالتزامن مع إنكارها لحصول أي من هذه العمليات. فواشنطن مرغمة على نفي وجود عمليات القتل التي تتحمل مسؤوليتها، على الرغم من أن الجميع يعلم بأن كييف ما كانت لتجرؤ على تحدي روسيا دون دعم أمريكي.
يراهن بوتين -بتفاؤل- على أن مصالح أوروبا التجارية ستتغلب على «كلاب واشنطن» الأوروبيين المدللين، ولكن واشنطن قد بدأت العمل على تهديد مقاومة هذه المصالح والتقليل من شأنها. حيث تمكنت واشنطن، عبر استخدام تهمٍ مختلقة، من سرقة 9 مليارات دولار من أكبر مصارف فرنسا بسبب تعامله مع دول ترفضها أمريكا. وهو ما يعدّ تهديداً من جانب واشنطن لقطاع الأعمال الأوروبي بغية دفعه للتجاوب مع عقوباتها. ووصل الأمر بواشنطن حدّ إبلاغ فرنسا بأنها ستلغي أو تخفف الغرامات المستحقة عليها في حال ألغت الأخيرة العقد الذي أبرمته مع روسيا، والذي ينص على تزويد باريس لها بحاملتي طائرات هيلوكبتر. وتهدف الخطوات الأمريكية هذه إلى تخويف قطاع الأعمال الأوروبي وتحذيره من مغبة رفض العقوبات على روسيا.
إن الغطرسة الأمريكية المتمثلة بأنها تستطيع تحديد مع من يجب أن يتعامل مصرف فرنسي ما، تثير الدهشة. بل ما يثير الدهشة أكثر هو أن كلاً من فرنسا والمصرف سيقبلان هذه الغطرسة وهذا الانتهاك للسيادة الفرنسية. ويهدد هذا الانصياع الفرنسي للهيمنة الأمريكية رهان بوتين على غلبة المصالح التجارية الأوروبية على مصالح واشنطن الاستراتيجية.
الانتظار أم الخطة البديلة؟!
لقد أوضح «دمية واشنطن» في كييف بأنه لن يلبي أياً من المصالح الروسية، وبأنه لن يعارض أي سياسات راديكالية معادية لموسكو تطبّقها حكومة كييف التابعة لواشنطن في المحافظات الأوكرانية. فإلى متى يستطيع بوتين انتظار خروج ميركل أو هولاند من صف واشنطن التي تواصل إلى الآن إنكارها لأي مسؤولية لها عن الوضع الحالي؟
الخطة البديلة أمام بوتين الآن، هي أن يقوم بالدفاع عن الأوكرانيين الذين يتعرضون للهجوم، كما باستطاعته قبول طلبات المحافظات المتمردة للانضمام إلى روسيا كما فعل سابقاً مع شبه جزيرة القرم، إضافة لقيامه بإعلان الجاسوس الأمريكي بيترو بوروشينكو* مجرمَ حرب، وإصدار مذكرة اعتقال بحقه، وإرسال الجيش الروسي لمواجهة القوات التي أرسلتها كييف.
ومن شأن هذه الخطوات أن تضع بوتين كمدافع عن حقوق الإنسان خارج العالم الغربي، أما داخله، فستوضح بشكل تام لخدم واشنطن الأوروبيين بأن عاقبة اصطفافهم مع واشنطن هي الانجرار إلى حرب مع روسيا، وربما مع الصين أيضاً. ومن نافل القول أن لا مصلحة للأوروبيين في هذه الحروب.
لقد بذل بوتين ما في وسعه لتجنب الصراع، وهو الآن بحاجة للقيام بالشيء الصحيح، كما سبق وفعل في جورجيا وشبه جزيرة القرم.
هوامش :
بول كريج روبرتس* : مساعد وزير الخزانة الأمريكي سابقاً ومساعد محرر في صحيفة «وول ستريت جورنال» حالياً.
البروباغاندا : الدعاية السياسية الموجّهة.
بيترو بوروشينكو* : رجل أعمال وملياردير أوكراني، كان من أهم داعمي الثورة البرتقالية في عام 2004، ويشغل الآن منصب رئيس أوكرانيا.
عن موقع «Counterpunch.org»