الإعلام ـ السلطة ـ المال: مثلث النفوذ وخطاب الصورة
أولاً: في حدود العلاقة الحاكمة رغم الحيز المتنامي الذي تحتله صحافة العالم الثالث أو عالم الجنوب في الفضاء الإعلامي، ما تزال صحافة العالم الصناعي أو عالم الشمال تحتل الموقع الوازن في صياغة الخبر وانتشاره على الساحة الدولية. وقد شهد العقد الأخير اختراقاً واضحاً للإعلام العربي في إنتاج الخبر والصورة للأحداث الجارية على المسرح العربي ـ الإسلامي، بعد أن كان الإعلام العربي مجرد المتلقي والمروج لما ينتجه الإعلام الغربي، عاكساً اعتماد المفردات والمصطلحات التي تصوغ الخطاب الغربي عن أحداث المسرح نفسه.
لو دققنا في منظومة الإعلام الخاص الذي انتشر كالفطر عبر الفضائيات المتعددة أخيراً، لوجدنا أنها ليست بعيدة عن التأثير الرسمي أيضاً من حيث التمويل أو الإدارة، والأصح أن يطلق عليها الإعلام شبه الرسمي عموماً. هذا لا يعني أبداً أن الإعلام الغربي الخاص بمنأى عن الجلوس في أحضان السلطات أيضاً، ولكن في الغرب تتم العملية عبر واجهة الشركات والمستثمرين الذين يرتبطون بعلاقات عضوية غير مكشوفة غالباً مع القوى الحاكمة. وصحيح أنه لا يجوز نسخ وتعميم شكل العلاقة بين الإعلام والمال والسلطة، وإسقاطها على كل البلدان بصورة حرفية، لكن يبقى مفتاح تقويم حرية الإعلام ودوره مرتبطاً بتفكيك ودراسة العلاقة القائمة داخل أضلع مثلث السلطة ـ المال ـ الإعلام.
يسود انطباع خاطئ غالباً على أن الصحافة الغربية حرة من سطو المال أو تدخل السلطة، لأنها تتحرك في هامش أوسع وتخضع لمنطق المنافسة الاقتصادية وِفقاً لمتطلبات اقتصاد السوق ومنطق )دعه يعمل، دعه يمر .( ولكننا نعيش في عالم تسيطر عليه معادلة المال يساوي القوة والنفوذ، ويتم فيه توظيف الإعلام لتعزيز السيطرة والنفوذ أو زيادة الثروة. وتبدو العلاقة تبادلية بين المال والنفوذ، فالمال ينتج السيطرة والنفوذ، كما أن من يتمتع بالسلطة ويحوز عليها يسهل عليه توظيفها لإعادة إنتاج أو تكديس المال في علاقة تذكرنا بمشهد الباب الدوار.
ولو أخذنا الإعلام الأمريكي مثلاً في المقارنة، فصحيح أن الإعلام الأمريكي ليس حكومياً ولا يوجد وزارة للإعلام في الولايات المتحدة، كما هو الحال في معظم الدول العربية، لكن يتم الاستعاضة عن ذلك بمكاتب العلاقات العامة الصحافية التي تقدم إيجازاً يوميا أو دورياً من مختلف المراكز الحكومية والوزارات، ما يفرض حيزاً واسعاً للموقف والخطاب الرسمي في التغطية اليومية لكافة وسائل الإعلام.
نجد أحد المؤشرات على العلاقة غير التصادمية بين السلطة والإعلام في الولايات المتحدة، في صورة تعكسها الحفلة السنوية التي تقيمها جمعية المراسلين المعتمدين في البيت الأبيض. وعلى سبيل المثال، حضر الرئيس باراك أوباما الحفلة التي أقيمت في 9/5/2009، وألقى كلمة فيها. كما حضر عدد من كبار مساعديه ومسؤولون حكوميون ووزراء عرب، إضافة إلى عدد كبير من نجوم هوليود. بالطبع لا تعتبر دعوة رسميين عموماً إلى حضور نشاط سنوي للإعلاميين عيباً بحد ذاتها، لكنها تعكس حرص الإعلاميين ومؤسساتهم أو الشركات التي تملك تلك المؤسسات، على نسج العلاقات « الدافئة « مع أهل السلطة وأصحاب الشهرة (من نجوم هوليود).
أما المؤشر الأكثر أهمية ودلالة على طبيعة الإعلام الأمريكي، فيتعلق بتمركز ملكيته في السنوات الأخيرة؛ ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كان هناك حوالي 50 شركة تملك وتسيطر على مختلف وسائل الإعلام الأمريكية، بينما تسيطر الآن 5 شركات فقط على ما يقدر ب 37 ألف مؤسسة أو منبر إعلامي (صحف يومية، مجلات، راديو، محطات تلفزيونية، دور نشر، شركات الأفلام..الخ). وشهد العقدان الأخيران عمليات اندماج واستحواذ من شركات كُبرى على مؤسسات إعلامية، أبرزها عام 1996 عندما استولت ديزني على محطة abc بصفقة بلغت 19 مليار دولار. وفي عام 2001 استولت aol على شركة (تايم وارنر) بصفقة بلغت قيمتها 182 مليار دولار.
هذه الأمثلة تعطينا فكرة عن حالة الاحتكار والتمركز التي جعلت من الوسائل الإعلامية تابعة لشركات أو لديها مصالح تجارية واقتصادية متنوعة، وبالتالي حريصة على ضمان توجيه ما يصدر عنها بما لا ينعكس سلباً على هذه المصالح وعائدات الإعلانات. وتبدو التبرعات المالية السخية من هذه الشركات في الحملات الانتخابية التشريعية أو الرئاسية في الولايات المتحدة، أبلغ الأدلة على العلاقة العضوية والتبادلية في المنافع بين مثلث المال، السياسة، والإعلام. فعلى سبيل المثال، تبين في حملة الرئيس بوش الابن سنة 2004، أن الشركات المالكة لأبرز المحطات التلفزيونية الأمريكية تبرعت لحملته على النحو التالي: nbc احتلت المركز 13 من قائمة كبار المتبرعين، cnn احتلت المركز الثامن، أما fox فاحتلت المركز12، و abc احتلت المركز 23.
ثانياً: الإعلام: حدود المهنية والحرية
ترتكز مهنة الإعلام بالدرجة الأولى على (الدقة في نقل الخبر والسلوك المسؤول تجاهه)، ويمكن القول أيضاً إن الاعلام، فن وصناعة واستخدام الوسائل والأدوات السمعية، المرئية والمكتوبة، الناقلة للجمهور المتلقي في الفضاء المعلوماتي أو ما يشكل شبكة الاتصال بين البشر في المجتمع الإنساني.
وقبل أكثر من نصف قرن، وبالتحديد في عام 1952وضعت لجنة حرية الإعلام التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (إحدى منظمات الجمعية العامة للأمم المتحدة) عهد الشرف الدولي للصحافيين، ليكون «قانوناً» للسلوك المهني لكل فرد مكلف بتحري ونقل وإذاعة الأنباء وبث المعلومات والتعقيب عليها، أو معهود إليه في أن يصف الحوادث الجارية خطياً أو شفهياً أو بأي طريقة أخرى من طرق التعبير.
لكن الإعلام عموماً لا يلتزم كلياً بهذا الميثاق. فالمؤسسات الإعلامية، مرئية كانت أم مكتوبة أم مسموعة، عادة ما تكون منحازة إلى طرف سياسي (حكومي أو خاص) وخاضعة لسلطة مالية ما. وكثيراً ما يقع الصحافيون في فخ الانحياز ـ عمداً أو عن غير قصد ـ ولاسيما في تغطية الحروب والأحداث الجسام. والأمثلة على ذلك كثيرة في تغطيات وسائل الإعلام الأمريكية والعربية لأحداث 11 أيلول/سبتمبر وحربي أفغانستان والعراق وتعاطيها مع صعود الإسلام السياسي، على سبيل المثال لا الحصر.
ويكشف تقرير لجنة خبراء تابعة لليونسكو منذ أيام الحرب الباردة، أن بعض الحكومات قد ((جندت في وقت ما بعض الصحافيين لكي يقوموا بنشاط تجسسي مختبئين وراء عملهم الصحافي، وتسبب هذه الممارسة إلحاق الضرر بسمعة المهنة، وتضع الصحافيين موضع الريبة، وتعرضهم للمخاطر الجسدية، وتطلب اللجنة من الصحافيين والمؤسسات الصحافية أن يقاوموا كل محاولة من هذا القبيل، كما تلح على الحكومات أن تمتنع عن استخدام الصحافيين في أعمال التجسس)).
وللتدليل على العلاقة المترابطة والمعقدة بين الإعلام والسلطة والمال، يمكن الإشارة إلى قرار شبكة (سي أن أن) الأمريكية أخيراً، إقالة الإعلامية اللبنانية الأصل (أوكتافيا نصر)، لتعليقها على موقع (تويتر) للتواصل الاجتماعي على وفاة المرجع الشيعي اللبناني السيد محمد حسين فضل الله بالقول: (إني حزينة لوفاة السيد محمد حسين فضل الله... أحد عمالقة حزب الله الذي احترمه كثيرا.)
وجاء قرار الشبكة في ظل ردود فعل عارمة وضغوط لطرد نصر من جهات يمينية أمريكية وإسرائيلية ـ تملك رأس المال والنفوذ طبعاً ـ رغم تراجعها وقولها إنها أساءت التقدير، وإنها كانت تشير إلى موقف فضل الله من حقوق المرأة. لكن السياسة التحريرية للشبكة وتبنيها الموقف الرسمي الأمريكي على حساب الحريات الإعلامية وخضوعها لسلطة رأس المال، كلها عوامل قضت بعدم التراجع عن قرار الفصل.
وبأية حال، فإن المصالح السياسية لأية وسيلة إعلامية، وتحديدا ل (سي أن أن)، تقتضي ازدواجية في المعايير، أكان في قضية أوكتافيا نصر أو هيلين توماس، التي اضطرت الى تقديم استقالتها بعد 70 عاماً من العمل كمراسلة في البيت الأبيض، بسبب تصريحها التالي: (( بحق السماء فليخرج اليهود من أراضي فلسطين. فليعودوا من حيث أتوا. هذه أرض محتلة تعود الى الفلسطينيين وليست أرض الألمان أو البولنديين)).
ثالثاً: الإنترنت ملاذ أرحب وتحرر نسبي من القيود
ورغم أن الإعلام المرئي، ومنذ دخول التلفزيون إلى مسرح التداول، أحدث ثورة حقيقية في وسائل الاتصال، لأنه جمع بين الصوت والصورة، الكلمة والمشهد، واختصر الزمان والمكان، إلا أن الشبكة العنكبوتية قد تكون المساحة أو الملاذ الأرحب للتعبير، إذا ما قورنت بباقي الوسائل. وربما يعود ذلك إلى بعدها نسبياً عن الضوابط المباشرة التي يضعها رأس المال والسلطة، نظراً لانخفاض كلفة إنشاء المواقع الإلكترونية الى بضع مئات من الدولارات وسهولة القيام بذلك. فما طبيعة هذه الشبكة وحدودها؟
جعل التطور التقني المذهل لثورة المعلومات والاتصالات في العقود الأخيرة من الشبكة العنكبوتية العالمية تجسيداً حياً لمبدأ الفضاء المعلوماتي ومسرحاً يتألف من حزمة معقدة ومتشابكة من التفاعلات الرقمية، وأدخلنا في ما يمكن وصفه بثلاثة ميادين للفضاءات السائدة في العالم اليوم وهي:
الميدان الأول: الفضاء الفيزيائي التقليدي.
الميدان الثاني: الفضاء العقلي.
الميدان الثالث: الفضاء المعلوماتي.
يُعد الفضاء الفيزيائي من أكثر الفضاءات التي أَلِفْنَا التعامل معها، وتسري في هذا الفضاء قوانين الفيزياء التي صاغها نيوتن لوصف قوانين الجاذبية.
ولا ريب أن كلاً منا قد عاش ضمن فضائه العقلي الذاتي، وعايش الكثير من الحالات العقلية السائدة في بيئته، دون أن تكون لديه حاجة بمعرفة عناصره بدقة. وقد بذلت لل (الفضاء العقلي) جهود حثيثة من الخبراء والمتخصصين في العلوم العقلية والنفسية والتيارات الفلسفية المختلفة، في محاولة لفهم الآليات السائدة فيه، وسبر ماهية مكوناته. بيد أن هذه المحاولات لم تظفر بإجابة متفق عليها أو مطلقة لوصف تفاصيل ما يحدث في هذا الفضاء، وعلى الرغم من التطور العلمي الهائل في النسق المفاهيمي الذي ترتكز إليه هذه العلوم.
أما الفضاء المعلوماتي فهو عبارة عن حلقة تحاول جذب الفضاء العقلي إلى الفضاء الفيزيائي عبر معالجة رقمية تسعى إلى عولمة أو (كوننة) الفضاء العقلي لكي تمتد حدوده على عموم رقعة العالم الفيزيائي، من خلال استعارة معاني مفاهيمه التقليدية في بناء المفاهيم الفريدة للفضاء المعلوماتي. ويمثل هذا الفضاء محاكاة رقمية لمفردات العالم الفيزيائي مثل: أروقة التسوق، وغرف الدردشة، والسياحة الافتراضية، والمكاتب والكتب الرقمية، والمصارف الإلكترونية. ويتم التعامل مع الوحدات الرقمية المستحدثة التي تتميز بكونها عبارة عن بيئات افتراضية بالغة التعقيد، عبر مواقع الويب التي نستعرضها أثناء إبحارنا في عباب الفضاء المعلوماتي.
لكن الفضاء المعلوماتي الجديد شأنه شأن الفضاء التقليدي، يتكون من أربعة مكونات رئيسية هي: المكان والمسافة والحجم والمسار. فالاستفسار عن المكان يفتش عن عنوان العقدة المعلوماتية، سواء أكانت موقع ويب، أو عنوان بريد إلكتروني في خادم من خوادم الإنترنت (Server). وترتبط دلالة مسالة المسافة بعدد معدات الشبكة المعلوماتية التي تشخص أمام عملية انتقال المعلومات والبيانات بين حاسوب وآخر. أما الحجم فتطرح أسئلته حول سعة الموقع للبيانات والمعلومات، وتحديد الوقت المطلوب لتحميل الملفات في حواسيبنا الشخصية، وفي تحديد المسار الذي تسلكه المستعرضات، لكي تبلغ بنا الى الموقع الذي ينبغي الوصول إليه.
وهكذا نتعامل في الفضاء المعلوماتي مع فضاء شبكاتي لا صلة له بالحدود الجغرافية المألوفة، تسوده الحركة الدؤوبة من خلال الفيض المعلوماتي الدائم في جوهر افتراضي غير مرئي، غير مادي/تخيلي/ تجريدي. لقد تكونت بيئة ثقافية يتم من خلالها تبادل المعلومات والمعارف. وساهمت في (توافر أرضية خصبة لإنشاء مجموعة من الفضاءات التخيلية التي تجمعنا مع الآخر في أنساق تواصل متنوعة باتت تشكل مورداً جديداً لحوار رقمي بين الحضارات والثقافات).
رابعاً: وهم الخصوصية والحياد
بفضل الحضارة الرقمية وثقافتها تحول العالم المعاصر إلى توليفة رمزية من الأرقام، وتجلى خطاب جديد يوظف الصورة في مد جسور التواصل بين المستخدم والعالم الرقمي عبر السطح المرئي ـ البيني الذي يفصل بينهما. وبالطريقة نفسها بدأ الخطاب اللغوي يتضاءل تدريجياً بعد أن برز الخطاب الصوري لتداول المفردة المعرفية. لقد تحولنا من النص إلى الصورة، وتضاءلت مفردات الثقافة وتحولت عن النص المنطوق لحساب المتغير المرئي، وأصبحت دقة المشهد الصوري معياراً لتحديد فحوى الخطاب المعرفي المصاحب للخطاب الصوري.
وسينشب عن الحالة الجديدة غياب أمية اللغة بوصفها رابطاً متيناً يلم شتات المثقفين ويجمع تصوراتهم للكون الذي يتعاملون معه، ويساهمون في تحليل مكوناته، وتوحد الجميع برباط الخطاب الصوري الذي لا يفتقر إلى أبجدية تختص ببلد دون آخر، الأمر الذي سيساهم في تقليص الهوية الوطنية، ويبذر بذوراً جديدة ستنبت مفاهيم غريبة عن تراثنا وأصالتنا التي نستمد منها هويتنا الوطنية وعمق خطابنا المعرفي.
يتم دفعنا إلى إلغاء الثقافة الوطنية لإحلال ثقافة عولمية بلا هوية. بهذا المعنى تصبح مسألة الاختراق الثقافي من القضايا الساخنة في الوقت الراهن. فقد أدت أدوات الاتصال الحديثة والبث الصوتي والمرئي التي ظهرت في أواسط القرن العشرين دوراً فاعلاً في ترسيخ سلطة الاختراق الثقافي وقدرته على التسلل بهدوء الى عقر دارنا من دون أن تملك الجهات المناهضة أي سلطة لدرء سياسته المنمقة.
واقتصرت المحاولات على توعية الرأي العام، أو شن هجمات عشوائية للنيل من نتائج الاختراق الملموسة على أرض الواقع، بعد أن عجزت المحاولات لإغلاق فوهة البركان الثقافي الهادر القادم من الحضارة الغربية التي تسعى لترسيخ سلطتها على البلدان النامية، عبر سلسلة مكثفة من حملات تغييب الوعي، وتضييع معالم الهوية القومية.
ويمكن أن نعرّف الاختراق الثقافي المعلوماتي بوصفه آلية معلوماتية تمارس على المستخدم المقيم في المجتمع الرقمي، بواسطة جهات مختلفة تهيمن على عمليات تكييف الوعي الفردي للمستخدم، لضمان هيمنة الاقتصاد العولمي، ونهجه التسلطي، بعد أن أصبحت مسألة إخضاع الأبدان المقيمة على الأرض الصلبة مرتهنة بإخضاع النفوس المقيمة في حدود البيئة الرقمية المُتَخَيَلة.
ولقد بوشرت أعمال تعديل الوعي بواسطة آليات التسطيح، وجعله مرتبطاً بما يجري على سطح الفضاء المعلوماتي من تجليات صورية، ونصوص مقيمة على مواقع الويب، بطريقة تستفز الانفعال الذي يحجب العقل، ويغيب الوعي في بوتقة المظهر الصوري البراق، وبإحكام السيطرة على الإدراك، يصبح الطريق ممهداً أمام تعطيل فاعلية العقل، وتكييف المنطق والقيم، وتوجيه ملكة الخيال، وتنميط الذوق، وقولبة السلوك، بما يخدم آلة الاقتصاد العولمي التي تريد التهام جميع مفردات الفضاءين الرقمي والتقليدي، وتحويلها إلى عنصر من عناصرها.
وخلال هذه المرحلة الطويلة، سيسعى أصحاب هذا التيار إلى ترسيخ وهم الفردية لدى المستخدم، عبر تعميق الشعور بالخصوصية لديه، ومحاولة إقصائه عن الغير، لكي يعمل بمفرده ويمارس سلسلة عمليات تخريب وتمزيق مستمرة للصلات الثقافية التي يكون قد أقامها مع الغير.
وبهذا النهج يكون الاختراق الثقافي ـ الرقمي قد ضمن الاجتثاث التدريجي للأطر الاجتماعية، وأواصر الانتماء التي تربطنا بالأمة، أو الطبقة، أو الجماعة التي ننتمي إليها. وفي الوقت نفسه، سيبدأ بترسيخ وهم الحياد لديه، فيقصيه عن دائرة الالتزام بأية قضية اجتماعية، أو وطنية، أو أخلاقية، بحيث تضمن سيادة الاستتباع الحضاري حيث يقبع المرء وحيداً قبالة لوحة العرض البراقة. وينتابه شعور بأنه قادر على الاستغناء عن أي انتماء أو محيط اجتماعي أو هوية أو حتى مسؤولية.
قد تكون هذه الصورة الواقعية قائمة من منظور الوعي العربي المرغوب، ولكن ميدان الممارسة العملية يتيح لمن يحيط بالمشهد الإعلامي المتنوع وأدواته فرصة التسخير والاستخدام المبدع للآليات التقنية والمعرفية نفسها في سعيه لمجابهة التأثيرات السلبية، لا بل إيجاد وسائل فعالة لمجابهتها.
مركز الدراسات الأميركية والعربية المرصد الفكري / البحثي