هل تغير اكتشافات النفط والغاز في حوض المتوسط الجغرافيا السياسية؟
في شهر آذار/ مارس 2010، أصدرت «الهيئة الأميركية للمسح الجيولوجي»، التابعة لوزارة الداخلية، تقريرها حول «تقديرات مخزون موارد النفط والغاز غير المكتشفة في حوض المشرق من البحر المتوسط»، يفيد بأن حجم المخزون الممتد من أعلى السواحل السورية إلى جنوب سواحل فلسطين المحتلة وغزة يقدر بنحو 122 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي في أعماق المياه، بل أن الحوض هو الأثرى في العالم بالغاز
في مطلع عام 2011، أعلنت الشركة الأميركية «نوبل للطاقة» عن بدء أعمالها للتنقيب في مياه المتوسط ضمن حقل ضخم أطلق عليه «ليفياثان-1» والذي تبلغ مساحته نحو 125 ميلاً مربعاً يمتد على طول شواطىء فلسطين المحتلة واللبنانية، الأمر الذي دفع الكيان «الإسرائيلي» إلى حث الخطا لترسيم الحدود البحرية مع قبرص اليونانية، والتعدي على السيادة المصرية في مياهها الإقليمية. في شهر تموز/ يوليو 2011، وقعت سورية وإيران إتفاقية لنقل الغاز الإيراني عبر العراق مفتتحة بذلك «فضاءً استراتيجياً– طاقوياً»، بإمكانه ضم لبنان، والتعامل مع الأسواق الأوربية والعالمية المتعطشة للطاقة بعيداً، بل بمعزل، عن الهيمنة الأميركية.
جدير بالذكر أن لبنان وقع إتفاقية ترسيم حدوده البحرية مع قبرص عام 2007، مما أثار جدلاً حول قانونيتها وجدواها ورفض البرلمان اللبناني المصادقة عليها للوقت الراهن. وليس مستهجناً أن تبرز السواحل الشرقية للمتوسط كساحة صراع جديدة وإضافية في سياق أزمة الطاقة العالمية، وما تخلفه من تداعيات على مستقبل سورية ولبنان في البعد الاستراتيجي للصراع العربي الصهيوني، فضلاً عن التهديد التركي بدخول الصراع على الموارد الطبيعية.
وسارع «الكيان الإسرائيلي» في 30 آذار/ مارس 2013 إلى الإعلان عن بدء تدفق الغاز الطبيعي من حقل «تمار» الواقع في حوض المشرق (كما أطلق عليه علماء الجيولوجيا)، يتم ضخه آلياً في الفترة الراهنة لتغذية احتياجات السوق المحلية. ومن المتوقع تطور إنتاجه ليصبح صالحاً للتصدير في غضون سنتين أو ثلاث، إذ أن مخططات «إسرائيل» بعيدة الأمد تتطلع لتصدير الفائض من الإنتاج إلى أوربا، عبر أنابيب تمر في عمق البحر وتنتهي في ميناء جيهان التركي الذي طُورت بنيته التحتية لهذا الغرض بالذات. يذكر أن «إسرائيل» بدأت استخراج النفط والغاز من أعماق مياه المتوسط عام 2009.
وعليه، ينذر استخراج «إسرائيل» وتسويق الغاز من «حوض المشرق» بتغيير توازن القوى الجيوسياسية الراهنة، بل يزيد من تعقيداتها ويفتح آفاقاً جديدة لاستمرار الصراع بين القوى المختلفة. وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى تلهف «إسرائيل» لإعادة علاقاتها مع تركيا، مع العلم أن إعادة الاصطفاف المذكور لن يكون الأخير في هذا الصدد.
تغيير التوازن النفطي..
كما من شأن ثروات «حوض المشرق» المكتشفة أن تسهم في تغيير التوازن النفطي في المنطقة، نظراً للوضع المتجدد لدول وكيانات كانت لفترة قريبة تفتقر للموارد النفطية، مما سيقحمها في السباق لتصدير مشتقات الهيدروكربون إلى أوربا نظراً لوضعها الجغرافي المثالي (لبنان و«إسرائيل»). كما دخلت مصر حلبة التنقيب عن النفط بالموافقة لشركة «توتال» الفرنسية عن التنقيب في منطقة مقابلة للمياه القبرصية، وهي التي تقوم بأعمال التنقيب والحفر في بئر «تمار الإسرائيلي» في الوقت ذاته، مما يطرح تساؤلات مشروعة حول نزاهة أعمالها في التنقيب والحفر وعوائده للطرفين كليهما. أما لبنان فقد أعلن موافقته مؤخراً لطرح عطاء للتنقيب في مياهه الإقليمية.
في هذا السياق أيضاً، كانت العروض المغرية تنهال على سورية وقيادتها السياسية للفوز بموافقتها على تمرير خط أنابيب الغاز القطري عبر أراضيها، ومن ثم تصديره لأوربا بغية تحييد النفوذ الاقتصادي لروسيا وخفض اعتماد أوربا عليها في مجال الطاقة. توقيت العروض المطروحة لسورية كان في النصف الثاني من العام 2010، قام بها مسؤولون أميركيون والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. وحديثاً، أشار وزير الخارجية الأميركية جون كيري لمحاولته إقناع الرئيس بشار الأسد «بتغيير مواقفه وتليين الوضع (القابل للانفجار) والسعي نحو الحل السياسي»، التي تتضمن موافقة سورية على شروط عدة درءاً لتفجير مسمى «الربيع العربي». أحد الشروط يتعلق بتمرير أنابيب الغاز القطري و«تمرير خط أنابيب ينقل المياه التركية من سد أتاتورك إلى إسرائيل»، عبر أراضيها، وبالطبع فك ارتباط سورية بالمقاومة وإيران وروسيا. يذكر أن سد أتاتورك يحتجز خلفه مياه كانت تغذي نهر بردى في دمشق وغوطتها الخصبة.
البعد السوري اللبناني
وعقب إعلان سورية مؤخراً عن اكتشافات مخزون النفط والغاز على طول شواطئها ومياهها الإقليمية، والتي كانت معروفة منذ عقدين من الزمن على الأقل، واكبه تصعيد غير مسبوق في عمليات التدمير المنهجي لمرافقها الحيوية تضمنت منابع ومصافي النفط، وسط تقديرات تقول إن أربع آبار نفط من مجموع 14 حقل نفطي مكتشف يعادل إنتاجها معدلات إنتاج الكويت اليومي، أي 1.6 مليون برميل يومياً.
المخزون الاحتياطي الهائل في باطن الأرض والسواحل اللبنانية أوجزه وزير الطاقة والمياه اللبناني، جبران باسيل، منذ بضعة أسابيع قائلاً إن بإمكان احتياطيات مكمن واحد من الغاز عُثر عليها في مياه الساحل الجنوبي توفير احتياجات محطات الكهرباء اللبنانية طوال 99 سنة. دعّمه بيانات مسح جيولوجي قامت به شركة «سبيكتروم جيو» البريطانية التي أفادت أن احتياطي لبنان من الغاز يضم 25مليار قدم مكعب تقع في أعماق مياهه الإقليمية في الساحل الجنوبي، تمتد مساحتها على ثلاثة آلاف كيلومتر مربع. وتبلغ قيمة المخزون، إذا ما قيس بالأسعار الحالية، حوالي 140 مليار دولار، وهو رقم مرشّح للارتفاع، مع العلم بأنه يتخطى المخزون السوري بثلاث مرات. صحيفة «التايمز» البريطانية نقلت حديثاً عن خبراء في شؤون الطاقة يعربون عن اعتقادهم أن «احتياطيات الغاز» اللبناني هي أكثر بكثير من 25 تريليون قدم مكعب، و«للجميع اهتمام كبير بهذه الثروة في ذلك الموقع من العالم».
اصطفاف وإعادة تمحور الشركات المعولمة جارٍ على قدم وساق للفوز بنصيب الأسد من الثروة اللبنانية الكامنة. شركتان فرنسيتان، «جي دي اف سويس» و«توتال»، تطلبان ود «شركة إيران الوطنية لاستخراج النفط» للتعاون معاً في عمليات التنقيب والاستخراج في المياه اللبنانية. الشركة الأميركية العملاقة، «اكسون موبيل»، دفعها إغراء الثروة إلى طلب التعاون مع إحدى الشركات الروسية الكبرى للغرض ذاته، ولاسيما أن قاعدة بياناتها الداخلية تشير إلى أن مخزون لبنان يبلغ ضعف حجم مخزون حقل «تمار» المكتشف في مياه فلسطين المحتلة.
روسيا هي المورد الأكبر للغاز الطبيعي لأوربا دون منازع، وتحرص على ديمومة مكانتها في البعد الجيوسياسي. كما أن مصلحتها تتطلب الحد من تأثير ونفوذ تركيا في منطقة المشرق العربي. وفازت بتوقيع إتفاقية مع «إسرائيل» تخولها حقوقاً حصرية لتطوير وتسييل الغاز الطبيعي، اتساقاً مع طموحها لتحويل الغاز المسيل إلى مادة روسية بامتياز لتصديرها للأسواق الآسيوية. مقابل ذلك، أعلنت روسيا أنها على أتم الاستعداد للاستثمار في منشأة غاز مسيل عائمة في مياه المتوسط بكلفة تصل إلى نحو 5 مليارات دولار، عبر شركتها العملاقة «غازبروم»، الموقعة على الإتفاقية وتنتظر الموافقة النهائية من الجانب الآخر. وبما أن المنشآت لتسييل الغاز تقع في مياه فلسطين المحتلة فإنها تعتبر مصدر أفضل أمناً للغاز من أي مشروع مشابه مرتبط بتركيا، من وجهة النظر الروسية.
من هذا المنظور يمكننا النظر إلى تصالح تركيا و«إسرائيل»، كثمرة أولى للتداعيات الجيوسياسية في «حوض المشرق»؛ كما بدأت تتجسد أيضاً في نظرة «إسرائيل» نحو مصر نتيجة استكشاف هذه السلعة الثمينة.
إذ برزت أزمة توريد الغاز الطبيعي «لإسرائيل» كمسألة تمس الأمن القومي منذ بضعة شهور، بدأت مع تضاؤل توفر الغاز في الأسواق المحلية إلى أدنى المستويات. فمظاهرات «الربيع العربي» أطاحت بحسني مبارك الذي دأب على توفير نحو 40% من احتياجات «إسرائيل» من الغاز. صعود الإخوان المسلمين للسلطة رافقه قلق من استمرار العمل بتوريد الغاز المصري، ولاسيما أن الأنبوب الناقل للغاز المصري تعرض لهجمات عدة أثرت على المحافظة على مستويات الضخ السابقة. الأمر الذي ضاعف من خشية «إسرائيل» تعرضها لأزمة في موارد الطاقة، ومصير الثمن المدفوع الذي قد يذهب إلى طرف معاد محتمل، كما يتردد. اكتشافات «حوض المشرق» خففت من حدة تلك المخاطر.
حقول الغاز المكتشفة في المياه اللبنانية تقع ضمن مياهه الإقليمية وما يعتبره منطقته الاقتصادية حصراً، إذ تشير علامات حدود الآبار المكتشفة إلى امتدادها ضمن مياهه السيادية؛ الأمر الذي صعد حدة التوتر العالية بالأصل مع «إسرائيل»، إذ يعتبر لبنان أن ما أطلق عليه حقل «تمار» هو امتداد للحقل الأصلي في المياه اللبنانية ويخضع لسيادتها، وفق القوانين الدولية. وطار وزير الخارجية البريطانية، وليام هيغ، إلى بيروت، في 20 شباط من العام الجاري، في سعيه للحؤول دون المزيد من تفاقم الأوضاع، وإغراء لبنان بوعود ومساعدات تقنية في التنقيب والاستخراج مقابل حصة معينة. اللافت في الأمر، من وجهة النظر الجيواستراتيجية، أن قدوم هيغ يلغي الدور الفرنسي التقليدي بلبنان، ويؤشر على طبيعة تقسيم نفوذ القوى الغربية في المنطقة.
(..) قدم لبنان تفسيره الرسمي لنصوص القانون الدولي للملاحة البحرية في مذكرة أودعها لدى الامم المتحدة، آب 2010، يوضح فيها أن حقلي «تمار» و«ليفياثان» يقعان خارج منطقة السيادة اللبنانية، بينما تقع آبار أخرى ضمن الحدود الإقليمية اللبنانية؛ أبدت الامم المتحدة تأييدها لوجهة النظر اللبنانية.
بعد فترة وجيزة من تحرك لبنان دبلوماسياً، عكفت «إسرائيل» على إعداد ردها للهيئة الدولية، تموز/ يوليو 2011، رافقها تحرك رسمي أميركي نحو لبنان قام به فريدريك هوف، المبعوث الأميركي السابق للشؤون السورية واللبنانية، الذي أبلغ الحكومة اللبنانية تأييد إدارة الرئيس أوباما للمذكرة اللبنانية المذكورة.
الاستفادة «الإسرائيلية»
على الرغم من تعاظم التوترات بين «إسرائيل» وكل من مصر ولبنان بسبب «حوض المشرق»، قد تأتي الاستكشافات الجديدة ببعض العائدات المفيدة «لإسرائيل»، التي تتطلع شرقاً نحو الأردن لتعزيز العلاقات الودية أصلاً، وضمه تحت غطاء شبكتها لتوزيع الغاز، الأمر الذي سيخفض كلفة إنتاجه، فضلاً عن يسر توفره. بالنظر إلى احتياجات الأردن الذي يستورد نحو 97% من احتياجاته لتوليد الطاقة بتكلفة تستنزف إنتاجه القومي السنوي بنحو 20%، يبلغ حجم استراد الغاز الطبيعي نحو 88% من مجموع الاستيراد من مصدره في مصر الذي يضخ في أنابيب تعبر أراضي فلسطين المحتلة. تعرض خط أنابيب الغاز المصري إلى هجوم في سيناء مما أدى لإيقاف العمل به، وتضاعفت أعباء الأردن لموارد توليد الطاقة الكهربائية لتصل إلى نحو 5.6 مليار دولار، مما حدا بحكومته إلى رفع مستوى الدعم الذي تقدمه لقطاع الطاقة إلى 1.6 مليار دولار درءاً للمخاوف من مضاعفة أسعار الطاقة الكهربائية بسبب انقطاع الغاز المصري.
مزايا استكشافات الغاز الطبيعي قد تمتد لتشمل الأردن، ولاسيما أن البعض بدأ يروج لإنشاء محطة تسييل للغاز الطبيعي في مدينة العقبة الأردنية لشحنه إلى الأسواق الآسيوية؛ مما يخرج من المعادلة مخاطر عبور الناقلات لقناة السويس بسبب حالة عدم الاستقرار السياسية.
(..) تعزز موقع جزيرة قبرص في ظل الاكتشافات الحديثة ليس بالقرب من شواطئها فحسب، بل لمركزية موقعها في بؤرة الآبار المتشاطئة مع كافة الدول المطلة على شرقي البحر المتوسط؛ بل قد يذهب بنا الأمر إلى القول إن توقيت الأزمة المالية حديثة العهد، في قبرص، قد واكب الضغوطات السياسية عليها، وامتداداً على اليونان، لمصلحة الكيان. كما ينبغي التذكير بأن الشركة الأميركية المختصة بالتنقيب، «نوبل انيرجي»، هي التي أجرت المسح والتنقيب في حقل «افرودايتي» القبرصي وحقل «تمار» في فلسطين المحتلة أيضاً.
العلاقات الثنائية بين «إسرائيل» وقبرص اليونانية متأرجحة مقارنة بتلك القائمة بينها وبين تركيا، لكنه جرى تعزيزها وتمتينها منذ التيقن من الاكتشافات في «حوض المشرق» والحجم المتقارب لمخزون حقلي «افرودايتي» و«تمار». فالأول يمتد بمحاذاة، بل ويتداخل في، مياه فلسطين المحتلة في عدد من المناطق البحرية المعروفة «بمناطق أوقيانوسيا»، أو مناطق بحرية مفتوحة، تتخذ أشكال اسطوانات مخروطية تمتد من سطح البحر إلى أعماق تتراوح أبعادها من 3.7 كيلومترات إلى 11 كيلومتراً. ونظراً لتداخل الحدود البحرية الإقليمية بين الطرفين وقربهما لبعضهما البعض، بإمكاننا القول إنه باستطاعة مخزون الحقلين تغطية الاحتياجات الأوربية من الغاز لنحو سنتين من الزمن.
أما آبار الغاز الواقعة قبالة شواطىء قطاع غزة، المكتشفة عام 2000، فأوضاعها الاقتصادية والجيوسياسية أشد تعقيداً، ولاسيما أن «إسرائيل» تتحكم بكل ما يحتاجه وينتجه قطاع غزة، ولم يتم استغلال «حقل غزة البحري» للآن لدوافع سياسية. إذ اعتبرته مصر منافس لاتفاقياتها المعقودة لتوريد الغاز إلى «إسرائيل» التي ينتابها قلق مستدام من فقدان سيطرتها بالتحكم في مصادر الثروات الطبيعية والآفاق التي ستوفرها عائدات الغاز على مستوى معيشة القطاع، فضلاً عن توظيف بعض العائدات في المجال القتالي ضدها.
حقوق التنقيب عن الغاز في مياه غزة تمتلكها شركة «مجموعة الغاز البريطانية»، تتوزع ملكيتها على أطراف عدة: بريطانيا 60%، عائلة الحوري اللبنانية 30%، وصندوق الاستثمار الفلسطيني ما تبقى من الحصص بما يعادل 10%. كما أن الشركة– المجموعة البريطانية تجري مفاوضات مع «إسرائيل» بغية تطوير إنتاج الحقل، إذ تمثل الأولى مطالب السلطة الفلسطينية في توفير الغاز لتوليد الطاقة في المناطق الخاضعة لسيطرتها الأسمية.
وفي هذا السياق، لا يجوز إغفال أهمية العامل السوري فيما يتعلق بثروات «حوض المشرق»، بصرف النظر عن الحرب الدائرة هناك التي لا تحفز أي من المستثمرين الدخول في أعمال الحفر والتنقيب. تجميد أعمال التنقيب بالقرب من الشواطىء السورية يفيد «إسرائيل» بالدرجة الاولى، ولبنان إلى درجة أقل، للمضي في عملية استخراج الغاز من أعماق البحر المتوسط.
الخاسرون
خانة الأطراف الرابحة من اكتشاف «حوض المشرق» تشمل تركيا، قبرص، لبنان و«إسرائيل». أما الأطراف التي ستتأثر سلباً فإن مصر تقع على رأس القائمة. إذ مع تقلص حجم مبيعات الغاز «لإسرائيل»، فقدت مصر مصدراً هاماً للعملة الصعبة واكبه تدني نفوذها السياسي. كما أن معدلات الاستخراج في الآبار المصرية ستستمر في الانخفاض نظراً لتوتر الأوضاع السياسية والاضطرابات العامة، الأمر الذي تجسد في إيقاف العمل في عدد من الآبار الواقعة في دلتا النيل نتيجة إعاقة واعتراض حركة المواصلات على الطرق، فضلاً عن إغلاق بعض الآبار استجابة لاحتجاجات السكان. كما أن تضعضع سلطة الدولة المركزية في شبه جزيرة سيناء حفز بعض المسلحين من سكانها البدو على اعتقال مسؤول الشركة الأميركية العملاقة، «اكسون موبيل»، لدى مصر وعقيلته لفترة قصيرة، وكأنها رسالة وصلت للمستثمرين المحتملين بالابتعاد عن مصر.
كما أن صعود نفوذ تركيا في منطقة المشرق العربي يقوض نفوذ خصمها اللدود، روسيا، بل يأتي على حسابه في المشرق وأوربا معاً؛ إذ باستطاعة تركيا جدلاً تصدير نصيب أعلى من حصصها في الغاز لأوربا.
أما اليونان فباستطاعتها تبوأ موقع الرابح إن أحسنت استثمار الفرص الاقتصادية وطورت علاقاتها مع الدول الاخرى خاصة تركيا، في ضوء الأزمة المالية الخانقة التي كادت أن تودي بها إلى الانهيار والإفلاس التام. ستعمل «إسرائيل» على استمرار المنافسة بين تركيا واليونان طلباً لودها، والتي من المتوقع أن تقدم على خطوات لتعزيز علاقاتها مع قبرص اليونانية، على حساب تركيا، مما سيتطلب ربط أنابيب الغاز من حقل «ليفياثان» مع قبرص ومن ثم لليونان؛ وتلعب الدور المعاكس تماماً ضد اليونان عند الضرورة لتكسب الطرفين.
بعض دول «الربيع العربي» في الشطر الأفريقي ستخرج خاسرة في معركة توريد الغاز، ولاسيما أنها لا تستطيع السيطرة على زمام الأمن في بلادها. باستطاعة «حوض المشرق» توفير الدور البديل للغاز المستخرج من سواحل المتوسط المقابلة لأوربا، بل قد تدفع حمأة المنافسة على الأسواق الاستهلاكية في أوربا إلى هبوط سعره.
من الثابت ان الاكتشافات في «حوض المشرق» تدفع باتجاه تحولات استراتيجية عدة في المنطقة، لعل أهمها عودة التحالف الوثيق التقليدي بين تركيا و«إسرائيل» إلى سابق عهده؛ وخسارة مصر المتوقعة لدورها ونفوذها في مياه المتوسط والدول العربية الأخرى. عند توفر عائدات الثروة المكتشفة لدى الخزينة اللبنانية، باستطاعة لبنان خفض حدة تدخل ونفوذ تلاعب الأطراف الخارجية بمستقبله وإرساء الأسس لبناء مجتمع أوفر عدلاً. منطقة الشرق الاوسط، بشكل عام، ستستمر بالتأثر من وطأة التحالفات التاريخية والنزاعات على مقدراتها لمصلحة الغرب.
مركز الدراسات الأميركية والعربية