في خدمة من؟!
عندما تصاب المنظومة الأخلاقية لمجتمع ما، فإن هذا المجتمع يفقد مناعته ويصبح مصدراً أساسياً للأمراض الاجتماعية التي تتحول إلى سرطان ينخر في نسيج هذا المجتمع، ويجعله عرضةً لأخطار لا أول لها ولا آخر، ومما لا شك فيه أن المستوى الأخلاقي لأي مجتمع له علاقة وثيقة بالمستوى الاقتصادي العام فيه، وبالتالي فإن أهم سبب يؤدي إلى إصابة المنظومة الأخلاقية، بل ويأتي على رأس أسبابها، هو تردي الحالة المادية والمعيشية لعموم المواطنين، هذا التردي الذي يخلق الفساد بشكل موضوعي.
عَرَّفت الهيئة العالمية للشفافية الفسادَ بأنه: «السلوك الذي يمارسه المسؤولون في القطاع العام أو القطاع الحكومي، سواء كانوا سياسيين أو موظفين مدنيين، بهدف إثراء أنفسهم أو أقربائهم بصورة غير قانونية، من خلال إساءة استخدام السلطة الممنوحة لهم».
وقد شهدت سورية، بحسب هيئة إحصائية حكومية، زيادة في جرائم السلب والقتل والاغتصاب بنسبة 28% للعام الماضي، بسبب تردي الأحوال الاقتصادية وتوافد اللاجئين وزيادة الهجرة الداخلية من الريف للمدن الكبرى، وما يرافق ذلك من بطالة وفقر مدقع، وأصبحت أخبار الفساد على كل شفة ولسان، ولا تخلو صحيفة يومية أو قناة تلفزيونية أو مواقع الكترونية، سواء العامة منها أو الخاصة، من خبر يومي عن ذلك، فهل أصبحت أخبار الفساد مستساغة كأنها الملح أو البهارات الضرورية لاستواء طبخةِ أيةِ نشرة إخبارية؟! والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها التالية:
ـ أوقفت الجهات المعنية عدداً من ضباط الشرطة وصف الضباط على خلفية فساد.
- دفعت المعاناة الطويلة لـ(ب.س)، وهو بائع كشك في محافظة اللاذقية مع أحد عناصر شرطة المرور في المحافظة إلى إتباع أسلوب لدرئه عنه، بتصويره عبر الهاتف الجوال وهو يرتشي.
- قام وزير الداخلية بالتدخل لفض مظاهرة عفوية حدثت بعد مشادة بين شاب وثلاثة من عناصر الشرطة.
- جريمة قتل فريدة من نوعها، حيث قام رئيس المخفر بقتل أحد عناصره من الشرطة داخل المخفر.
في هذه اللجة، بات من الضروري معرفة الواقع الحقيقي لشعار «الشرطة في خدمة الشعب»، وهل هناك من حوّله جدياً ونهائياً لخدمة آخرين، حارفاً إياه عن مساره الطبيعي الذي يحدده الدستور؟ إن الأمثلة المذكورة أعلاه ما هي إلا نماذج من بعض ما نُشِر عن فساد هذه الجهة التنفيذية علناً، فماذا يجري في الخفاء؟
يعرف الناس أن العديد من مواقع بعض الجهات التنفيذية راح يغلب عليها فساد متعدد ومتشعب، وإن كان لا بد من القول إنه «إن خليت خربت»، لأنه على الرغم من حجم الفساد الذي أصاب العمود الفقري للعديد من أصول وفروع هذه الجهات، إلا أن ذلك لا يعني خلو الأمر من العديد من الشرفاء غير الفاسدين.. وإلا لوقعت الواقعة!.
الفساد في هذا الجهاز تطغى عليه جملة من المظاهر، على رأسها الرشوة التي لا حد لها، لأنها هنا كالطوفان الهائج الذي لا سد أمامه، ومحيط لا شطَّ له، والكثيرون من العاملين في هذا السلك، لا يؤدون واجبهم بدون ما يسمى بـ«المعلوم».
وتتحدد التسعيرة حسب نوع الخدمة المقدمة وأهميتها، حيث تشكل هذه الجهات في أحياء المدن والقرى والأرياف المتحكم الأبرز بشؤون العباد، وبجزء هام من السيولة النقدية الموجودة بيد المواطنين الذين يتعرضون لمشكلة قانونية ما، فبدل أن تساعدهم «يد العدالة» في صب جميع ما يملكون في خدمة معيشتهم، تبتز الشاكي والمشتكى عليه، وبالتالي يتحول الفساد هنا إلى منشار «يأكل بالطالعة والنازلة».
إن الداخل إلى أي مخفر، حتى لو كان مشتبهاً به فقط، ولم تثبت التهمة عليه بعد، سيلقى معاملة المدان حتى تثبت براءته، وحتى يستطيع ذلك فإنه سيلقى ما لا يسره من صنوف التعامل الرديء جسدياً ومعنوياً، تبدأ بالشتم والتهديد، ويمكن أن تنتهي بالجلوس على «الدولاب».. إلا إذا دفع المعلوم الذي سيحميه من هذه الورطة، وبعض العناصر خبيرون خبرة فائقة في تحويل الحق إلى باطل، فيميل الحق إلى جهة من يدفع أكثر، كما أن هؤلاء قادرون على التلاعب في كتابة ضبوط الحوادث والجرائم والتلاعب بها لمصلحة من يخصهم أمره.
وفي تعامل المخفر مع محيطه العام، يعود المال ليكون السيد والدافع، فكل مخفر يعرف البيوت والأماكن المشبوهة والفعاليات الأخرى المتواجدة في منطقته، النظامية والمخالفة، وكي ينال حصته من مداخيلها عليه أن يقوم بحمايتها وزيارتها بشكل دوري، والمشكلة أن وزارة الداخلية على اطِّلاع مسبق ومعرفة كاملة بفساد مخافرها، وهذا ما يفسر الحملة الشاملة على مستوى سورية التي قام بها وزير الداخلية في إلقاء القبض على المجرمين المحكومين والفارين والمطلوبين للمحاكمة، وقد بلغ حجم أرقام هذه الحملة عشرات الآلاف من المطلوبين، أما التبليغات المفترض بالمخفر القيام بها فيتم التغاضي عنها بفضل المبلغ الذي يتقاضاه العنصر من هؤلاء المحكومين والمجرمين. من هنا نجد أن الكثير من عناصر الشرطة غير مؤهلين لكي يكونوا عناصر ناجحين في عملهم، ويجب إيجاد معايير أخلاقية محددة للراغبين في الانتساب لهذه الجهة الحساسة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نستطيع أن نحافظ على ما تبقى من الشرفاء في ظل الفساد المستشري فيه؟ الحقيقة أن الجواب معقد أكثر من السؤال.. فالمسألة لا تنفع معها الحلول الترقيعية، بل تحتاج إلى حل جذري شامل وكامل الأبعاد..
الطامة الكبرى التي تجري على المستوى الاجتماعي أن حجم الفساد الكبير هذا فرض على البلاد ما يسمى بـ«ثقافة الفساد» التي فرضت على الناس أن يتعايشوا مع هذا الفساد وكأنه أمر مفروضٌ لا راد له، فحتى المواطن الصالح يضطر في أكثر الأحيان أن يتحول إلى راش يدفع المال لتحقيق مصلحته.
أخيراً لا بد من قول الحقيقة كاملة، وبكل جرأة، فهي الكفيلة بالتغيير إن كان هناك نية صادقة لذلك، وعلى مبدأ «صديقك من صَدَقَكْ وليس من صَدَّقك».. نقول إنه لابد من تغيير هذا الواقع المزري لجهاز يقع على عاتقه صون الكرامات والحفاظ على الحقوق.. إن جهازاً يغلب عليه كل هذا الفساد من رشوة وتلاعب بحقوق الناس، ولا يقوم بواجبه إلا إذا ارتشى، وتقع على كاهله مهمات كبرى كالحفاظ على الأمن والسلم والتعايش بين جماهير الشعب، والحفاظ على كرامة المواطن التي هي جزء لا يتجزأ من كرامة الوطن، يحتاج إلى تغيير وتطهير جديين وبأسرع وقت ممكن..