المغامرة «النيوكولونيالية» الأمريكية في أوكرانيا
تقول الأساطير بأن «ميداس» ملك فيرجيا كان يستطيع تحويل أي شيءٍ يلمسه إلى ذهب. ووفقاً لأرسطو، فقد مات هذا الشخص الأسطوري جوعاً نتيجة جشعه وتحويله لمضمون الأشياء من شكلها الطبيعي إلى الذهب
أما اليوم، فإذا نظرنا إلى أمريكا ومغامراتها النيوكولونيالية، فسنجد أن الأسطورة سابقة الذكر قد غدت حقيقة واقعية مأساوية، حيث أنه من المرجح جداً أن تكون السياسة الأمريكية الحالية تجاه أوكرانيا بمثابة «اللمسة» التي ستنهي الولايات المتحدة الأمريكية كما نعرفها اليوم.
«ليس كل ما يلمع ذهباً»
طيلة عقود، شارك المحافظون الجدد بالانقلابات والعمليات والحروب السرية والعلنية، من أجل تحقيق هدفهم المتمثل بالهيمنة على العالم. حيث زوّدهم انتهاء الحرب الباردة بالجرأة، وأعطتهم أحداث الحادي عشر من أيلول الإمكانية، وبدأت البلدان بالتساقط واحداً تلو الآخر، جراء «اللمسة» الأمريكية التي لا ترحم من أفغانستان إلى العراق وليبيا وليس انتهاءً بسورية، دون ذكر ما نشهده اليوم من محاولاتٍ مشابهة في كل من فنزويلا وإيران. وفي هذه الأثناء، لم تكن الأنشطة السرية ضد روسيا والصين، باعتبارهما يشكلان تحدياً للهيمنة الأمريكية العالمية، تنال الاهتمام الكافي.
لقد أدى فشل «الثورة البرتقالية*» المدعومة غربياً في أوكرانيا في عام 2004 من جهة، وقيام المظاهرات الضخمة التي شهدتها شبه جزيرة القرم ضد غزو حلف شمال الأطلسي «الناتو» لها في عام 2006، وما حملته هذه المظاهرات من شعارات كـ «أيها المحتلون.. عودوا إلى دياركم»، مما دفع برلمان الحكم الذاتي الأوكراني إلى إعلان شبه جزيرة القرم «منطقة خالية من تواجد الحلف» من جهة أخرى، إلى وضع المحافظين الجدد في موقفٍ مربك، ولا سيما أن كلاً من الولايات المتحدة وحلف الناتو كان يحاول تطويق روسيا منذ عام 1991.
كذبة «الديمقراطية»
بالنسبة لأمريكا، فإن تحقيق الهيمنة العالمية يتطلب كبح روسيا والصين. وفي هذا السياق، فإن محاولة حرمان روسيا من أسطولها «أسطول البحر الأسود» المتواجد في شبه جزيرة القرم، وقطع طريقها نحو ميناء طرطوس السوري، هو بلا شك جزء هام من استراتيجية الكبح هذه. إضافةً إلى إيقاف صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا، وهو الأمر الذي لا يقل أهمية عن ما سبق من خطوات. وللوصول إلى هذا الهدف، تم الإعداد لجملة من الإجراءات السرية والعلنية، فقد أعلن إعلام وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية المتمثل بـ «إذاعة أوروبا الحرة» في عام 2010، بأن: «أوكرانيا كانت، ولمدة ربع قرن، هدفاً للمؤسسات الغربية «الداعمة للديمقراطية» كـ «الصندوق الوطني للديمقراطية»»، ومن الجدير بالذكر أن مؤسسة «ويست مينستر للديمقراطية» التي تمولها بريطانيا، كانت شريكاً هاماً في هذه العملية. كما أن هذه المؤسسة ذاتها عملت على استقطاب مؤسسة «أوكرانيون من أجل الديمقراطية»، وهي من أهم المؤسسات الشعبية في أوكرانيا، لتصبح في وقت لاحق عضواً في مجلس الأعمال الأمريكي - الأوكراني «USUBC».
وبعيداً عن «دعاية» الديمقراطية، يجب النظر باهتمام إلى الدور المحتمل والمرجح لما يعرف بـ «قيادة العمليات الخاصة الأمريكية USSOC»، التي يقال إنها تعمل في حوالي 120 بلداً في عام 2011، ومن ثم قفز هذا الرقم إلى ما يزيد عن 140 بلداً حالياً. هذا وتتشارك كل من «شعبة الأنشطة الخاصة SAD»، و«دائرة العمليات الخاصة SOG» و«مجموعة العمل السياسي POG» وجميعها تتبع لوكالة الاستخبارات المركزية «CIA»، في الأنشطة السرية المتعلقة بالحرب النفسية وعمليات كسب النفوذ السياسي.
النفاق الأوروبي
في الوقت الذي شاهد العالم بأجمعه صور قنابل المولوتوف، وجثث الضحايا الذين قضوا قنصاً، كانت أوروبا تحاول، على لسان مفوضتها للشؤون الخارجية، كاثرين أشتون، توجيه أصابع الاتهام إلى الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش في حوادث إطلاق النار، لتسهيل الإطاحة به عبر هذه التهم الملفقة. وليس هناك من سبب وجيه يدفع الداعمين الغربيين لحكومة الغوغاء الإنقلابية إلى عدم فتح تحقيق في قضية عمليات القنص سوى أنهم متواطئون فيها. فإما إنهم كانوا يمتلكون معرفة كاملة بهذه الأفعال، أو إن إخفاء تفاصيلها كان يصب في مصلحتهم، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يجر أي تحقيق في هذه الحوادث حتى الآن. هذا وقد أبدى الكثير من الباحثين والمحللين قلقهم من الدعم الذي توليه الولايات المتحدة للنازيين الجدد في أوكرانيا، إضافة إلى الاحتضان الأمريكي ــ الأوروبي للإرهاب ووقوفهم إلى جانب الإرهابيين ضد رئيسٍ منتخبٍ ديمقراطياً.
الإرهاب يحارب نفسه!
على الرغم من عدم وجود تعريف عالمي للإرهاب، إلا أن الفقرة الثانية والعشرين من قانون الولايات المتحدة الأمريكية تعرّف الإرهاب على أنه «العنف الذي يحمل دوافع سياسية والمُرتكب عن سابق إصرار ضد أهداف غير مقاتلة، والذي تقوم به جماعات أجنبية أو عملاء سريون، ويُقصد منه عادةً التأثير على الجمهور».
وهنا يبدو جزءٌ مما يُسمى بـ «الحرب على الإرهاب» التي تشنها أمريكا والاتحاد الأوروبي غير مفهوم، حيث تم تهميش ما قام به مشاة البحرية الأمريكية في أفغانستان من تبول على جثث القتلى هناك. في واقع الأمر، فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية وشريكها الأوروبي عبر دعمهم للإرهابيين، بالتبول على قبور جميع من لقي حتفه في حربهم الدنيئة على «الإرهاب»، بما في ذلك جنود حلفائهم.
بصمات الصهيونية تظهر في أوكرانيا
بالعودة إلى الشأن الأوكراني، فقد قيل الكثير حول هذا الموضوع، إلا أنه من الواجب على المرء أن يسأل عن السبب الكامن خلف دعم المجتمع اليهودي لصعود النازيين الجدد. ولماذا لم يتم التحقيق في وجود قوات إسرائيلية كانت تتولى قيادة الجماعات المتمردة في أوكرانيا؟ وعلاوة على ذلك، لماذا عبّر زعماء يهود عن تأييدهم للانقلاب وقادته؟ ولماذا اختاروا توجيه غضبهم باتجاه روسيا والرئيس بوتين عبر تصريحاتهم؟
بعد ما سبق، لم يعد مستغرباً امتناع القادة اليهود في أوكرانيا عن التنديد بوجود النازيين الجدد، وادعاؤهم بأنهم يستطيعون الاعتناء بأنفسهم.
في كانون الأول من العام الماضي، ذكرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الصهيونية بأن المجر* - جارة أوكرانيا - لم تكتفِ بالسعي للحصول على الغاز «الإسرائيلي»، كبديل عن الغاز الروسي، بل إنها منحت «إسرائيل» الحق بالوصول إلى مخازن الغاز التي تمتلكها، كما قامت بتقديم نفسها كمركز لتوزيع الغاز «الإسرائيلي» في أوروبا الوسطى.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ستستطيع أوكرانيا النجاة من الهجوم الحالي الذي يستهدف تنوعها وسيادتها، خصوصاً وأنها دولة وليست أمة واحدة؟ إن الظروف وردات الفعل غير المتوقعة قد تحوّل أوكرانيا إلى آخر «لمسة ميداس» تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية.
عن موقع «غلوبال ريسيرتش» بتصرف.
هوامش :
النيوكولونيالية*: «الاستعمار الجديد» وهو استخدام الرأسمالية والعولمة التجارية والإمبريالية الثقافية للتأثير على الدول، بدلاً من السيطرة عليها عسكرياً بشكلٍ مباشر.
ثريا سيباهبور أولريش*: كاتبة وباحثة مستقلة متخصصة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ودور «جماعات الضغط» في التأثير على هذه السياسة.
الثورة البرتقالية* : قامت في عام 2004 ضد حكومة فيكتور يانكوفيتش، وتمكنت من الإطاحة بالحكومة بعد شهرين من اندلاعها.
المجر* : هنغاريا.