العولمة والسوق الحر:  الرأسماليون الكبار ينهبون العالم ويستنزفون الأرض!
وين ايلوود وين ايلوود

العولمة والسوق الحر: الرأسماليون الكبار ينهبون العالم ويستنزفون الأرض!

 العولمة كلمة جديدة تصف عملية قديمة: دمج الاقتصاد العالمي الذي بدأ بشكل جدي مع استهلال حقبة الاستعمار الأوروبي منذ خمسة قرون. لكن تسارعت هذه العملية خلال الثلاثين سنة الأخيرة مع التطور المفاجئ في تكنولوجيا الكومبيوتر، وتفكيك الحواجز أمام حركة البضائع والرأسمال، وتوسيع القدرة الاقتصادية والسياسية للشركات العابرة للحدود.

 

ترجمة حسين علي

اكتشاف العالم الجديد

منذ خمسة قرون مضت، في عالم خال من الكهرباء، الهواتف الخليوية، التبريد، أقراص الفديو (DVD)، الانترنت، السيارات، الطائرات، أو الأسلحة النووية، كان هناك رجل اسمه كريستوبال كولون، بحار من جنوة يملك حلماً بدا أحمق في ذلك الوقت. كان هاجسه أن يقوم برحلة بحرية إلى آسيا – منطقة لم يكن يعرف عنها شيئاً، إلا مجرد إشاعة لا أساس لها من الواقع حول ثرواتها الهائلة. كان هاجسه قوياً (قال البعض طمعه) فاستطاع أن يقنع ملك وملكة اسبانيا بتمويل رحلته إلى المجهول عبر ظلام المياه الممتدة بلا حدود، والتي كانت تدعى حينذاك البحر المحيط. كان هدفه: إيجاد مملكة الإمبراطور الصيني خان الكبير، وإيجاد الذهب الذي قيل بتوافره بغزارة هناك.

أصبح كولون بعد قرون عديدة معروفاً لدى الملايين من طلبة المدارس في الغرب بـ«كريستوفر كولومبوس»، مكتشف أمريكا الشهير. لكن في الواقع لم يكن الاكتشاف إلا محض مصادفة. لم يصل كولومبوس إلى آسيا أبداً، حتى لم يقترب منها نهائياً. بدلاً من ذلك وبعد خمسة أسابيع في البحر، وجد نفسه مبحراً تحت الشمس الاستوائية متجهاً إلى مياه الكاريبي الفيروزية، ليبلغ اليابسة في مكان ما من الباهاما، الذي يطلق عليه حالياً اسم سان سلفادور (الُمنقِذ). شعر بحارة كولومبوس بالبهجة لوجودهم في هذا المكان. حملوا معهم ماءً عذباً ومأكولات غريبة. وقدَّم شعب الجزيرة الأصلي «التاينو»، المساعدة لهم.

كتب كولومبوس في مذكراته: «إنهم أفضل وأكرم شعب في العالم، قادوا بحارتي إلى حيث الماء العذب وحملوا بأنفسهم البراميل المليئة بالمياه إلى السفينة، كانوا سعيدين جداً بإرضائنا. أصبحوا أصدقاء لنا. كان ذلك رائعاً حقاً».

بعد عشرين سنة وبضع رحلات لاحقة، مات غالبية شعب التاينو، ووقعت الشعوب الكاريبية الأخرى في أسر العبودية أو كانت تتعرض إلى هجوم الإبادة. تحولت العولمة حتى في ذلك الوقت وبسرعة كبيرة من عملية بريئة لتواصل الثقافات والحضارات المختلفة إلى تدافع بغيض من أجل الثراء والسلطة. بينما كان الناس المحليون يموتون بسبب عدوى الأمراض التي حملها الأوروبيون معهم أو بسبب استخدام آسريهم لهم في العمل حتى الموت، تبع ذلك وصول آلاف المستعمرين الأوروبيين إلى الأرض الجديدة لاهثين وراء الذهب والفضة مغلفين غنيمتهم بنكهة إضافية أخرى، ألا وهي هداية تلك الأرواح الكافرة إلى اعتناق الدين المسيحي.

كانت مغامرة كولومبوس مهمة لعدة أسباب، ليس أقلها استغلال ثروات الأرض الجديدة وشعبها، لكن الأكثر أهمية هو أن رحلاته فتحت الباب واسعاً أمام 450 سنة من الاستعمار الأوروبي. حيث وضعت حقبة القرون الامبريالية هذه حجر الأساس للاقتصاد العالمي اليوم.

العولمة قديماً

على الرغم من أن العولمة أصبحت تعبيراً مألوفاً في السنوات الأخيرة، يجد كثير من الناس صعوبة شائكة في تحديد معناها الحقيقي. يعطينا التاريخ بداية مفيدة في هذا الخصوص. العولمة هي عملية قديمة متجذّرة في التجربة الاستعمارية. عبّر أحد منظري الامبريالية البريطانية، سيسل روديس، بإيجاز بليغ عن الحالة الاستعمارية في تسعينيات القرن التاسع عشر: «يجب علينا إيجاد أراض جديدة يمكن لنا أن نجلب منها المواد الأولية واستغلال العمل العبودي الرخيص وفي الوقت نفسه تكون أسواقها مفتوحة أمام معاملنا للتخلص من منتجاتها الفائضة».

نشرت الأمم الأوروبية خلال الحقبة الاستعمارية أحكامها عبر العالم، واستولت والولايات المتحدة الأمريكية على معظم ما دُعي لاحقاً بالعالم الثالث. عملوا على تأسيس أراض جديدة للمستعمرات الأوروبية فتمددوا إلى استراليا، نيوزيلندا وأمريكا الشمالية، لكن كان هدفهم في مناطق أخرى (إفريقيا وآسيا) تحقيق رؤية روديس: نهب المواد الأولية وأسواقاً لتصريف المنتجات الفائضة. منذ عام 1600 حتى عام 1800 جرى نهب ثروات فاحشة لا يمكن تقديرها من أمريكا اللاتينية حيث كانت هذه القارة المصدر الرئيسي للثورة الصناعية الأوروبية.

توسعت التجارة العالمية بسرعة كبيرة خلال الحقبة الاستعمارية بينما كان الأوروبيون يمتصون المواد الخام من إقطاعاتهم الجديدة: الفرو، أشجار الغابات والسمك من كندا، الرقيق والذهب من إفريقيا، السكر والفواكه من الكاريبي، الشاي والتوابل من آسيا. تدفقت الثروات من المستعمرات ما وراء البحار إلى فرنسا، انكلترا، هولندا، واسبانيا.. وكان بعض الرأسمال يتدفق أيضاً عائداً إلى المستعمرات كاستثمارات –في خطوط السكك الحديدية، الطرق، الموانئ، السدود والمدن. كان ذلك المدى الواسع من التجارة العالمية من القرن التاسع عشر حيث تم نقل الرأسمال من الشمال إلى الجنوب أكبر عند نهاية التسعينيات من القرن التاسع عشر مما كان عليه عند نهاية التسعينيات من القرن العشرين. بحلول عام 1913، كان للتصدير (أحد المعالم المميزة لتزايد دمج الاقتصاد) حصة أكبر من الإنتاج العالمي مما كان له في عام 1999.

عندما يتحدث الناس حول العولمة اليوم، إنهم يتحدثون غالباً حول الاقتصادات، حول توسيع التجارة العالمية في البضائع والخدمات على أساس مفهوم «الميزة التنافسية». أول من قال بهذه النظرية في عام 1817 الاقتصادي البريطاني دافيد ريكاردو في كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي والضريبة. كتب ريكاردو بأنه يجب على البلدان أن تتخصص في إنتاج البضائع التي تملك ميزة طبيعية فيها، وعلى هذا الأساس تكون أسواقها بيئة طبيعية لهذه البضائع. يعتقد ريكاردو بأن هذا سيفيد البائع والشاري لكن فقط إذا تحققت شروط معينة:

1- يجب أن تكون التجارة بين الشركاء متوازنة فلا تصبح إحدى البلدان مدينة ومعتمدة على البلد الآخر.

2- يجب أن يتركز استثمار الرأسمال محليّاً وعدم السماح بتدفقه من بلدان الأجور العالية إلى بلدان الأجور المنخفضة.

لسوء الحظ، في عالم التكنولوجيا والاتصالات المتطورة اليوم، لا وجود لأي من هذه الشروط. النتيجة: إن رؤية ريكاردو بالاعتماد على السوق المحلية والتوازن بين الاستيراد والتصدير لم توجد في أي مكان. بدلاً من ذلك، هيمن التصدير على أجندة الاقتصاد العالمي. الطريق الوحيد للازدهار يعتمد بشكل متزايد على توسيع التصدير إلى بقية العالم.

ينتفع الجميع بالمحصلة، منطقياً، من نتائج زيادة التجارة. انخفض حجم التجارة في وسط الأزمة الاقتصادية 2008-2009 للمرة الأولى في التاريخ. وفقاً لمنظمة التجارة العالمية انخفضت مستويات التجارة في أوروبا بنسبة 16% تقريباً في الربعية الرابعة من عام 2008 بينما انخفضت التجارة العالمية بنسبة أكبر من 30% في الربعية الأولى من عام 2009. لكن ارتفع حجم التجارة العالمية بسرعة كبيرة في العقد السابق. نما بمعدل 6.6% خلال تسعينات القرن العشرين وبأكثر من 6% في السنة السابقة للألفية الثالثة. كانت التجارة العالمية في الواقع تنمو بأكثر من حجم الإنتاج العالمي. عمل هذا التوسع إلى زيادة الدخل العالمي بأكثر من 500 بليون دولار. لسوء الحظ، انتهى معظم هذا الثراء إلى أيدي البلدان الصناعية. إن لهم حصة الأسد من المبادلات التجارية، ويتم ذلك فيما بينهم بشكل رئيسي. في الواقع، يحظى العالم الغني بثلثي تصدير السلع في العالم، حيث بقي هذا الرقم ثابتاً تقريباً منذ عام 1960. إن حصة أمريكا اللاتينية، وسط/شرق أوروبا وإفريقيا في إجمالي التصدير العالمي كان أقل في عام 2002 مما كان عليه في عام 1960.

تغير العالم في القرن الماضي بطرق غيرت معها الاقتصاد العالمي وتأثيراته على الناس وعلى الطبيعة بشكل جذريّ. تختلف العولمة اليوم بشكل كبير عما كانت عليه في الحقبة الاستعمارية والفترة التي تبعت الحرب العالمية الثانية مباشرة. حتى أن أحد منظريّ الرأسمالية، جورج سوروس، صرَّح بشكوكه حول القيم السلبية التي تقبع تحت الاتجاه الذي يأخذه الاقتصاد العالمي الحديث.

الفعل السحري للسوق

«الفعل السحري للسوق» ليس مفهوماً جديداً، إنما هو مفهوم قديم كان موجوداً بصيغة أو بأخرى منذ زمن أبي الاقتصاد الحديث، آدم سميث، لكن كان مفهوم سميث حول السوق بعيداً بشكل صارخ عن المفهوم الذي يدافع عنه «أبطال العولمة» اليوم. يقول سميث بأن الأسواق تعمل بفاعلية أكبر عندما يوجد مساواة بين البائع والشاري، وعندما لايكون أي واحد منهما أكبر من الآخر لدرجة يستطيع معها أن يتحكم في السوق فيفرض شروطه. على هذا الأساس، يضمن كل الأطراف تلقي قيماً عادلة وبالتالي يعود هذا بالنفع العام على المجتمع ككل وذلك من خلال الاستخدام الأفضل للمصادر الطبيعية والبشرية. كان سميث يؤمن أيضاً بأن أفضل استثمار للرأسمال هو الاستثمار المحلي، وبهذا يرى المالكون ماذا يحدث باستثماراتهم، ويكون لهم القدرة على التحكم بها.

يختلف عالم اليوم بشكل كبير، عن العالم الذي عاش فيه آدم سميث. خذ على سبيل المثال ثورة تكنولوجيا الاتصالات التي بدأت عام 1980. خلال 30 سنة فقط غيرت الكومبيوترات، تكنولوجيا الضوء والصورة، والأقمار الصناعية، إنتاج، بيع وتوزيع البضائع والخدمات بشكل جذري. كما تغيرت طرق الاستثمار العالمي أيضاً. أفردت الشركات أجنحتها براً وبحراً وجواً وتستطيع أن تنقل معاملها وآلاتها اليوم إلى حيث توجد أرخص التكاليف. لم يعد مهماً أن تكون قريبة من السوق المُستَهدَف.أدت التكنولوجيا المتطورة والنفط الرخيص (حتى الآن على كل الأحوال) إلى زيادة كبيرة جداً في نقل البضائع. وكلما زادت حركة البضائع حول العالم زاد تلوث البيئة وما يتبعها من ارتفاع لدرجة حرارة الأرض وتغير المناخ. يتم تجاهل التكاليف البيئية هذه ببساطة في حساب عملية الربح والخسارة في الشركات وهذا أحد الأسباب الرئيسية لمعارضة نشطاء البيئة لعولمة التجارة. تكدِّس الشركات الأرباح لكن المجتمع هو من يدفع الفاتورة.

عامل آخر أثر في طبيعة العولمة هو التغيرات البنيوية للاقتصاد العالمي حيث انهارت منذ بدايات السبعينيات من القرن العشرين الأنظمة التي وُضِعت في نهاية الحرب العالمية الثانية لادارة التجارة العالمية. أعطى نظام تبادل العملات الثابت الذي تم الاتفاق عليه في عام 1944 في بريتون وودز، ولاية نيوهامشر في الولايات المتحدة، أعطى العالم 35 عاماً من النمو الاقتصادي المستقر نسبياً.

«عصمة» السوق الحرة

بدأت الأشياء تتغير منذ حوالي 1980 مع انبثاق تشدد حكومات كل من بريطانيا والولايات المتحدة بالتمسك بمبدأ حرية السوق، وانهيار الاتحاد السوفييتي والتخلي عن مبدأ الاقتصاد الموجه من الدولة. إن الصيغة التي تبنتها كل من إدارة مارغريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة من أجل التقدم الاقتصادي دعت إلى التقليل الشديد لدور الدولة في عملية تنظيم السوق. وفقاً للمنظرين الفكريين للحكومتين، الاقتصادي النمساوي فريدريك هايك والأكاديمي من جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان، تكمن المشكلة، في عرقلة التقدم الاقتصادي، في تدخل الدولة. السوق هو من يجب أن يوجه الحكومة وليس العكس. يجب أن تكون الشركات حرة في نقل عملياتها إلى أي مكان في العالم لتقلل من التكاليف إلى أدنى الحدود ولتزيد الأرباح إلى أقصاها. تجارة حرة، استثمار بلا قيود، سوق لاتحكمها قوانين وأنظمة، موازنات ايجابية، تضخم منخفض وخصخصة مشاريع القطاع العام نودي بها وبلا منازع كَسِت خطوات للوصول إلى الازدهار الوطني.

مشى تحرير الأسواق المالية من القوانين يداً بيد مع التأكيد على التجارة الحرة. أُطلق العنان فجأةً للبنوك، شركات التأمين وتجار الاستثمار، الذين كانت معظم عملياتهم حتى الآن محصورة ضمن الحدود الوطنية. خلال بضع سنوات توسعت الشركات العملاقة من أوروبا، اليابان وأمريكا الشمالية وامتدت إلى أسواق بعضها البعض كما بدأت تغزو أسواق الخدمات المالية الجديدة الهشة في الجزء الجنوبي من العالم. مدعومةً بأنظمة كومبيوتر معقدة (التي سهَّلت تحويل مبالغ مالية ضخمة بمجرد نقرة زر واحدة) وحكومات مستميتة إلى الاستثمار، أسرعت البنوك الكبيرة وشركات الاستثمار إلى استثمار فوائض أموالها النقدية في أي مكان يجلب لهم الربح. في هذا الجو الرحب، أصبح الرأسمال المالي عامل عدم استقرار في الاقتصاد العالمي.

بدلاً من استثمارات طويلة الأجل في الاقتصاد الحقيقي في إنتاج بضائع وخدمات، يعمل المضاربون في نادي القمار العالمي نقوداً من النقود – مع عدم اكتراثهم لتأثير استثماراتهم على المجتمعات المحلية أو الاقتصاد القومي. تخاف الحكومات في كل مكان الآن من تأثير هذه «الأموال الحارة» في عدم استقرار الاقتصاد. ان انهيار 2008-2009 _ الأكبر منذ الانهيار الكبير الذي حصل في ثلاثينيات القرن الماضي – إنما هو الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الكوارث المالية. أظهرت دراسة حديثة للأمم المتحدة وجود علاقة مباشرة ومتلازمة بين تكرر الأزمة المالية حول العالم والزيادة الكبيرة في حجم تدفق الرأسمال العالمي بين عامي 1990 و2010.

كان انهيار عملات شرق آسيا، الذي بدأ في تموز من عام 1997، مثالاً كارثياً عن الضرر الذي سببه مستثمرو الآجال القصيرة الوجلون. حتى ذلك الوقت كانت «اقتصادات النمور» تايلاند، تايوان، سنغافورة، ماليزيا وكوريا الجنوبية قصص نجاح يتباهى بها «أبطال العولمة». أشار المدافعون عن الأسواق المفتوحة إلى هذه البلدان كبرهان ساطع على أن الرأسمالية التقليدية تجلب الثراء والازدهار إلى الملايين في البلدان النامية – لكنهم تجاهلوا عمداً مايناقض نظريتهم وهو أن حكومات هذه البلدان لعبت دوراً قوياً وفاعلاً في تكوين وتوجيه الاقتصاد.

كانت الاستثمارات الأجنبية  تحت توجيه ورقابة الحكومات الوطنية حتى بدايات التسعينيات من القرن الماضي، حصل هذا بشكل أكبر في كوريا الجنوبية وتايوان وبشكل أقل في تايلاند وماليزيا. ثم، كنتيجة للضغط المستمر من صندوق النقد الدولي وآخرين، بدأت «النمور» بتطبيق سياسة الانفتاح الرأسمالي وبدأت شركات القطاع الخاص بالاستدانة إلى أقصى الحدود.

طفت معدلات نمو عالية جداً على سطح بحر من الاستثمارات الأجنبية بينما كان المستثمرون الأجانب يغرقون المنطقة بالدولارات مستميتين لتحقيق أرباح مضاعفة. كان الرأسمال في عام 1996 يتدفق إلى شرق آسيا بمعدل 100 بليون دولار سنوياً تقريباً. لكن توجهت معظم هذه المبالغ إلى المضاربة بالعقارات أو إلى سوق الأسهم المحلية حيث تضخمت الأسهم المالية إلى حدود أكبر بكثير من قيمتها الأساسية.

في تايلاند، حيث بدأت «المعجزة» الآسيوية تتعفن، أغرقت الاستثمارات الزائدة في العقارات السوق بما يعادل قيمته 20 بليون دولار من العقارات الجديدة غير المباعة. انهار البيت الكرتوني عندما أدرك المستثمرون الأجانب عدم قدرة المؤسسات المالية التايلاندية على سداد القروض المستحقة والمقدرة ببلايين الدولارات. مروًّعين بشبح انخفاض الأرباح وبركود سوق العقارات، بدأ المستثمرون باسترداد قروضهم وتحويل استثماراتهم إلى نقود وإخراج ما يستطيعون إخراجه من المنطقة ببطء في البداية ومن ثم بهلع وسرعة.

بالدليل القاطع

ثبُت خطأ صندوق النقد الدولي، وبشكل كارثي. انخفض الإنتاج بشكل عامودي على امتداد المنطقة بينما حلقت عاليا معدلات البطالة، قافزة بمعدل عشر مرات في اندونيسيا وحدها. كانت الكوارث الإنسانية للأزمة الاقتصادية في شرق آسيا مباشرة ومدمِّرة. تتابع إفلاس الشركات الواحدة تلو الأخرى وأغلقت المؤسسات أبوابها وألقت بملايين العمال إلى الشوارع. أكثر من 400 شركة ماليزية أعلنت الإفلاس بين تموز 1997 وآذار 1998، بينما في اندونيسيا – البلد الأفقر والأكثر تأثراً بالأزمة- أُلقي بـ20% من السكان، 40 مليون تقريباً، إلى براثن الفقر المدقع. كان للانكماش الاقتصادي تأثير مدمر في إنقاص  كل من دخل العائلة والإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والصحية لسنوات تالية. تم طرد أكثر من 100 ألف طفل في تايوان من مدارسهم عندما لم يستطع آباؤهم متابعة دفع رسوم التعليم. كان للانهيار تأثير مدوٍ خارج نطاق آسيا أيضاً فوصلت موجات ارتداده إلى دول أمريكا اللاتينية وكادت أن تقلب البرازيل إلى هاوية الركود. ووصلت تداعيات الأزمة حتى إلى الاقتصاد الروسي حيث انزلقت معدلات النمو لتتجه بشك عكسي، وأصبح الروبل الروسي لا قيمة له كوسيط في سوق تبادل العملات العالمية.

كانت أزمة شرق آسيا صدمة جدية ونسفاً لكل «وعود» العولمة الواعدة بالخير والنجاح، وكانت تحدياًٍ صلباً في وجه صحة وَصْفات صندوق النقد الدولي الاقتصادية. أزمة شرق آسيا زرعت بذور الشك والقلق حول فضائل وميزات العولمة.