الإكوادور : النصر الكاسح للبرنامج الاقتصادي الاشتراكي لرافائيل كوريّا
شكل الفوز الساحق الثالث على التوالي الذي حققه الرئيس الاشتراكي رافائيل كوريا في الانتخابات الرئاسية الاكوادورية في السابع عشر من شباط الماضي نصراً جديداً للثورة الأمريكية اللاتينية، فقد نجح محققاً نسبة 58% مقابل 34% فقط لأقرب منافسية، إضافة لحصول حزبه «تحالف أرض الآباء العزيزة والسيدة Alainza PAIS»» (المعروف ضمن الخطأ الشائع في الترجمة إلى العربية «تحالف السلام») على ثلثي مقاعد «الجمعية الوطنية» في الإكوادور
على خلفية النصر الكاسح لبرنامجه الاقتصادي الاشتراكي الذي يسميه ثورة المواطنين صرح كوريا لمناصريه بما يلي:
«المواطنون هم المسؤولون في هذه الثورة وليس رأس المال. إن هذا النصر سيعود لكل واحد منكم ولن يستطيع أي شيء أو أحد أن يقف في وجه هذه الثورة. فنحن يا أصدقائي نصنع التاريخ».
لقد وعد كوريا بتقوية ثورة المواطنين عبر مجانية كل من التعليم الحكومي والرعاية الصحية حيث قامت الحكومة– حتى الآن– بالتوسع بشكل كبير في هذين المجالين.
وانطلاقاً من سيطرة حزبه على السلطة التشريعية في البلاد فقد أقسم كوريا على تنفيذ إصلاحات تضمن استمرارية نموذجه الاشتراكي وتحويله إلى نمو دائم.
كان معدل الفقر في الإكوادور ذات الـ14.6 مليون نسمة 37% منذ سبع سنوات. لكن كوريا ومنذ توليه فترة الرئاسية الأولى في 2007 نجح في تخفيض هذا المعدل بنسبة 9% ليصل مع حلول عام 2011 إلى 28%.
كما قام بمضاعفة الإنفاق الحكومي على قطاع التعليم وبتخفيض معدل البطالة إلى النصف تقريباً 4.1% مضيفاً 95 ألف فرصة عمل، عدا عن توسيع الإنفاق على قضيتي الرعاية الصحية والإسكان المدعوم من الدولة.
إن هذه الإنجازات المثيرة للإعجاب وغيرها ساهمت بتكريس وزيادة شعبية كوريا، حيث نال نسبة تأييد شعبية قاربت 85%.
مفتاح نجاح كوريّا
إن مفتاح نجاح كوريا هو ما قام به من بناء وتأسيس لدولة اشتراكية قوية ومستقلة وديمقراطية تتحكم فعلياً بكل من اقتصادها وقطاعها المالي وترسم توجهاتهما، ولم تعد النخبة الإكوادورية المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية هي من ترسم السياسات الاقتصادية للبلد كما كانت الحال سابقاً. وباتت هذه المهمة تقع تحت إشراف الدولة التي وضعت نصب عينيها هدفاً رئيسياً يتلخص بإعادة توزيع الدخل على غالبية فقرائها.
كانت الإكوادور- قبل مجيء كوريّا- تعد إحدى أقل دول أمريكا الجنوبية استقراراً مع سبعة رؤساء يدخلون ويغادرون سدة الحكم خلال مدةٍ لم تتجاوز العقد من الزمن. وتعود أسباب هذه الفوضى السياسية إلى السياسات الليبرالية التي كان ينفّذها هؤلاء الرؤساء الفاسدون وعدم قيامهم بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة شعبياً، إضافةً لخنوعهم التام لإملاءات الولايات المتحدة التي كانت تنص على تخلي الحكومة عن مسؤولياتها الاقتصادية لصالح كل من الشركات الخاصة وخصوصاً متعددة الجنسيات منها- المهيمن عليها أمريكياً- وكبار مالكي الأراضي الإكوادوريين. لقد أدت سياسات هذه الأنظمة القمعية– المختلفة الشكل المتفقة المضمون– إلى إفقار وتهميش الغالبية العظمى من الشعب، الأمر الذي أدى لتعبئة المجتمع لقيام الثورة التي أتت بكوريّا رئيساً.
إلغاء ديون العقود غير المشروعة
بمجرد تولّيه مقاليد الحكم، قام كوريّا بعملية إعادة تنظيم وهيكلة النظام الاقتصادي، وسنّ ما يمكن اعتباره أكثر الإصلاحات الاقتصادية شمولية على المستوى العالمي في القرن الواحد والعشرين. حيث سيطرت الحكومة على المصرف المركزي مستعيدةً حوالي 2 مليار دولار من ودائعها الموجودة في الخارج، وتم تحويل هذا المبلغ إلى المصارف الإكوادورية العامة لكي تمنحها الأخيرة على شكل قروض لتمويل مشاريع البنية التحتية والإسكان والزراعة واستثمارات محلية أخرى. ورفض كوريّا دفع 3.9 مليار دولار من الدين الخارجي لبلاده (ثلث إجمالي الدين العام) على خلفية نتائج التحقيق الذي توصّلت إليه إحدى اللجان الاقتصادية الدولية حول هذا الموضوع، حيث رأت اللجنة أن هذا المبلغ يستند إلى ما سمّته بـ«عقود غير مشروعة».
في المرحلة التالية، قام كوريّا بفرض ضرائب على الأموال المغادرة للبلاد وأجبر المصارف على الاحتفاظ بـ60% من أصولها السائلة داخل الإكوادور. ثم وضع نسباً محددة لمعدلات الفائدة وخفّض الضرائب المصرفية، هذا وقامت الحكومة عند ارتفاع أسعار النفط بإعادة التفاوض على العقود الموقعة مع الشركات متعددة الجنسية العاملة على أراضيها.
شهدت الفترة التي تلت تنصيب كوريّا على السلطة، ارتفاعاً في أسعار النفط الإكوادوري بنسبة (80%)، إضافةً إلى أن (40%) من عائدات الإكوادور الرسمية أصبحت تأتي من إنتاجها النفطي. كما حققت عائدات الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعاً من (27%) في عام 2006 إلى أكثر من (40%) في 2012. هذا دون ذكر التحفيز المالي الكبير الذي أنجزه كوريّا والذي بلغ (5%) من إجمالي الناتج المحلي، والذي ذهب قسم هام منه إلى قطاع البناء عبر زيادة الحكومة لقروض بناء المنازل لتصل إلى 599 مليون دولار في 2009.
مركز أبحاث واشنطن يعترف
وفقاً لدراسة أعدّها (مركز واشنطن لأبحاث الاقتصاد والسياسة)، فإن إصلاحات كوريّا تضمنت ما يلي:
- تحقيق نمو اقتصادي كبير يقدر بـ(5%) سنوياً منذ عام 2007
- زيادة العائدات الحكومية- تخفيض كبير في معدلات البطالة والفقر- تقليل تأثيرات الركود العالمي الذي بدأ عام 2008
وتضيف الدراسة: «إن النجاح الذي حققه الإكوادور يثبت بأن الحكومة التي تلتزم بإصلاح النظام الاقتصادي الخاص بها، والمدعومة شعبياً، لا تستطيع أن تواجه تحالف المصالح المالية والسياسية والإعلامية وحسب، بل إنها تستطيع الانتصار أيضاً». وتتابع الدراسة «لقد واجهت الحكومة الإكوادورية ضغوطاً دوليةً كبيرة فيما يتعلق بسداد دينها الخارجي، وفي موضوع إعادة النظر بالعقود النفطية المبرمة مع الشركات النفطية الأجنبية، إضافةً لقضية رفضها تجديد امتياز إحدى القواعد العسكرية الأمريكية القليلة المتبقية في أمريكا الجنوبية». وتخلص الدراسة إلى أن «هذا النجاح يشير إلى أن الدول النامية قد تمتلك خيارات متعددة فيما يخص سياساتها تفوق الاعتقاد الذي كان سائداً من قبل». إن تحرّر الإكوادور من قبضة نخبتها الثرية التابعة للولايات المتحدة، يعدّ فعلاً ثورياً حقيقياً يعزى الفضل فيه إلى رافائيل كوريّا.
بالعودة إلى قضية القاعدة العسكرية الأمريكية التي ذكرناها سابقاً والموجودة في مدينة (مانتا) على الساحل المطل على المحيط الأطلسي، فقد قال الرئيس كوريّا بعد رفضه تجديد عقدها الذي انتهى عام 2009: «لا مانع لدينا من مناقشة القاعدة الموجودة في مانتا مع الولايات المتحدة، بشرط أن تدعنا الولايات المتحدة نقيم قاعدةً لنا في ولاية ميامي الأمريكية».
يدلّل هذا الرفض الصريح والقاطع على أن الإكوادور لم تعد دميةً في يد الولايات المتحدة بعد الآن، الأمر الذي يعدّ بذاته إنجازاً كبيراً إذا أخذنا بعين الاعتبار التاريخ الطويل الذي أمضته الإكوادور في ظل الاستعمار الغربي الحديث.
اعترافات عميل للـ«سي آي إيه»
يذكر العميل السري السابق في المخابرات الأمريكية فيليب إجي– الذي كان يعمل في الإكوادور– في كتابه مذكرات CIA: «لقد كان وجود وتدخل الوكالة في عمق المجتمع الإكوادوري كبيراً جداً». ويتحدث أيضاً عن النشاطات اليومية التي كانت تقوم بها الوكالة بهدف الهيمنة أو تخريب وتدمير المؤسسات الإكوادورية بما فيها الحكومة والجيش والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والنقابات العمالية والجامعات.
لقد كانت أي حكومة لا تتبنى السياسة النيوليبرالية بشكل كافٍ عرضةً للإسقاط من الولايات المتحدة عبر الـ(CIA) التي تقوم بافتعال أزمة سياسية أو اقتصادية طويلة الأمد. وهذا ما كانت الحال عليه في الإكوادور. حيث كانت هدفاً للبرامج المسماة بـ«التكيّف الهيكلي» المعدّة من كل من صندوق النقد والبنك الدوليين المُهيمن عليهما أمريكياً بشكل كامل. وكانت هذه البرامج تقتضي خفض الإنفاق العام في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والشؤون الاجتماعية. مما أدى لإفقار غالبية المواطنين فأصبحت معدلات البطالة تلامس (80%) والفقر (60%) في حينها، الأمر الذي تسبّب باندلاع التظاهرات والحركات الاحتجاجية التي قادتها حركات اجتماعية واتحادات عمالية على مدى عامين كاملين تُوجت في نهاية المطاف بوصول كوريّا إلى سدة الرئاسة في عام 2007.
بعد أن أنجز جزءاً كبيراً من برنامجه الاقتصادي الاشتراكي، فإن كوريّا يزيد احتضانه للثورة الأمريكية اللاتينية باعتبارها الوسيلة المثالية لتحقيق التكامل الإقليمي. وفي هذا الإطار، فمن الجدير بالذكر إن الإكوادور هي إحدى الدول الأعضاء في «التحالف البوليفاري لشعوب قارتنا الأمريكية» والمعروف باسم (ألبا ALBA). وهو التحالف التجاري الذي أنشأته كل من فنزويلا وكوبا. إضافةً إلى أنها عضو أيضاً في «اتحاد دول أمريكا الجنوبية» الذي تشمل مجالات التعاون فيه القضايا والشؤون الإقليمية والعسكرية ويُعرف هذا الاتحاد اختصاراً باسم (UNAUSR).
ختاماً، فإنه لمن الجدير بالذكر أن كوريّا قام بإهداء نجاحه في الانتخابات الأخيرة إلى الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز قبل الرحيل المأساوي لهذا الزعيم البطل في شهر آذار الفائت.
عن موقع : «جلوبال ريسيرتش»