عمال «الريجي»: عقاب جماعي للإنتاج والعمال معاً
بعد سقوط سلطة النظام السابقة وإغلاق المؤسسة العامة للتبغ «الريجي»، واجه عمَّالها مصيراً معقَّداً جمع بين البطالة وسوء الأحوال المعيشية والاجتماعية بشكل كبير جداً. وما ذلك إلّا استمرارٌ لإرث طويل من التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولم يشفع للمؤسسة ولعمالها ذلك التاريخُ الطويل من العمل المساهِم في الاقتصاد الوطني، فامتداد تاريخ المؤسسة يعود لأكثر من قرن. وفي الثلاثينيات، وعلى امتداد العقد، شهدت البلاد صراعات حادة بين المعامل الوطنية والشركات الأجنبية المدعومة من الاحتلال الفرنسي في ذلك الحين. ورغم ذلك، استطاعت الشركة - «شركة حصر الدخان» - عبر سلسلة مستمرة من الإضرابات والنضال العمالي أن تساهم بمجمل النتائج التي حققتها القوى الوطنية حينذاك حتى الاستقلال.
في العام 1952، تم تأميم الشركة التي أصبحت مؤسسة عامة، وحافظت نسبياً على دورها شأنها شأن عمالها الذين حافظوا على وزنهم النوعي، والذي تجلى بمساهماتهم النضالية المطلبية والنقابية، ومنها إضراب أكثر من 2000 موظف في العام 1988 بسبب قيام الإدارات الفاسدة بتأخير أجورهم. وفي أعقاب سقوط السلطة البائدة، شهدت البلاد تحولات كبيرة وواضحة في التعاطي مع مسألة القطاع العام بمؤسساته وعمّاله، كان أبرزها الإجهاز على العديد من المؤسسات العامة الاحتكارية التقليدية بدل إنعاشها وإصلاح ما أفسده النهج السابق، ومنها «الريجي»، التي كانت تحتكر صناعة وتجارة التبغ والتنباك لعقود، لتُغلق المؤسسة فجأة، تاركة آلاف العمال دون مصدر رزق. هؤلاء العمال الذين كانوا يعملون في مصانع التبغ في دمشق، وحلب، وحمص، واللاذقية، وجدوا أنفسهم في مواجهة فراغ اقتصادي قاتل. لم تكن الريجي مجرد مكان للعمل، بل منظومة معيشية متكاملة من السكن العمالي والتأمين الصحي والتعاضد الاجتماعي المعبر عن وحدة الطبقة العاملة والسوريين، حتى أصبحت هوية مهنية متوارثة.
على قائمة الوعود الخادعة
الطامّة الكبرى تمثلت بفقدان الدخل بالنسبة للذين يعيشون على أجورهم التي بالكاد تغطي أساسيات المعيشة. ومع غياب أي تعويضات أو خطط إعادة تأهيل، تحولت البطالة إلى أزمة وجودية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فمحاولات إيجاد عمل بديل بالغة الصعوبة، والعمل الحر في أسواق التبغ غير المنظمة بائسٌ وغير قانوني ولا يؤمن الحماية أو الاستقرار. فيما لجأت نسبة منهم للهجرة الداخلية أو الخارجية بحثاً عن فرص بديلة حتى لو كانت غير إنسانية. كما أن النتائج لم تتوقف عند ذلك، فعمال الريجي كانوا من أكثر الفئات تنظيماً نقابياً في سوريا، ولهم تاريخ طويل من الاحتجاجات ضد سياسات الاحتكار والفساد. في الأربعينيات، شاركوا في مظاهرات نسائية ورجالية تطالب بحقوق البطالة والتعويضات، بدعم من الاتحاد النسائي العربي الوليد آنذاك. هذا الإرث النضالي عاد للظهور بعد سقوط السلطة، حيث بدأ العمال بتنظيم وقفات احتجاجية وإصدار العرائض والمطالبة بإعادة تشغيل المصانع تحت إدارة شعبية أو تعاونية. وطبعاً، وكمعظم الجهات الحكومية الأخرى ووعودها «الخلّبية»، لم تقدم للمؤسسة وعمالها حلولاً جذرية، إلا من بعض المبادرات التي حاولت تحويل مصانع الريجي إلى مشاريع صغيرة أو تعاونية، لكن غابت عنها الموارد والخبرة. كما أن غياب القرارات الاقتصادية الواضحة حالياً جعل من إعادة تشغيل القطاع أمراً أشبه بالمستحيل. في المقابل، تطورت شبكات تهريب وتجارة التبغ والدخان بشكل واضح، مستفيدة من الفراغ الناشئ.
قرارات خاصة بملكيات عامة
يعتبر ما وصلت إليه حالة المؤسسة وعمالها نموذجاً آخراً عن فشل الانتقال الاقتصادي في سوريا، الذي من المفترض أن يسير بعكس الاتجاهات السابقة التي أمرضت القطاع العام و«مصّت دمه» لتحويله لمركز نهب وفساد وخسارة مال عام، لا أنْ تسير السياسات الجديدة بما عجزت السلطة السابقة عن إنجازه بتصفية القطاع العام وحقوق عماله لمصلحة المستفيدين من تعطل الإنتاج الوطني وعجزه. وهؤلاء العمال ليسوا ضحايا انهيار لمؤسسة بعينها، بل لمنظومة اقتصادية بائسة متخبطة وغير مسؤولة، تضرب قطاعاً أساسياً في سورية له إرثه وجدواه الاقتصادية الكبيرة، وهو من القطاعات المتكاملة كون الزراعة والصناعة محلية بالكامل، مع خبرات بشرية هائلة لا تقدر بثمن. فكيف سمحت الجهات المسؤولة لنفسها أن تأخذ قراراً بعكس إرادة أصحاب الحق وأصحاب الوطن والملكية العامة ومصيرها؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250
يارا اللحام