تَعهُّدٌ وتعجيز وتطفيش بطعم التسريح
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

تَعهُّدٌ وتعجيز وتطفيش بطعم التسريح

ما زالت تداعيات أساليب التنفيذ لقرار الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية – شؤون مجلس الوزراء رقم 2533/ص في الفقرة الخاصة بإنهاء الإجازات المأجورة تتوالى، وذلك في ظل غياب الإجراءات التنفيذية الضابطة له، والتي من شأنها إلزام جميع الجهات الحكومية ليس بتنفيذه فحسب بل وبإجراءات وأسلوب هذا التنفيذ. فالالتفاف عليه من جهات عديدة ما زال مستمراً، وظهرت اختراعات واجتهادات لم يعد يصلح القول عنها بأنها بريئة أو موضوعية وتصب في الصالح العام للجهة الحكومية المصدرة له، بل يمكن القول إن وراء الأكمة ما وراءها، وإن القرار بحد ذاته لم يكن على قياسهم. فبعد كل تلك الأشهر والقرارات والسلوكيات التي شهدناها، نستطيع القول بأن الهدف منذ البداية وحتى اليوم لم يكن إلا إنهاء عمل أكبر وأوسع عدد ممكن من موظفي وعمال القطاع العام بشكل قانوني إذا أمكن ذلك، وتجاوزات قانونية إذا تعذَّر الخيار الأول، وبالتطفيش والتعجيز إذا لم يفلح الخياران الأوليان. وإن كان من الطبيعي في السابق أن نقول إنها قلة دراية وارتجال، فهذا لم يعد صالحاً اليوم فقد «ذاب الثلج وبان المرج».

منذ بداية صدور القرارات المجحفة والتعسفية والتي بدأت بمعظمها شفهياً أو عبر مجموعات «الواتس آب»، سواء الفصل أو عدم تجديد العقود والإجازات القسرية وغيرها، تلمَّس العاملون المتضررون من جملة هذه القرارات نوايا إنهاء عملهم وبأنه الهدف الأساسي وإن تعددت الذرائع والحجج، خاصة مع التمهيد المسبق بتصريحات شهيرة مثل الحديث عن «400 ألف موظف وهمي» وعن الموظفين الأشباح والترهل الوظيفي والفساد وإعادة الهيكلة والقطاع العام الإنتاجي الخاسر... وغيرها من التصريحات. وفعلياً قام العاملون بتقديم اعتراضات خطية وشفهية ومقابلات مع المسؤولين ثم حملات ونشاطات احتجاجية استمرت لأشهر عديدة قبل أن تنكفئ لاحقاً بعد التداعيات الأمنية التي حصلت في الساحل السوري. ولم تكن الاحتجاجات إلا إيماناً من العاملين بالهدف المبيَّت مسبقاً، لكنهم لجأوا للمسار الصحيح والمتعارف عليه، ومنعوا أنفسهم من الحكم على النوايا بل الأفعال، وسمعوا الوعود والعهود من هذا وذاك بدراسة واقعهم وعدم ظلمهم وبأنها مجرد إعادة هيكلة وتقييم ولن يُرمى بأحد إلى الطريق، والتغيير الحكومي قادم وستتم معالجة الملف جذريّاً...إلخ. ولكن الذي حصل هو تراجع عن قرارات من جهة هنا وجهة هناك، ثم صدور قرارات فصل جديدة لجهات أخرى، وبقيت الأمور تدور في مكانها حتى جاء القرار الأخير الصادر عن الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية والمتضمن بفقرته العاشرة إنهاء الإجازات المأجورة في جميع الجهات الحكومية دفعة واحدة وبتاريخ محدد بدءاً من 1-9-2025. وفعلاً التزمت جهات حكومية بالقرار وقامت بتنفيذه، في حين قامت جهات أخرى بالبحث عن حلول تعفيها منه.

بدايتُه تعهُّد، نهايتُه فصل أو استقالة

التعهُّد الخطي أول الاجتهادات غير القانونية التي قامت بها الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، حيث وصفه العمال بأنه «صك إذعان» كونه تحت التهديد بالفصل. ويبدو أن هذا التعهد أعجبت به جهات أخرى ومنها وزارة الاقتصاد والصناعة، فمديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك ومشاغل شركة الوسيم وغيرها من الجهات التابعة لها وضعوه شرطاً لتطبيق القرار وإنهاء الإجازات. ووجد العمال والموظفون أنفسهم في موقف جديد آخر لا يدرون ما يفعلون، وهذا ما ظهر جلياً في نقاشاتهم ومنشوراتهم ومراسلاتهم للنقابات والنقابيين والحقوقيين والإعلام، يسألون ويستفسرون: ماذا نفعل؟ هل نرفض فنُفصَل «من غير شي صوفتنا حمرا» أم نوقع ونضع أنفسنا في مجهول معروف مسبقاً؟ فبنود التعهد الخطي وطريقة صياغته مليئة بالألغام، فانطواء فحواه على «وضع نفسه تحت التصرف الكامل للجهة التابع لها والتعهد بالالتزام بتوجيهاتها وتعليماتها الإدارية النافذة تحت طائلة المسؤولية وفرض العقوبة القانونية، والموافقة على النقل لأي جهة عامة إذا اقتضت المصلحة العامة وفق تقديرات الإدارة المختصة، والتعهد بالموافقة على أي إجراء نقل تقوم به الجهة العامة وفق نص المادة 136 من قانون العاملين الأساسي 50»، مع اختتام التعهد الخطي بأن الموقع عليه يدرك أن أي مخالفة قانونية للأنظمة والتعليمات المكتوبة والمعلنة سابقاً وليس فقط لمضمون التعهد ستعرضه للمساءلة الإدارية والقانونية وفقاً للأنظمة واللوائح النافذة وطبقاً للإجراءات القانونية الواجبة... كلّ ذلك يجعل هامش الحرية الوحيد فيه يراوح ما بين العجز عن تطبيق ما تعهد به وما بين تقديم استقالته مكرهاً.

عمال نسيج جبلة والدفع باتجاه الاستقالة

من الأمثلة التي توضح طرق بعض الجهات بتعجيز العمال ما حصل مع آلاف عمال النسيج في جبلة، فبعد إنهاء الإجازة وطلب الدوام اليومي منهم، أوقفت المواصلات الخاصة بهم من وإلى معاملهم وشركاتهم بحجة تقنين النفقات. وهذا إجراء تعجيزي كون أجور المواصلات ستكلفهم رواتبهم إن لم نقل أكثر، فأغلبيتهم يسكن في مناطق ريفية بعيدة عن أماكن عملهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالزيادة لم تشملهم وفق المرسوم الخاص بالزيادة كونهم مصنفين مع أصحاب الإجازة المأجورة، وبالتالي لا تتجاوز رواتبهم 300 ألف ليرة. أضف على ذلك التأخر المتكرر بقبض رواتبهم. وبحسبة بسيطة تصبح الاستقالة الخيار الأقل شراً، وخياراً يتم دفعهم إليه دفعاً. وهذا إن حصل فهو يعني ضياع حق جديد يتمثل بأنهم في حال قدموا استقالتهم وأخذوا براءة ذمة، فراتبهم المسجل بالتأمينات الاجتماعية سيكون دون الزيادة المستحقة التي حرموا منها دون سبب حكيم. وهذا ما حصل أيضاً مع عمال القطاع النسيجي في دمشق وغيرها من المواقع والجهات والمديريات. وكأن المواصلات والنقل المؤمن للعمال إجراء ترفيهي أو مكافأة يمكن القفز فوقها. ويبدو بأن أصحاب القرار في تلك الجهات الحكومية يصرّون على إنهاء عمل أكبر عدد ممكن من العمال إمَّا لتوظيف أحد غيرهم، أو لتخفيف النفقات، أو للتماشي مع الخصخصة الموعودة التي يحلمون بها ليلاً ونهاراً.

إن استمرار التعاطي مع الطبقة العاملة بعقلية التاجر ورأس المال يُخرِج الحكومة من دورها المناط بها، ويجعلها تنحرف عن مهامها ومسؤولياتها الوطنية والاقتصادية الاجتماعية، وتتحول من راعٍ مسؤول عن رعيته لرب عمل «ما بشوف غير مصلحتو». هذا على فرض أنها بسياساتها هذه تلبي مصالحها، وهذا ما لا نظنه، فالبلاد اليوم أحوج ما تكون للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، والذي لا يتحقق بالإضرار بمصالح الطبقة الأوسع والأهم في البلاد والتي لطالما كانت ضامنة لوحدة سورية والسوريين. وليس من المنطق أن تطالب الحكومة بالوقت اللازم كي تفي بوعود التحسن المعيشي والخدمي، ولكنها ببضعة أسابيع وبعجالة وتسرُّع تتحفنا بقرارات تضرب فيها معيشة مئات آلاف العمال وعائلاتهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1243