الحوار العمالي النقابي الشامل مفتاح العودة
لا يختلف اثنان على أن وضع الطبقة العاملة في سورية لا يُسر صديقاً أو حليفاً أو نَصيراً، سواء في القطاع العام أو الخاص، وهذا ما ينعكس أيضاً على الحركة النقابية بأسرها والتنظيم النقابي ضمناً. وبما أن هذا الواقع الحالي للتنظيم النقابي ليس بجديد، وليس هناك من طروحات أو برامج أو معالجات في جعبته حتى الآن، فإن ذلك يجعله يحتاج لفعلٍ يُدبّ الحياة فيه، ويُلملم فوضاه، ويساعده على تخطي انتكاساته المستمرة ليستطيع ممارسة دوره الوظيفي. فالطبقة العاملة في هذه المرحلة بأمس الحاجة إلى تنظيم قادر على مواجهة الصعوبات والتحديات الكبرى والاستحقاقات الطبقية والوطنية الماثلة أمامه، والتي ستُفرض عليه في القادم من الأيام والأشهر والسنين. فانعدام الاستقرار العام في البلاد والمخاطر المحدقة بها من كل صوبٍ يجعل من الضروري مضاعفة الجهود والإسراع بتوحيد صفوف الطبقة العاملة من جهة، وردم الهوة بين العمال وتنظيمهم النقابي من جهة أخرى. وخير مفتاح لهذا الباب هو إطلاق حوار عمالي نقابي شامل وعام.
ما ضل حدا ما سبقنا
تعلّمنا من تاريخ الطبقة العاملة والحركة النقابية في سورية أن أفضل النتائج الإيجابية والمكاسب الكبرى والحقوق التي انتُزعت لم تتحقق إلا حين كانت النقابات صنيعة نضال عمالها الطبقي والوطني، وحين كانت جزءاً من الحراك السياسي والاجتماعي العام في البلاد، بل في قلبه الأكثر نشاطاً وفاعلية. ولم تتراجع إلا بفعل تراجع هذا الحراك والتضييق المستمر لمساحة الحريات، وبفعل هيمنة السلطة التي أدت في نهاية المطاف إلى اغتراب النقابات عن عمالها. وهذا هو الواقع الحالي. ورغم تغير الواقع الموضوعي بسقوط سلطة النظام البائد، وارتفاع النشاط السياسي، واتساع مساحة الحريات في البلاد، ما زال العامل الذاتي للتنظيم النقابي ينتمي للمرحلة السابقة، ولم يتكيّف أو يدخل معترك النشاط السياسي والاجتماعي الحاصل. فالعديد من الأحزاب وعشرات المنظمات الاجتماعية والأهلية انخرطت في العملية وبدأت بالتكيّف والاستفادة من الوضع الجديد، بعكس النقابات. حتى خلال الاحتجاجات العمالية التي خرجت في العديد من المحافظات السورية، لم يكن التنظيم النقابي جزءاً منها ولا من داعميها، في حين أعلنت العديد من الأحزاب والتجمعات المدنية والسياسية والأهلية تضامنها معها بل وشاركت بها أيضاً، مما وضع النقابات من جديد خارج العملية الجارية، وبالتالي دون تأثير أو فاعلية أو حضور (ما ضل حدا ما سبقنا).
عودة النقابات للحياة السياسية والاجتماعية
على مبدأ «إيد وحدة ما بتصفق» تأتي ضرورة الحوار لتفعيل العامل الذاتي وتمكين البنية وإعادة تنشيطها باتجاه دورها. لضمان نجاحه والوصول إلى الهدف منه، عليه أن يفتح على كل الجهات. فحوار الهيئات النقابية على اختلاف المستويات التنظيمية فيما بينها مهم ومفيد، كونه يساعد على تشكيل رؤية أكثر صواباً من الرؤية الأحادية، ويعزز وحدة المنظمة. وبالتوازي، يجب فتح قنوات الحوار المستمر مع العمال في كلا القطاعين العام والخاص، ومجموع الكوادر النقابية الخبيرة من المتقاعدين والمنظرين والإعلاميين المهتمين بالشأن العمالي والنقابي، وكذلك الاقتصاديين. أما الحوار مع القوى السياسية الفاعلة والاتحادات النقابية الأخرى، كغرف الصناعة والمحامين والمهندسين وغيرها، وتيارات المجتمع المدني والأهلي، فإنه يساعد على تحقيق أهداف عديدة، أهمها الحوار ذاته، كونه كان غائباً طوال عقود، مما جعله خارج ثقافة السوريين وممارساتهم. ولا بد من العودة إليه وجعله أداة للصراع والتفاهم في آنٍ معاً. وستكون مخرجاته أرضية مناسبة للانطلاق نحو الخطوات التالية، المشتقة من برنامج يكتسب عناصر ثرية مصدرها الحوار وتبادل الأفكار والأدوات. وهذا ما من شأنه رفع وزن الحركة النقابية وإعادتها للحياة السياسية والاجتماعية من جديد.
الحوار العمالي النقابي ضرورة وطنية
المعالجة المنطقية، فإن استمرار المنظمة العمالية في التقوقع والانعزال عن النشاط السياسي والاجتماعي المتصاعد يهدد وحدتها إذا ما طال أمده. فالطبيعة تأبى الفراغ، ولن ينتظرها الواقع المتغير. فإما أن تبادر للانفتاح على كل القوى وعلى الطبقة العاملة أولاً، لتعيد تكوين رؤيتها وبرنامجها النضالي، أو سيتشكل في ظل نشاط القوى العاملة كيانات أخرى كنتيجة حتمية للنشاط العمالي في الحياة السياسية العامة. وهذا ليس في صالح العمال أولاً وآخراً، ولكنه سيفرض عليهم موضوعياً إذا ما استمرت الأمور على حالها. ومن المخيف أن يتوهم القائمون على المنظمة العمالية بأنهم يستطيعون المضي قدماً دون حوار شامل وبشكل منفرد، بعيداً عن القوى العمالية الحية والقوى السياسية الفاعلة. فالبنية التنظيمية والفكرية للمنظمة لم يجرِ عليها التغيير الملائم للمرحلة الحالية من جهة، ولا تحظى بتأييد ورضا الطبقة العاملة من جهة أخرى، مما يجعلها محكومة بالحوار والمشاركة على قواعد ديمقراطية غير إقصائية أو أحادية. ويرتقي الحوار العمالي النقابي لمستوى الضرورة الوطنية، لأن الوضع الحالي يحتاج لتجاوز خطر التقسيم الجغرافي والاقتصادي والاجتماعي، وفرط عقد الوحدة الوطنية الجامعة. ولطالما كان دور الطبقة العاملة والحركة النقابية دوراً ريادياً في الحفاظ على الوحدة الوطنية، ليس على المستوى النظري أو الفكري فحسب، بل على المستوى العملي الملموس، والشواهد على ذلك كثيرة.
الدور يرفع الوزن والوزن يوسع التنظيم
إن الفائدة التي ستجنيها المنظمة العمالية بإطلاق الحوار عظيمة على كل المستويات والجوانب، كونها تلمّ الصدع القائم بينها وبين العمال، وتجعلهم شركاء حقيقيين في صناعة القرار وتحمل المسؤولية في آنٍ معاً، فتعزز وحدتهم فيما بينهم ووحدتهم معها، وتكتسب وزناً مؤثراً تحتاجه في معاركها الطبقية والاقتصادية والمعيشية والحقوقية والتشريعية، والتي ستزداد حدتها كلما مرت الأيام. وكذلك سيجعلها قادرة على توسيع صفوفها وقاعدتها الشعبية، خاصة في صفوف عمال القطاع الخاص كمّاً ونوعاً، والذين بغالبيتهم لا يعرفون أهمية النقابات، وجزء كبير منهم لم يسمع بها قط. وإن كان هناك سبب أساسي لعزوفهم عن الانتساب والانضمام للمنظمة في العقود الماضية، فهو غياب الوزن لغياب الدور والنتائج، ولعجزها عن انتزاع قناعات تحتاج لعناصر لا تتوفر في المنظمة العمالية اليوم. لكنها بإرثها وتاريخها وحجمها تمتلك عناصر نهضتها المستحقة منذ حين، ولا يظنّنَّ أحدٌ بأن هناك أسباباً موضوعية لعدم حصول ذلك، فكل ما يتطلبه الأمر هو قراءة الواقع كما هو، وتوفر الإرادة والقرار. وهذا تماماً ما سيوفره الحوار الشامل المطلوب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1222