عمال فقراء و«مضروبين بحجر كبير»
فرح عمار فرح عمار

عمال فقراء و«مضروبين بحجر كبير»

للوهلة الأولى سيبهرك أجر عامل درزة الخياطة إذا ما قارنتَه بالرقم الذي يتقاضاه موظَّف القطاع العام، وربما سيُحسَد عليه إنْ تفوَّه به هنا أو هناك. لكن هذه المقارنة خاطئة، فعليكَ يا صديقي أن تقارنه بالحد الأدنى من المعيشة لا بأجور لا تشبه الأجور بشيء، لماذا؟ لأنها لا تؤدي دورها المناط به ألا وهو تأمين الحد الأدنى من المعيشة الذي هو وحده القادر على تجديد قوة العمل أسوة بتجديد أيِّ سلعة أخرى. فرأس مال العامل قوّة عمله ورأس المال الذي لا يُجدَّد يموت.

قرّرْنا أن تكون زيارتنا الجديدة لاستهداف عامل من شريحة مختلفة عمّا تناولناه في مادة الخالة أم زاهر (في العدد السابق من قاسيون)، لنرصد الواقع المعيشي والاجتماعي لأحد عمال القطاع الخاص أصحاب الأجر «عالي الشأن» الأكثر قيمة من غيره، فتوجهنا لأحد معامل الخياطة في منطقة ببيلا لنتحدث مع نبيل، وهو عامل درزة خياطة محترف في العقد الرابع من عمره، وبعد السلام والكلام وكأس الشاي العمّالي الذي لا تشربه كل يوم، بادرنا بسؤاله «كيف مدبِّر حالك بهي الأيام الصعبة؟»

متضرّرون على كل الجبهات

يجيبا نبيل: «مضروبين بحجر كبير الله وكيلك، الوضع كتير سيِّئ ونحنا فعليا صار اسمنا فقراء. الراتب اللي عم آخدو ما بكفي مع أنو أحسن بكتير من رواتب عالم بعرفا، صحيح أنا باخد مليون ليرة بالأسبوع، بس الشغل كتير خافف ويا دوب وصل لهالرقم، لأن الألبسة متلا متل كتير شغلات بهالبلد عاكّة والصناعي اللي كان يقص ١٠٠٠ قطعة بالأسبوع يا دوب يوصل للـ ٥٠٠ قطعة، ومتل ما بتعرف إنو نحنا بنتحاسب على عدد القطع المنتَجة، يعني مربوطين بالإنتاج دائماً، فإذا ارتفعت الجمركة عالقماش أو الخيط أنا والشعب بناكلا على الجهتين؛ الأولى بخفّ الإنتاج وبالتالي شغلي، بيلحقو راتبي، والتانية كمستهلك لإنو ارتفع سعر القطعة، وهالشي عم يصير عطول وكل الناس متضررة منو، وعلى فكرة بس يخف الشغل بالمعمل معناتا عند الكل، وأكيد ما لح لاقي كم قطعة اشتغلها برا. ومتلي متايل. وعنا كمان مشكلة تغيير الموسم كمان منتضرر فيه كتير، وعادة بتكون بالشهر العاشر والثالث بصير الشغل طقطقة وتصفاية موسم بينما يبلش موسم جديد وهيك كل سنة... وما حدا بعوّضنا ولا ليرة، ودائماً كلمة وحدة (إذا ملاقي برا أحسن الله معك أنا ما بوقف وجهك). وطبيعي يحكوا هيك لأنو السوق مسعّر أجرتنا بهالحدود، فلو لقيت أحسن حيكون بنسبة قليلة مو مستاهلة نخسر الاستقرار والتعوّد على معمل والإدارة والبضاعة.

عجز معيشي بملايين الليرات

يضيف نبيل: «بحسبة بسيطة أنا بحصّل 4 ملايين بالشهر، وعندي زوجة وأولاد ومسؤوليات كبيرة كتير، فليضلّ البيت مفتوح بدّو فوق 9 مليون بالشهر، يعني أنا فعلياً عندي عجز بالشهر 5 ملايين، عندي أجار بيت ٨٠٠ ألف بالشهر ومواصلات كمان ٨٠٠ ألف، لأنو شوفة عينكم ما في مواصلات، يوم ما عبّوا مازوت، يوم ما عم يشتغلو ويبيعو المازوت لأنو مو موفية معهم، فأغلب الأحيان باخد تكسي سرفيس بـ 10 الف أو 15 ألف، يعني أنا باخد أكلي من البيت ورغم هيك مصروفي اليومي لحالي 50-60 ألف، وهلق الدنيا جاي عالشتوية والله يجيرنا من البرد، لأن أكيد 50 لتر اللي مسجلينا عالبطاقة الله وحده بيعلم إيمت ممكن يكون يومنا الأبيض وتجينا الرسالة يلي صارت حلم ومناسبة للاحتفال، وبالأساس لازم تكون مأمّنة والواحد ما يشغل بالو بالتفكير فيها، مع إنن مستحيل يكفّوني شهر، وخاصة إنو مرتي حامل وعندي تكاليف الولادة، وكل شهر تقريباً بيبعتلي أخي من تركيا مليون ونص بتسند شوي، وبالمناسبة أخي متلي خياط بس هو متل أغلب هالشباب اختار طريقو برا البلد والحمد الله رزقتو منيحة، والشغل بالخياطة بتركيا منيح كتير. بس بتعرفي شو بضلّني شاغل تفكيري دائماً إنو الخيار اللي أخدتو من وقت بلّشت هالأزمة الملعونة إني ضلّ بالبلد صح ولّا غلط؟ يومها كنت قول بإيدي مصلحة بتقصّ دهب، والخياطة بهالبلد شو ما صار حتضل منيحة، بس اللي صار إنو ما بقا قصّت تَنَك، وما بقت منيحة، وكل يوم أسوأ من اللي قبلو. وبعد هالصّبر كلّو مو معقول هلّق فكّر بالسفر. أنا شايف الفَرَج قريب وناطرين هالفرج».
بسؤالنا لعامل القطاع الخاص عن واقع العمل بشكل عام وعن نقابات العمال، تبيَّنَ أنه لا يعلم أنّ هناك نقابة تمثله، والمفترض أنها تشكل حماية لحقوق العاملين والرقابة على كل ما يتعلق بمصالح العمال، كالمطالبة بالأجور العادلة والطبابة والحقوق القانونية وظروف العمل الآمنة. واستغربَ كيف لا يعلم بكلّ ذلك وبأنّ هناك صندوق رعاية اجتماعية وغيرها من الخدمات، وأخبرنا بلجوئه للجمعيات الخيرية لتخفيف تكاليف الولادة والطبابة والأدوية، وبأنه بدأت منذ سنة تقريباً ظهور أعراض أمراض المهنة كأوجاع الظهر وتراجع البصر والسمع، ووصفها ضاحكاً بأعراض شيخوخة مبكرة.

أسئلة برسم الحكومة والنقابات

من الطبيعي أنْ تستوقفنا مشاعر النّدم التي عبّر عنها نبيل لبقائه بالبلد رغم كل الظروف التي كانت تتدهور كل يوم، كما استوقفَنَا إيمانُه بالفرج القريب. وهنا نسأل من جديد من يضحّي بكلّ هذه الطاقات الشابّة الوطنية المنتجة والأصيلة؟ ومتى ستنتهج الحكومات نهجاً يستثمر بها ويحافظ عليها؟ أليست هذه الكفاءات المهنية التي بقيت، والتي يجري تطفيشها أسوة بالكفاءات العلمية، هي مصدر الثروة الأساس لهذه البلاد؟ ألم يَئِنِ الآوانُ لانتهاجِ مسلكٍ ومسارٍ وبرنامجٍ آخرَ غير الذي مضينا به من عقود لعلّنا ننجو بالبلاد وبالعباد من انهيارٍ كامل وقريب؟
ومن الطبيعي أيضاً أن نسأل النقابات بشكل عام ونقابة الغزل والنسيج بشكل خاص أين أنتم؟ لماذا أنتم غائبون في القطاع الخاص المنظَّم وغير المنظَّم، غائبون حتى عن الذكر والمعرفة؟ أين مندوبو النقابات المفترض وجودهم في كل المناطق والتجمعات المهنية؟ أليسوا بحاجة لكم كما أنّكم بحاجة لهم كي تَقْوَوْا بهم كما يَقْوَوْنَ بكم؟ ألا تستحقّ هذه الشرائح العمّالية اهتماماً ومتابعة؟ أمْ أنستْكم عقودُ الليبرالية القاتلة دورَكم العظيم الذي اُؤْتُمِنْتُم عليه من الأجداد المناضلين؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1201