نظرية ماركس في الاغتراب (1)

نظرية ماركس في الاغتراب (1)

أساس ظاهرة الاغتراب التي نظّر لها كارل ماركس، يكمن في استغلال طبقةٍ لطبقة أخرى، حيث يقوم مالك وسائل الإنتاج بسلب الإنسان المُنتِج منتوجَ عمله ويتصرّف به. وهذا غير ممكن إلا بوجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وهكذا نجد رجال الأعمال (الرأسماليين) يسرقون العمّال، والإقطاعيين يسرقون الفلاحين، والأسياد يسرقون العبيد. وباختصار، تاريخ الاغتراب/الاستلاب هو تاريخ المجتمع الطبقي.

وهكذا يبين كارل ماركس في مرحلة باكرة من نظريته عن الاغتراب كما ظهرت بدايةً في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 بأنّ الاغتراب يتجلّى أساساً في أن «تُسلَبُ من العامل تلك الأشياء التي يحتاجها بشدّة ليس فقط من أجل الحياة بل من أجل العمل أيضاً... فالموضوع الذي ينتجه العمل، أي منتوج العمل، يقف ضدّ العامل مثل شيء غريب عنه، كقوة مستقلة عن المُنتِج» والحياة التي وهبها العامل لموضوع عمله تواجهه «كشيء عدواني وغريب». ولذلك يطلق على الاغتراب أيضاً تسمية الاستلاب.

الاغتراب والقيمة الزائدة

عندما أخذ ماركس على عاتقه دراسة الاقتصاد السياسي، وتطويره ثورياً إلى علم حقيقي في «رأس المال»، نضجت أكثر نظريته عن الاغتراب ليقدّم البرهان العِلمي عليها عن طريق تحليله للبضاعة، واكتشافه لقانون الرأسمالية الاقتصادي الأساسي، أي قانون القيمة الزائدة، وهي القيمة التي يخلقها عمل العامل المأجور زيادةً عن قيمة قوّة عمله، ويستولي عليها الرأسمالي بلا مقابل؛ أي القيمة التي يستلبها الرأسمالي من العامل، ويغرِّبها عنه.
فالإنتاج البضاعي إذن بحد ذاته هو عملية «اغتراب» بالمفهوم الماركسي، ونجد فيه وحدة متناقضين: 1 – تجسّد موضوعي للعمل البشري: أيْ لمجهود العامل في منتوج قابل للاستعمال (القيمة الاستعمالية(. 2 - استلاب العمل البشري: لأنّه سَلْب العمل الزائد من العمال، وسَلبُهم منتوجَهم لبيعه وشرائه (تبادله) في السوق كقيمة بضاعية (كقيمة).
والاغتراب هو حالة تاريخية ملازمة للملكية الخاصة، ولذلك فهو ليس خاصاً بالرأسمالية بل يجري أيضاً في التشكيلتين الطبقيتين السابقتين لها (الإقطاعية والعبودية). فالاغتراب بالمحصلة هو استلاب العمل الزائد وكما أوضح ماركس في المجلد الأول من رأس المال فإنّ «رأس المال لم يخترع العمل الزائد. ففي كل مكان حيثما يمتلك قسم من المجتمع احتكار وسائل الإنتاج يتوجب على العامل، الحر أم غير الحر، أن يضم إلى وقت العمل الضروري من أجل إعالة نفسه، وقت عمل فائضاً لكي ينتج وسائل المعيشة لمالك وسائل الإنتاج».

الاغتراب وتقسيم العمل

لكن الاغتراب الرأسمالي له خصوصياته مع ذلك، ولا يعود ذلك لسببٍ «تكنولوجيّ» بحت أو لتقسيم العملية الإنتاجية إلى مراحل بحدّ ذاتها، بل بسبب الطبيعة الخاصة للتقسيم الاجتماعي للعمل الرأسمالي الذي، وكقاعدة عامّة، لا يملك فيه العامل حرّية اختيار أيّ المراحل بالتحديد يحبّ أن ينجزها، أو حتى نوع العمل والمهنة ككل التي يريدها، كما أن العامل في الرأسمالية لا يملك القرار فيما إذا كان منتوجٌ معيَّن يجب أن يُنتَجَ أصلاً وما هي مواصفاته (هل هو ضارّ أم نافع من وجهة نظر الطبقة العاملة والتقدّم الإنسانيّ؟ عدا عن الترفيّات الفاخرة التي ينتجها ولا يستطيع أن يتذوّق منها شيئاً فتبقى غريبةً عنه وهو غريبٌ عنها). فكثيراً ما يُجبَر العامل على أيّ عمل كان كي لا يموت جوعاً.
وبهذه المعاني تبرز مسألة عدم الرضا النفسي للعامل في نمط الإنتاج الرأسمالي، في اختلافٍ حتى عن الإقطاعية عندما كان الحرفيّ أو الفلّاح يمكنه أنْ ينتج منتوجاً كاملاً (من أوّله إلى آخره) وكان ما يزال يتمتّع بدرجةٍ ما من «الرضا» و«تحقيق الذات» في عمله، رغم معاناته آنذاك كمُنتِجٍ أيضاً من اقتطاع (تغريب) جزءٍ من ناتج عمله عنه (بشكل ريع للإقطاعي مثلاً). وبهذا تكون للاغتراب الرأسمالي خصوصيّته الأعمق والأقسى.
وبحسب نظرية ماركس في الاغتراب يمكن تمييز خصائص للاغتراب الرأسمالي أهمّها ما يلي...
أولاً: يخلق تبادل البضائع الوهم بأنّ البضائع لها صفات بشرية اجتماعية، وتنعكس العلاقات بين الأشياء في وعي الناس بشكلٍ مشوّه وكأنّها علاقات اجتماعية بين البشر، وهذا ما سمّاه ماركس في «رأس المال» بـ «الصنمية البضاعية» واكتشف ماركس سرّها في أنّ المنتجين يواجهون في بضائعهم العمل البشري بشكل عام متجرّداً عن سمات الأعمال الخاصة بمنتجيها وشخوصهم، على عكس الاغتراب الإقطاعي مثلاً حيث العلاقات الاجتماعية للأشخاص في عملهم تظهر ببساطة ووضوح كعلاقات شخصية لهم بالذات، فالعمل الزائد الذي يقوم به الفلاح في أرض الإقطاعي، يُستَلب منه لمصلحة هذا الأخير ولكن وفق علاقة شخصية مكشوفة لكل من طرفيها بوضوح لا يكتنفه ذلك الغموض الذي يلفّ البضائع في السوق. وبالطبع يكون «الصنم الأكبر» هو بضاعة البضائع، أي المال.
ثانياً: في الرأسمالية يصل الإنتاج البضاعي إلى ذروة تطوّره، وبما أنّ العمل المأجور، كما يقول ماركس، لا ينتج بضائعَ فقط، بل ينتج نفسَه والعاملَ كبضاعة، وقانون العرض والطلب يتحكم بإنتاج البشر تماماً مثل أيّة بضاعة أخرى، نرى كيف يتعمّق الاغتراب ويصبح مأساة بشرية شاملة لأنّ العامل بوصفه رأسَ مالٍ حيّاً هو صنف خاصّ من البضاعة ابتُليَتْ بكونها رأسَ مالٍ ذا حاجات. وهذا يعني أنّ حاجاته يمكن أن تُشبَع بالقدر الذي يتناسب فقط مع إسهامها بتراكم الثّروة، أي بتراكم رأس مال غريب.
وحتى الرأسمالي نفسه يصيبه الاغتراب لأنّه، وكما أوضح ماركس في المجلد الأول من رأس المال: «بصفته رأسمالياً ما هو إلا رأسمال مشخَّص.. ولكن ليس لدى الرأسمال سوى رغبة حياتية واحدة وحيدة هي الرغبة في الازدياد، في خلق القيمة الزائدة... إنّ الرأسمال عمل ميت لا ينتعش، مثله مثل مصاص الدماء، إلا عندما يمتص العمل الحي».
والمشكلة أنّ هذه الرغبة هي من جهة نوع من التعطش الذي لا يرتوي بالنسبة للرأسمالي، ولذلك لا مانع لدى النظام الرأسمالي أمام التعطش للأرباح في دفع الاقتصاد لإنتاج قيم استعمالية لمجرّد أن تكون حاملاً مادياً للقيمة التبادلية، بغض النظر عمّا إذا كان المنتوج مفيداً أم ضاراً للإنسان، فالهدف الوحيد هو تغريبه (بيعه وشراؤه)، إنتاجه واستهلاكه، حتى لو كان سمّاً قاتلاً أو تلوثاً أو سلاحاً للجريمة أو قُبحاً أو فنّاً هابطاً...إلخ. وبالتالي فإنّ الاستلاب الرأسمالي يخلق عند جميع البشر رغبات لا ترتوي وحاجات استهلاك وشهوات لا-إنسانية. يخلق الجشع والأنانية، حتى أننا نجد هذا الواقع ينعكس في الوعي الاجتماعي كما في المثل الشعبي القائل «ابن آدم لا يملأ عينه غير التراب» وهو نوع من التعبير عن الوهم الشعبي بأنّ اغتراب الإنسان قَدَرٌ سيلازمه إلى الأبد، بينما تعتقد النظرية الماركسية بأنّه حالة مؤقّتة في التاريخ سوف يتمّ تجاوزها والانعتاق منها. وفي الحقيقة لم تخلُ التعبيرات الشعبية أيضاً من حسّ تقدّمي عفوي ينطق بهذه الفكرة، ويمكننا أن نتذكر مثلاً جملة من كلمات سيّد حجاب في أغنية المسلسل المصري «المال والبنون» 1992: «قالوا الشيطان قادر وله ألف صورة، قلنا ما يقدر على اللي خيرو لغيرو». فمن هو الذي خَيرُه لغيره، أليس البروليتاريّ المُستَلَب؟
ثالثاً: يتميز الاستلاب الرأسمالي أيضاً بأنّه يخلق شروط تجاوز الاستلاب (أي الانعتاق من الاغتراب) كما سنرى...

لقراءة الجزء الثاني من المقال: ( نظرية ماركس في الاغتراب (2 )

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1176
آخر تعديل على الثلاثاء, 04 حزيران/يونيو 2024 12:44