يعتبر حالو عم يتبرع بحق بيجامتين...

يعتبر حالو عم يتبرع بحق بيجامتين...

حالفني الحظ هذه المرة بأن أكون مع زملاء هند في زيارتهم لها بعد نكسة صحية خطيرة جداً، ولكنني لا أعلم هل فعلاً حالفني الحظ بهذه الزيارة، أم أنه كان ضدي؟ وذلك بسبب ما رأيته وما سمعته خلال هذه الزيارة....

نزحت هند مع أهلها من محافظة درعا هاربين من وحشية الحرب ومأساتها إلى منطقة صحنايا، لعلهم يجدون الأمان الذي كانوا يبحثون عنه طوال فترة إقامتهم في مسقط رأسهم في ظل القصف والقتل والتدمير. حاملين معهم الرعب والخوف والصدمات التي تعرضوا لها خلال تلك الفترة الكئيبة. لينجوا فعلاً من ويلات الحرب العسكرية ليصطدموا بخطورة الواقع الاقتصادي والمعيشي متعرضين في ذلك إلى موت من نوع آخر أشد فتكاً وألماً وعذاباً من الموت بسبب رصاصة طائشة أو قذيفة دبابة وإلخ.
تتألف عائلة هند من ثمانية أفراد نزحوا كاملهم ماعدا الأب الذي ظل في بيته خوفاً من السرقة والتعفيش وللحفاظ على ما تبقى من ممتلكاته وتعبه وشقاء عمره، وكما ذكرت سابقاً فهم الآن في مدينة صحنايا منذ قرابة خمس سنوات على حد قول هند. تسكن هند الآن مع أخواتها الأربعة بالإضافة إلى أخيهم الأكبر الذي اصطدم بواقع مخيف بسبب المسؤوليات الجديدة المترتبة عليه، فهو الآن مسؤول عن خمس إناث في ظل الأوضاع المعيشية المأساوية، وفعلاً ظل ما يقارب السنة وهو الوحيد الذي يعمل في البيت سعياً منه لتأمين ما يمكن تأمينه من تكاليف المعيشة، إلا أن الظروف كانت ضد هذه العائلة البائسة، فقد ازدادت الأوضاع سوءاً وازدادت تكاليف المعيشة ارتفاعاً وارتفاعاً، حتى اضطرت هند وأخواتها الأربعة للخروج إلى سوق العمل لمساعدة أخيهم قدر المستطاع فالحمل أصبح لا يمكن تحمله. وكغيرها من الفتيات تعمل هند براتب شهري يكاد يكون معدوماً بسبب الأفضلية للذكور في سوق العمل المحلي، ولكن ما يميزها عن معظم الفتيات هو أنها تعاني من سوء تغذية شديد، وفقر دم مزمن، وكان جسمها النحيل وتجاعيد وجهها وشحوبه تعبيراً عن كل ما عانته هند سابقاً بسبب مآسي الحرب وأشد تعبيراً عما زالت تعانيه بسبب العوز المعيشي والفقر المدقع الذي تعيش في ظله.

لما يزيد الطين بلة...

منذ لحظات قدومها الأولى إلى مدينة صحنايا كانت هند بحاجة ضرورية ومستعجلة لإجراء عملية بسبب وضعها الصحي المؤسف، وظلت تؤجل هذه العملية إلى قرابة خمس سنوات معتمدة في ذلك على مدى قدرة تحمل جسدها من جهة، وعلى الأدوية باهظة الثمن والمعالجة المؤقتة التي لا تزيد الوضع إلا سوءاً مضاعفاً مع مرور الوقت بدون إجراء هذه العملية، وكيف لها أن تجريها؟ فتكلفة العملية تفوق قدرتها وقدرة العائلة بأكملها.
علماً أن هند تعمل بأحد المعامل المختصة بتصنيع الألبسة الموجودة في منطقة الكسوة، وتحديداً تعمل في قسم الأمبلاج والتغليف، براتب لا يتجاوز 225,000 ليرة شهرياً، 40% من هذه الليرات القليلة تذهب فوراً لتكاليف المواصلات، إضافة إلى ذلك توجد تكاليف الأدوية التي تقدر شهرياً بحوالي 90,000 ليرة بدون احتساب تكاليف التحاليل والفحوصات الدورية، ناهيك أيضاً عن المساهمة بالمصروف الشهري الذي يرسله الإخوة الخمسة إلى أبيهم الموجود في درعا، ولنا أن نتخيل لماذا عمدت هند إلى التأجيل القسري للعملية التي تقدر تكلفتها بما يزيد عن مليون ليرة، وإذا ما قررت هند أن تقوم بتجميع هذه التكلفة من راتبها الشهري، وبعد اقتطاع تكاليف المواصلات البالغة 90,000 ليرة فإنها بحاجة إلى ما يزيد عن سنة كاملة لتأمين تكلفة العملية وذلك بغض النظر عن تكاليف الأدوية وتكاليف الأكل والشرب ومصروف أبيها طوال هذه السنة...

لو كنت مكنة ما تخلو عني...

لسوء حظ هند فإن الجسم البشري غير قادر على التحمل مدى الحياة، فمنذ قرابة أسبوع تعرضت لنكسة خطيرة، كان لا بد من التدخل الجراحي بأقصى سرعة ممكنة نظراً لخطورة الموقف ووصوله إلى تهديد حياة هند المهددة أساساً بكل شيء. وعند لجوئها إلى رب عملها من أجل التكفل بالعملية أو على الأقل المساهمة بجزء من تكاليفها، ما كان من رب العمل وبفطرته الربحية إلا أن التقط آلته الحاسبة لحساب ما سيترتب عليه هذا الأمر وبناء على نتائجه اتخذ القرار الحكيم من وجهة نظره، وهو صرف هند إلى المنزل ومنحها إجازة مرضية بدون راتب، ضارباً عرض الحائط كل ما يمكن ضربه من أخلاق إنسانية، وبعد رفضه القاطع بمنحها المبلغ أو جزء منه، طالبت هند بسلفة على راتبها تقوم بسدادها بشكل شهري، ليكون جوابه (راتبك كلو 225,000 ليرة، شلون بدك تعطيني هي المليون؟؟) لتقول لنا متعجبة من هول الموقف لو كنت مكنة ما تخلو عني، لك يعتبرني مكنة وعطلت وبدها قطعة غيار، يعتبر حالو اتبرع ببجامتين لوجه الله، كل يوم بحط الباركود ع البجامات والكنزات أقل بيجاما بسعروها 250,000 ألف أكتر من راتبي. هذه العبارات التي تختزل حالة الطبقة العاملة بالمجمل، فرب العمل نرجسي وأناني بطبعه فهو حريص كل الحرص على مكناته وآلاته وأرباحه، أما العمال فيوجد بدل العامل ألف؟؟

ما بحن ع العود إلا قشره...

لطالما كان ما يجمع العمال والكادحين على مر التاريخ ذاك الظرف الطبقي ذاك الرابط الذي يكاد يشبه رابط الدم والعائلة، فما يشترك به العمال في هذه الأيام من عوزِ وفقرِ وبؤسِ وصل إلى أشد مستوياته، ومشان هيك ما بحن ع العود إلا قشره.
فمن قام بمساعدة هند هم زملاؤها أنفسهم، عند سماعهم بما قاله وقرره رب العمل هبوا بدون تردد وقاموا بجمع المبلغ من عرقهم وتعبهم، منهم ما تبرع ب 50,000 ليرة مفضلاً هند عن ثمن علبتين دواء لأمه، وذلك الذي قدم 75,000 ليرة ناسياً علب الحليب لأطفاله، وذاك من قدم 100,000 ليرة كان يصمدها من أجل دفع قسط الروضة لابنته وغيرهم من تخلى عن أكله وشربه وأدويته ومصروف عائلته من أجل أن يقدم ويساهم في إنقاذ هند من هذه النكسة المهددة لحياتها.

الخلاصة..

إن ما وصلت إليه هند وغيرها الكثير من أبناء الطبقة العاملة من وضع مأساوي بكل ما تحمله الكلمة من معنى هو بسبب تلك السياسات اللليبرالية المتوحشة التي اتبعها المتحكمون والمتنفذون في هذا البلد، وما نتج عنها من تراكم ثروة مرعب بأيدي قلة قليلة على حساب 90% من الشعب المنهوب والمسروق الذي بات يعيش تحت خط الفقر المدقع. فتكاليف المعيشة اليوم تزيد في حدها الأدنى عن 2,500,000 ليرة شهرياً، بالمقابل الحد الأدنى للأجور لا يزال 92,790 ليرة فقط لا غير، إضافة إلى كل ذلك فإن سياسات إلغاء الدعم ورفع الأسعار مستمرة بسرعة لم تشهد البلاد مثلها إطلاقاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1109