ترف اختيار المهنة

ترف اختيار المهنة

كان وما زال اختيار المهنة لأي منّا– في ظل سيادة النظام الرأسمالي– ترفاً، قلة قليلة قادرة على ممارسته. وذلك لعدة أسباب منها مادية اقتصادية محضة، ومنها لأسباب اجتماعية واعتبارية، إضافة إلى أسباب فرعية أخرى. ولكن في كل الأحوال، إن هذا الحق الطبيعي لأي منا أصبح ترفاً بسبب العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة منذ بدايات نشوء المجتمعات الطبقية، وعملت المنظومة الرأسمالية على تعزيزها أكثر وأكثر بما يخدم مصالحها الاستغلالية والربحية.

نذكر اقتباساً لكارل ماركس من أحد مقالاته أيام كان طالباً جامعياً تحت عنوان «أفكار شاب قبل اختياره مهنته» يقول ماركس: «إننا لا نستطيع دائماً أن نتخذ لأنفسنا المهنة التي نشعر أنها تناسبنا، فعلاقاتنا في المجتمع تبدأ في التبلور بهذا القدر أو ذاك قبل أن نكون في موقف يمكننا من تقرير هذه العلاقات» هكذا تبدو اللمحة الأولى لأفكار ماركس وانتمائه للطبقة العاملة، وكأن هذه الأفكار تشبه شعلة نار متوهجة ومشتعلة في عمق البحر، هذه الأفكار التي كان تطويرها وإتمامها واستكمالها خدمة أبدية أداها ماركس للإنسانية.
وبما أن الطبقة العاملة السورية تعيش في ظل سيادة أكثر نماذج الرأسمالية تشوهاً، والتي يصبح فيها الحصول على أية مهنة سواء تناسبنا أولا تناسبنا بحد ذاته ترفاً أيضاً، نحاول في هذا المقال إسقاط ما قاله ماركس قبل ما يقارب 200 عام على واقع الشباب السوري وما يتعرض له من ضغوط اقتصادية واجتماعية تقف بينه– كسد منيع أوله في الأرض آخره في السماء– وبين المهنة التي تناسبه وتتوافق مع قدراته وإمكاناته.

الطب أسمى المجالات المهنية

لا يختلف الأمر كثيراً بطريقة التعامل مع مهنة الطب في المجتمع عن طريقة التعامل مع الأرض، إلا أنه أكثر تطوراً ووعياً، علماً أن بعض الأطباء اضطروا لدراسة هذا الاختصاص والعمل به تلبية منهم لرغبات أهلهم بما يحققه هذا الاختصاص من مكانة اعتبارية في المجتمع إضافة إلى المردود المادي.
محمد من سكان مدينة زاكية التابعة لمنطقة الكسوة، وهو طالب مستنفد وصل إلى السنة الرابعة في كلية الطب البشري ولم يعد قادراً على الاستمرار في هذا الاختصاص فاستنفد فرصه في متابعة دراسته، وأصبح غير قادر على الخروج من مدينته بسبب انتهاء تأجيل الخدمة الإلزامية.
يقول محمد وهو أصغر إخوته إن جميع إخوته درسوا الطب بمختلف الاختصاصات وذلك تلبية لرغبة والدهم الصارم، الذي يجد في هذا الشيء فخراً أمام المجتمع، فهو أصبح يسمى بأبي الأطباء ضمن محيطه المجتمعي، إلا أن محمد لم يرغب في دراسة الطب، علماً أنه يجد نفسه بعيداً كل البعد عن هذه المهنة بمختلف اختصاصاتها، وكان يرغب بدراسة الهندسة المعلوماتية نظراً لقدراته الذهنية والفنية في هذا المجال، إلا أنه عند الإفصاح بهذه الرغبة بدأ يتعرض إلى كل أساليب القمع الناعمة والقاسية سواء عبر الإقناع أو الإجبار أو السخرية منه ومن رغبته، وفعلاً بدأ بدراسة الطب البشري رغماً عنه، إلى أن وصلت به الحال إلى الاستنفاد وفقدان أية فرصة في إتمامه الدراسي والتعليمي، وها هو الآن جالس في البيت يتخذ من حاسبه الشخصي ملجأً من كل التلميحات والتصريحات والهمسات واللمزات التي يمكن أن يتعرض لها من محيطه، فاقداً فرصة عمل قد يبدع بها على الصعيد الشخصي والجماعي.

المرأة والسلطة الأسرية

تتعرض المرأة في مجتمعنا– إلى الآن– من مجمل الضغوط والتحكم والسيطرة الأسرية بشتى وسائلها وأشكالها، فتوجد بعض الإناث غير قادرات حتى على الإفصاح عن رغباتهن خوفاً من عوائلهن، سواء كانت هذه الرغبة مهنية أو علمية أو أياً كانت هذه الرغبة، وحتى أنه في أحسن الأحوال يكاد يكون السماح لها بالدراسة والتعلم هو فضل كبير تقدمه العائلة لابنتهم. ولكن قصتنا فيما يخص هذه الفقرة أخف تأثيراً على حياة الآنسة ولاء. ولاء من سكان مدينة داريا، وهي أصغر إخوتها تدرس اختصاص الصيدلة علماً أنها انتهت من دراسة خمس السنوات ولكن مع الأسف رسبت في الامتحان الوطني. وتقول إنها رافضة لهذا الاختصاص كلياً إلا أنها وضعت أمام خيارين أحلاهما مرّ إما أن تدرس الصيدلة أو ألّا تدرس، ما اضطرها إلى دراسة اختصاص هي ليس فقط لا ترغبه، بل حتى أنها تكرهه فعلاً، ولكن السلطة الأسرية لها رأي آخر. ترغب ولاء على حد تعبيرها بالدراسة والعمل باختصاص إدارة الأعمال، إلا أن السلطة الأسرية حددت مسبقاً أنه لا عمل ولا دراسة إلا ضمن اختصاص الصيدلة، وهي الآن لا تعمل أبداً، وتهدر قوة عمل إضافية، يمكن الاستفادة منها بأقصى ما يمكن في ظل الأوضاع الوطنية الاقتصادية المؤسفة.

الخلاصة

ما تم ذكره سابقاً هو غيض من فيض ما يعاني منه الشباب السوري اليوم، فإضافة إلى كل ذلك فإن الحكومات تعزز كل هذه التناقضات التي تساهم في اغتراب الفرد عن عائلته، وتسعى إلى تفكيك كل ما يمكن تفكيكه بالمعنى الاجتماعي، سعياً منها لاستغلال هذه التناقضات بالمعنى الربحي والاستغلالي، فبدلاً من استثمار قوى العمل المهدورة في المطارح الإنتاجية، والاستفادة منها بما يخدم المصالح الوطنية وهي تطوير القوى العاملة علمياً ومهنياً، تعمل النخب الحاكمة على مضاعفة هذا الهدر بالقوى البشرية مما يؤدي إلى خسارتها، سواء بالهجرة نحو الخارج كما هو جار الآن أو بزيادة معدلات البطالة وارتفاعها إلى نسب مخيفة مما يجعل تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي السياسية وخيمة، وما يتبع ذلك من اختلال ظروف السوق بالضد من مصالح قوة العمل الجمعية بمختلف الاختصاصات، علماً أن معدلات استغلال الطبقة العاملة المتبقية في المطارح الإنتاجية وصلت إلى حدود لا يمكن تصورها فإن الحد الأدنى للأجور ما زال يقارب 92,000 ليرة في حين أن الحد الأدنى المطلوب للمعيشة تجاوز 2,000,000، وهذا ما يدفع معظم القوة العاملة للجوء إلى فرص عمل بعيدة عن رغباتهم وإمكاناتهم، فإضافة إلى الضغوط الخاصة التي يتعرض لها الشباب السوري، يتعرضون إلى ضغوط إضافية لها طابع اقتصادي تلعب دوراً أساسياً في اختيار المهنة المناسبة، فمن لم يجد بيئة داعمة له في اختيار مهنته المفترضة التي تحقق له مستقبله، حكماً سيتعرض إلى ما هو أشد من ذلك وهو الضغط المادي والاقتصادي، وذلك ما يدعم هجرة هذه العقول والقوى العاملة إلى الدول الغربية بحثاً منهم عن بيئة عمل يحققون ذاتهم من خلالها ويخدمون بها المجتمع وبذلك يكون الوطن قد خسر تلك القوى الضرورية لتطوره المادي والروحي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1103
آخر تعديل على الثلاثاء, 03 كانون2/يناير 2023 18:29