الطبقة العاملة من الانزياح الجغرافي إلى الانزياح المهني
تتنوع أساليب قهر وتدمير الطبقة العاملة، وبالإضافة إلى تدميرها اقتصادياً واجتماعياً عبر سياسات الأجور المتدنية غير المتناسبة والواقع المعيشي، ابتدعت الحكومات المتعاقبة أساليب إضافية أكثر تدميراً بالمعنى الاجتماعي وأعلى فقراً بالمعنى الاقتصادي. علماً أن سياسات هذه الحكومات متناسبة طردياً مع الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية، حيث كلما اشتدت الأزمات الاقتصادية على المستوى العالمي اشتدت سياساتها نهباً ووحشيةً، وخصوصاً بعد سلسلة القرارات التي صدرت في الأسابيع الماضية من رفع أسعار المشتقات النفطية والربط الإلكتروني الحكومي مع معظم الأنشطة الاقتصادية من أجل الرقابة (المراقبة) على الأعمال بمختلف أشكالها كأدوات نهب إضافية تملأ جيوب النهابين أكثر وأكثر، وغيرها من القرارات التي تصب في نفس الاتجاه. علماً أن هذه النخب المالية تتعامل مع الأزمات من هذا النوع وكأنها فرص ثمينة لرفع وتيرة النهب والسرقة بغض النظر عن التهديدات المباشرة وغير المباشرة لهذه الأزمات على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستوى الوطني. فبدلاً من تخفيف آثار هذه الأزمات، تعمق هذه الحكومات تأثير الوضع العالمي على البلاد، معرضة الشعب إلى ضغوط قاسية خارجية وضغوط داخلية أشد قسوةً، فهي مستعدة للتضحية بكل شيء مقابل عدم التضحية بأرباحها.
ونتيجة لمجمل هذه السياسات والقرارات التي لم يعد أي عقل بشري قادراً على استيعابها في ظل هذه الأوضاع العالمية والإقليمية ومدى انعكاسها على الصعيد الوطني، فإذا كانت تبعات هذه التوجهات العامة قبل بضع سنوات شديدة السوء بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي، فإن الاستمرار بها وتعميقها والتأكيد عليها في ظل هذه المتغيرات الجديدة من شأنه أن ينهي وجود الطبقة العاملة– بالمعنى الحرفي للكلمة– ليس فقط كطبقة اجتماعية بالمعنى الاجتماعي وإنما على صعيد الأفراد بحد ذاتهم وبقائهم على قيد الحياة.
أما عن تبعات الاستمرار بهذه السياسات فهي عميقة وجذرية جداً سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الاجتماعية، علماً أن الفعاليات والأنشطة الاقتصادية بدأت بالتوقف وتصفية الأعمال وإغلاقها بالكامل سواء القطاع الخاص أو العام، وبالتالي تسريح بالجملة لأعداد هائلة من العمال والكادحين وجعلهم يدخلون في ملحمة مع الواقع المعيشي مجردين من أي مصدر دخل مهما صغر حجمه، يعوضون من خلاله ما يعوضون من احتياجاتهم ومحددات بقائهم. وبناء على ما سبق نوضح أحد الجوانب الخاص بالإجراءات اليومية التي يلجأ إليها هؤلاء العمال بحثاً منهم عن مصدر دخل بديل. وذلك من خلال لقائنا مع أحد العمال المهنيين الذي اضطر إلى الانزياح المهني باتجاه الوظائف والشواغر الخدمية التي لا تمثله ولا تعبر عنه لا من قريب ولا من بعيد.
التقينا بالشاب محمد وهو أحد العاملين السابقين في أحد المعامل الموجودة في داريا، والذي اضطر صاحب المعمل للتوقف عن العمل بشكل شبه كلي نتيجة لانعدام المشتقات النفطية بسبب ارتفاع أسعارها المخيف بالسوق السوداء، قبل أسبوعين كان يعمل محمد في هذا المعمل بسكب المعادن وصناعة القوالب، علماً أن راتبه الشهري في هذا المعمل بلغ حوالي 700,000 ليرة، يواجه بها هو وعائلته المؤلفة من ثلاثة أفراد الصعوبات المعيشية، علماً أن الحد الأدنى للمعيشة يقدر بحوالي ما يزيد عن 2,000,000 شهرياً. ونتيجة لتوقف المعمل بشكل شبه كلي، اختفى مصدر دخل محمد، أصبح مجرداً من أي وسيلة تستره هو وعائلته على حد قوله، الأمر الذي اضطره إلى البحث عن فرص عمل أخرى، بعيدة أو قريبة عمّا يبرع به، ونظراَ لاشتداد أوضاع محمد الاقتصادية وتدهورها، لم يصبر أكثر من أسبوعين بدون عمل فقد أثقلت الديون كاهله في هذه الفترة، الأمر الذي جعله يتشبث بأية فرصة عمل يستطيع من خلالها الحصول على بضع ليرات تسنده في هذه المعركة غير المتكافئة.
يعمل محمد الآن في أحد المقاهي الموجودة في مدينة صحنايا، والشاغر الذي حصل عليه هو «صبي نارة». وبالإضافة إلى نوعية العمل الجديدة، وإضافة إلى اغترابه عمّا هو قادر على فعله، يتقاضى في عمله الحالي أجرة أسبوعية 75,000 ليرة أي شهرياً 300,000 ليرة، ويضيف محمد أن أجور هذه الوظيفة متدنية نظراً إلى أن العامل بها يعتمد بشكل أكبر على البخشيش والإكراميات من الزبائن، ولكن محمد ونظراً لهذا الواقع الجديد الذي يتعرض له، لم يستطع قبول هذه الفكرة فهي تتعارض مع كرامته وقيمه على حد قوله، ولكنه أضاف إذا ما بقي الوضع على حاله فسيكون مضطراً إلى التضحية بكل هذه القيم والمبادئ في سبيل حصوله على بضع ليرات إضافية، علماً أنه في أحسن الأحوال فإن إجمالي الدخل الذي يمكن أن يحصل عليه محمد يقدر بحوال 450,000 إلى 550,000 في أحسن الأحوال، وبالتالي فقد تراكمت خساراته أكثر وأكثر، فإذا كان قادراً على تغطية حوالي 28% فقط من قوة عمله، أصبح الآن بالكاد قادراً على تغطية ما يقارب 18% فقط لا غير من محددات بقائه.
بناء على كل ما سبق وإضافة إلى الانزياح الجغرافي الذي يلجأ إليه العمال بحثاً عن فرص عمل قريبة على مكان سكنهم بسبب أزمات المواصلات والنقل، متخلّين أيضاً عن مجمل المكتسبات والمزايا (والتي ليس لها فائدة جوهرية) التي حصلوا عليها بسبب الأقدمية أو مراكمة الخبرات في وظائفهم السابقة، بات الانزياح المهني باتجاه الانزياح الخدمي أحد الأساليب المتعددة التي يلجأ إليها كادحو الطبقة العاملة بسبب ما خلّفته القوى المتنفّذة بالبلد من قهر اقتصادي وبؤس اجتماعي، نتيجة إصرارها على سياساتها التي تصب فقط في مصلحتها ضاربة بعرض الحائط أي اعتبار وطني. ولكن لا بد من التذكير أن الأزمات العميقة في مركز الرأسمال المالي، أصبحت أشد عمقاً وانعكساً على رأسمالية دول الأطراف. وما هذا التوحش واللهاث المضاعف وراء مراكمة الأرباح إلا أحد المؤشرات التي تدل على أن هذه النخب تعيش أكثر أيامها خطورةً وباتت واعية فعلياً إلى أن الأفق انغلق أمامها بشكل شبه كلي وأصبح مفتوحاً أمام الشعوب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1102