وائل منذر وائل منذر

عمال الساحات... شو جابرك عَ المُر؟! الأَمرّ منّو!!

لعبت السياسات الحكومية ما قبل الأزمة دوراً أساسياً في موجات الهجرة لأعداد متزايدة من طالبي العمل من الأرياف إلى المدن السورية ومراكزها، وخاصة من المناطق التي يعتمد سكانها بشكل رئيس على الزراعة في تأمين متطلباتهم المعيشية، حين عملت على رفع أسعار المشتقات النفطية وخاصةً مادة المازوت، التي يعتمد عليها الفلاحون في كافة تفاصيل أعمال الزراعة، والتي أصبحت كلفتها عالية ولم تعد الزراعة «تجيب همّها» كما يُقال.

هذا الأمر دفع أعداداً متزايدة من الفلاحين إلى هجرة أراضيهم والتوجه نحو المدن للعمل فيها، وأغلبهم كان يفترش الساحات الرئيسة بانتظار فرج الله عليه ليأتيه زبون ويطلبه للعمل بأعمال الترحيل أو أعمال الحمل والتنزيل، وهؤلاء العمال وعائلاتهم يعيشون يوماً بيوم. أي: يوم يعمل يأكل، ويوم لا عمل فيه يصبح الأكل فيه صعوبة، وهم ما زالوا على هذه الحال بل تطورت أوضاعهم نحو الأسوأ في موجات الهجرة اللاحقة بسبب الأعمال العسكرية في مناطقهم واضطرارهم للقبول بأدنى مستويات العيش، فهم يعيشون في بيوت غير جاهزة للسكن وليس فيها الحد الأدنى من شروط الحياة الكريمة، ولكن ما العمل وليس في اليد حيله حيث يقول المثل: «شو جابرك عالمر؟ قال الأمرّ منّو..»

الأمَرّ من جعلهم يعيشون هذه الأوضاع

الأمَرّ هو من جعلهم يعيشون هذه الأوضاع المزرية ويتحملون قسوة الحياة ومرارتها، فمن السهل على المار من الساحة الرئيسة في مدينة السويداء أن يلاحظ العدد الكبير من عمال البناء وهم يخاطرون يومياً بحياتهم من أجل توفير قوتهم اليومي، وتلبية احتياجات ومتطلبات ذويهم. «لم أختر عملي هذا حيث وجدت نفسي مجبراً على العمل في كافة أعمال البناء للحصول على المال من أجل إعالة أسرتي» بهذه الكلمات بدأ الشاب العشريني عدنان يروي معاناته ومعاناة الآلاف مثله من عمال البناء في سورية الذين يشيدون أبراجاً شاهقة بظهور منحنية.

ماذا يقول العمال؟

يقول عدنان: أعمل على جبّالة باطون «عملي غير ثابت وفي أيام كثيرة لا أعمل، والأصعب أن العمل مرهق وسبب لي الكثير من المشاكل الصحية، وعلى الرغم من ذلك لا أستطيع ترك العمل والاستراحة في المنزل». عدنان الذي لم يكمل دراسته لغاية إعالة أسرته يقول: إنه بدأ هذه المهنة منذ أن كان في العاشرة من عمره من خلال القيام ببعض الأعمال الخفيفة حتى اشتد عوده ليقف على جبّالة الباطون التي تحتاج إلى خبرة ومجهود كبيرين.
سعيد صاحب البشرة السمراء من فرط التعرض للشمس يقول: إن حلمه لا يتجاوز الحصول على أربعة آلاف ليرة سورية يومياً، ويمضي قائلاً: إنه أثناء مباشرة عمله تكون فرصة ضياع أجره اليومي واردة جداً، كون لديه الكثير من المشاكل الصحية، فتارة يشتد عليه السعال ومرات يجد نفسه غير قادر على النهوض، لكن لا بديل أمامه سوى الاستراحة قليلاً في موقع العمل ثم العودة مجدداً لممارسة مهامه، لقمة العيش مرة مخلوطة بدم «الله يلعن أبو عيشة الفقير»، ينادي صقر زملاءه العمال في ورشة نجارة الباطون لتناول الطعام وأخذ قسط من الراحة، وخلال هذه الراحة القصيرة يفترش العمال بعض أوراق الجرائد على الأرض ويتناولون أكلة شعبية قليلة التكلفة، سندويشات الفلافل ويتجاذبون في ما بينهم أطراف الحديث عن الحكايات والمواقف المضحكة. وبعد تناول الطعام يحصل كل عامل على كوب شاي يستعيد به طاقته للعودة إلى العمل، رغم كل الظروف المحيطة التي قد لا تساعدهم على العمل بشكل آمن.

الأمان المفقود

شعور عدم الأمان يرافق هؤلاء العمال المياومين، كون عمال البناء ليسوا مثل غيرهم من العمال الدائمين في المصانع الحكومية والشركات الخاصة، فهؤلاء عمال اليوم الواحد، وليس في مقدورهم أن يُضربوا عن العمل يوماً إذا ما استغل صاحب العمل مجهودهم أو لم يعطهم حقهم كاملاً، وإذا تعرض أحدهم لحادث أثناء العمل فلا تأمين على حياته، كما أنهم لا يحصلون على أية معاشات تقاعد كما يقول حمزة الذي يبلغ من العمر 32 عاماً، وهو أب لطفلين بنت وولد سقط من الدور الأول في إحدى العمارات فكسرت ذراعه وتوقف عن العمل لمدة 3 أشهر يقول: «إن جسده حتى الآن متأثرٌ بالكسر» مضيفاً: «صحتي هي رأس مالي، وفي حال مرضي فإن أبنائي لا يجدون أي مال».

عامل من طينة آخرى

أما ناصر، فهو طالب جامعي بكلية الرياضيات، ظروفه المادية لم تسمح له بمتابعة الدراسة فقام بتوقيف التسجيل في كليته، واضطر إلى العمل كحارس بناء قيد الإنشاء وعامل بناء في نفس الوقت كما يشرك أحد أخوته الأربعة معه في العمل. ومع اقتراب غروب الشمس يذهب حسين إلى سوق الخضار «الحسبة» لعله يجد فرصة عمل مربحة إلى حدٍ ما في تنزيل سيارات الخضار القادمة من محافظة درعا، يقول حسين : «أنا أعمل في السوق منذ عشرة سنين في تحميل وتنزيل الخضار وجميع من في السوق يعرفوني، لدي مشكلة في الفقرات القطنية من عمودي الفقري تستوجب الراحة وعدم حمل الأوزان الثقيلة، مراجعة الأطباء وأسعار الأدوية تحتاج شغل لحالها، ولكن عندي كوم لحم لازم يأكل ويشرب ومو ذنبي أنو ظهري شبه مكسور الله بيعين أحسن شي» لا تنتهي المعاناة بانتهاء ذلك اليوم، بل تتجدد رحلة أخرى نحو البحث عن عمل جديد للغد، حيث يجلس البعض منهم في سوق الحسبة في انتظار من يطلبهم لشغل جديد، تحميل وتنزيل سيارات الخضار القادمة إلى السوق، وفي ذات الوقت يتجاذبون الحديث وإلى جانبهم أكواب الشاي. يقترب اليوم من النهاية فيرحل كل منهم إلى بيته ساكناً إلى الراحة، منتظراً شروق يوم عمل جديد. عمال الساحات وأعمال البناء هم ضحايا السياسات الاقتصادية الحكومية التي دمرت الزراعة بشكل ممنهج أدى لهجرة عدد كبير من الفلاحين شكلوا أحزمة البؤس والفقر حول المدن في جميع المحافظات، وشغلوا ساحاتها بحثاً عن عملٍ يقيهم من جوع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
921
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2019 14:59