المرأة العاملة بين مطرقة الحرب وسندان العيش الكريم
وائل منذر وائل منذر

المرأة العاملة بين مطرقة الحرب وسندان العيش الكريم

العاملة السوريّة تعرّضت لأهوال الحرب ثمّ التهجير ورحلة النزوح القاسية لتصل في النهاية إلى بيئةٍ جديدةٍ تبدأ فيها حياتها من الصفر، وكأنّها ولدت للتوّ ولكن ليست كصفحةٍ بيضاءَ بل صفحةٍ معبّأةٍ بالذكريات السيّئة عن حربٍ تركت أثرها في جسدها وبنيتها النفسيّة وواقعها الاقتصادي الاجتماعيّ وعلى الرغم من هذا كلّه لم تستسلم بل دفعتها إرادة الحياة إلى العمل وتحدّي الأخطار والمشكلات.

المرأة العاملة النازحة تعدّ من أكثر الفئات تضرّراً. فهي تختلف عنهم بحجم المسؤوليّات التي أُلقيت على كاهلها بعد النزوح، ولا سيّما أنّ معظم النساء النازحات نزحن عن ديارهنّ من دون مرافقٍ أو معيل. فها هي المرأة النازحة اليوم تدخل ميدان العمل، وتتحمّل مسؤوليّة الأسرة بشكلٍ كامل، حيث أصبحت تقوم بواجباتها كأمٍّ وفي الوقت ذاته تمارس دور الأب المعيل، هذا بالنسبة إلى المرأة الأمّ. أمّا المرأة غير المتزوجة فهي الأخرى تعاني من مشكلاتٍ كثيرة على رأسها مشكلة انعدام فرص العمل.
لقد دخلت المرأة السوريّة النازحة سوق العمل، وهي غالباً ما نزحت عن بيئةٍ اجتماعيّةٍ تقسّم العمل وفق الجنس، فتحصر العمل خارج المنزل بالرجل، بينما هي تتولّى رعاية أسرتها وإدارة شؤون المنزل. ففي بعض المناطق لا يقف الأمر عند تقسيم الأعمال بل يتجاوزها إلى رفض عمل المرأة خارج المنزل. إلّا أنّه بعد النزوح اختلفت ظروف المرأة السوريّة فمعظم النساء أصبحن من دون معيل وإن وجد المعيل فغالباً لا يمكنه العمل، إمّا بسبب إصابته جرّاء الحرب، أو لعدم توفّر فرص عمل في منطقة الإقامة فضلاً عن ازدياد أعباء الحياة المعيشيّة ونفاد المدّخرات خلال ستّ سنواتٍ من الحرب. هذا كلّه دفع المرأة إلى سوق العمل لتأمين معيشة أسرتها وسدّ الفراغ الحاصل عن غياب المعيل أو عدم قدرته على تأمين فرصة عمل.
لكنّ دخول المرأة النازحة إلى سوق العمل كان محفوفاً بالمشكلات والصعوبات، وأهمّها:
زيادة الأعباء على المرأة العاملة: فالمرأة النازحة في ظلّ ظروفها المادية الصعبة ازداد حجم مسؤوليّاتها، وأصبحت ترزح تحت وطأة أعباءٍ إضافية، فمهمّتها لم تعد محصورةً داخل المنزل (أعمال المنزل ورعاية الأطفال وتعليمهم وإدارة شؤون البيت…) بل تجاوزتها إلى مسؤوليّاتٍ أخرى، فهي اليوم تعمل خارج المنزل وتعود إليه لتقوم بواجباتها التقليديّة تجاهه.
رصد الآثار السلبية الناجمة عن التهجير على المرأة العاملة قابلت «قاسيون» مجموعة من النساء العاملات اللواتي لديهم معيل.
قُلن: إنّ الزوج لا يساعد في أعمال المنزل ولا يزال يرى أنّ هذه الأعمال موكلةٌ إلى المرأة على الرغم من مساعدتها إيّاه في تأمين مصروف الأسرة، وأحياناً هي التي تتكفّل بمصروف الأسرة كلّه بينما يكون الزوج عاطلاً عن العمل.
أمّ حسين: «أنا متعبةٌ جدّاً أبقى واقفةً من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة الثانية بعد الظهر، أبيع الخبز في الأزقّة ثمّ أعود إلى منزلي لأطبخ لأطفالي وأقوم بواجباتي المنزليّة بمفردي، بينما زوجي عندما يأتي من عمله يبقى يحتسي الشاي ويدخّن فهو يرى أنّ ما أقوم به هو واجبي أنا وحدي وليس من واجباته».
وهناك بعض النازحات شعرن أنّ الزوج بدأ بتقبّل واقعهن الجديد، كنساءٍ عاملاتٍ، وأخذوا يساعدهن في أعمال المنزل وتربية الأطفال.
وقد لاحظت قاسيون: أن معظم النساء السوريّات اللواتي نزحن إلى المناطق الأكثر أمناً لا يملكن خبراتٍ في العمل، نتيجة عدم تقبّل مجتمعاتهنّ التي نزحن عنها لفكرة عمل المرأة خارج المنزل، إضافةً إلى عدم حيازة معظمهنّ مؤهّلاتٍ أو شهاداتٍ علميّةً تمكّنهم من الحصول على أعمالٍ ذات شروطٍ أفضل. فأخذت الأعمال التي مارسنها طابع الصعوبة والإجهاد، وفي بعض الأحيان كانت أعمالاً «مهينة». فالمرأة التي تزاول مهنة تنظيف البيوت لا يزال المجتمع التقليديّ يطلق عليها اسم «خادمة»، وهي مهنةٌ لا يزال ينظر إليها الموروث الشعبيّ والاجتماعيّ على أنّها مهنةٌ «وضيعة». وقد تدرّجت الأعمال في مجملها بين أعمال التنظيف وبيع الخبز وبيع الملابس المستعملة وبيع المعونات على الأرصفة أو العمل في المحالّ التجاريّة أو المطاعم. ونتيجة حاجة هؤلاء النسوة تعرّض بعضهنّ في سوق العمل إلى مستوى عالٍ من الاستغلال، من حيث زيادة ساعات العمل والأجور المتدنّية وفي بعض الأحيان التحرّش الجنسيّ.
صفاء، تقول: «أذهب إلى محلّات «البالة» (الملابس الأوروبيّة المستعملة) وأشتري بعض الملابس الرجاليّة حصراً لأنّي لا أرغب في بيع الملابس للنساء لأنّهنّ يناقشن كثيراً في الأسعار، بينما الرجال يشترون منّي دون عناء وأقوم بغسل وكوي البالة المستعملة فتبدو كالملابس الجديدة بل أفضل. إلّا أنّني أثناء عملي تعرّضت إلى تحرّشٍ لفظيّ».
وبعض النساء نقلن عملهنّ في المطبخ، ليكون عملهنّ خارج البيت، وقد استفدن من خبرتهنّ في الطبخ فنقلن بعض المأكولات من بيئتهنّ الأصليّة إلى البيئة المستحدثة. كما عادت بعض النازحات إلى وظائفهنّ قبل نزوحهنّ، وهنّ ممّن يملكن مؤهّلاتٍ علميّةً أو استطعن أن يخرجن معهنّ عند النزوح وثائق وشهادات تؤكّد خبرتهنّ أو تحصيلهنّ العلميّ.
هذه الظروف وغيرها أثّرت على الصحّة النفسيّة لتلك الأسر، ولا سيّما المرأة الأمّ التي تتحمّل الجزء الأكبر في هذه المعاناة، كونها مسؤولةً عن أمن أسرتها وتأمين لقمة العيش لها، وتربية الأطفال وضبط سلوكهم، وتعليمهم والحرص الممزوج بالخوف على مستقبلهم. كلّ هذا زاد من الأعباء الملقاة على عاتق المرأة؛ فهي مسؤولةٌ خارج منزلها وداخله من دون معينٍ لها غالباً، وهو ما أدّى في بعض الأحيان إلى أمراضٍ اجتماعيّةٍ أصابت تلك الأسر.
تقول أمّ عامر: «منذ ثماني سنواتٍ ونحن نعاني من الحصار والقتل والتهجير ومن ذلك الوقت وأنا لا أفكّر في ذاتي ولا في سعادتي ولا أهتمّ بلباسي ومظهري. ما يشغلني هو متى نعود وكلّ شيءٍ مؤجّلٌ إلى أن يتحقّق ذلك».
والأطفال غالباً ما يعانون من عدم شعورٍ بالأمان ومن الاضطراب والقلق والنوم غير المنتظم، ما يولّد لديهم كثيراً من المشكلات النفسيّة، ويتّضح ذلك في انخفاض مستواهم التعليميّ وعدم قدرتهم على تكوين شبكة علاقاتٍ في الوسط الجديد.
. تقول أمّ عامر: أعمل خلف بسطة خضار «لديّ خمسة أطفال ولدّان وثلاث بناتٍ تتدرّج أعمارهم بين تسع سنواتٍ وخمس عشرة سنة. أبو عامر دائم العصبيّة والتذمّر ويقوم بتعنيف الأطفال ويضربهم ضرباً مبرّحاً لأنّهم يتعاركون بشكلٍ دائمٍ ويتراجعون في المدرسة. ومعظم مشكلاتي أنا وزوجي مردّها تربية الأطفال ومشكلاتهم، فهو يردّ فشلهم وسوء تربيتهم إلى تقصيرٍ منّي، بينما أرى أنّني أقوم بواجباتي نحوهم، ولكن على ما يبدو أنّ الأمر أصبح فوق استطاعتي، ولم أعد قادرةً على ضبط سلوكهم. الآن ازداد التوتّر والعنف داخل البيت كثيراً عند الأولاد وعند زوجي، وأنا أحياناً أجد نفسي أجاريهم بهذا السلوك من دون أن أنتبه إلى نفسي. في الحقيقة صار الوضع لا يطاق».

معلومات إضافية

العدد رقم:
918