نقاش أولي لقضية التقاعد المبكر

يجري الحديث بأن مشروع قانون التقاعد المبكر قد أرسل إلى رئاسة مجلس الوزراء والتي سترسله بدورها إلى مجلس الشعب لإصداره كقانون يعمل به، وحسب التقاليد المعمول بها حتى الآن، فإن السلطة التشريعية  التي ستصدر القانون، تجري مناقشات كثيرة أو قليلة، ولكن النتيجة كما نعرفها جميعاً هي واضحة. ونحن برأينا أنه من المفيد مناقشة هذا القانون، بشكل هادئ ورصين وحيادي.

نعرف جميعاً أن الهدف من صدور القانون هو تبديل اليد العاملة القديمة بيد عاملة جديدة، بهدف التخفيف من حدة البطالة المتفاقمة، ويهدف القانون إلى إحالة حوالي 300 ألف عامل على التقاعد وتشغيل 200 ألف عامل تقريبـــاً محلهم، وكلفة هذه العملية سنوياً هي 23 مليـــار ليرة سورية، وأعلنت مؤسسة التأمينات الاجتماعية أنها عاجزة عن تأمينهم وسيوقعها هذا القانون إذا نفذ بإرباك شديد.

كما أن مسودة القانون حصرت المشمولين به من عمال الفئة الخامسة والرابعة والثالثة، ويقال إن مجلس الوزراء قد أضاف عمال الفئة الثانية وبقيت الفئة الأولى مستثناة منه وهم خريجو الجامعات وكوادر الدرجة الأولى في الحكومة الوزارات والمؤسسات والمعامل. وتشكل هذه الفئة القسم الأهم من البيروقراطية والطفيلية، وهذه الفئة هي التي تعرقل أو توقف تنفيذ القرارات والقوانين والمراسيم الصادرة عن الهيئات المسوؤلة أي أن فئة النهب الموجودة في المؤسسات قد استثناها القانون من التقاعد المبكر، وعلينا أن نؤكد هنا أن عدداً كبيراً من البيروقراطيين الكبار لم يشملهم قانون التقاعد العادي، الإحالة على المعاش في سن الستين، قد عادوا إلى مؤسساتهم بعقود جديدة، وبرواتب مضاعفة وصلاحيات لا تسمح بأن يتعرض لهم، قد يكونون فقدوا المركز ولكنهم أبقوا على دورهم في النهب.

طبعاً هذا الكلام لا يشمل جميع عمال الفئة الأولى. فلدينا عدد واسع وكبير جدا من الكوادر التي نفتخر بهم ويفتخر بهم الوطن، ولكن قوى النهب موجودة ضمن هذه الفئة، وهي التي أوصلت قطاعنا العام إلى هذه الحالة، وهي التي تحاول تدمير المؤسسات القائمة، وهي نفسها التي أفشلت التجربة في الاتحاد السوفييتي، ومصر، ومهمتها الآن الانقضاض على ماتبقى من الفريسة، وهي التي منعت شمول الفئة الأولى بمشروع قانون التقاعد المبكر.

إن العمال الآخرين هم العمال الذين ظلموا فعلاً في الوطن، لقد ظلمتهم الحكومات المتعاقبة. فالقانون سيشمل من مضى على عمله عشرون عاماً، أي من دخل العمل أعوام 83 ـ 84. هؤلاء بـــدأوا العمل قبل الأزمة الاقتصادية التي أخذت تجتاح البـــلاد منذ عـــام 1986، وجـــاءت برامج كل الحلول بالخروج من الأزمة على حسابهم، فقد تراجعت قدراتهم الشرائية مرات كثيرة عما كانت عليه في بدء التعيين، وحتى الآن فإن القيمة الشرائية لرواتبهم لم تتعد 25% من القيمة الشرائية لرواتبهم عند بدء التعيين. ولم يسمح لمن استطاع منهم تأمين فرصة عمل أفضل بأن يخرج من مكان عمله، ولم يسمح لهؤلاء ولنقاباتهم بممارسة أي شكل من نشاط احتجاجي، وهؤلاء العمال أيضاً قد تأثروا بالفساد بشكل مباشر، وهم من أبُعد أبناؤهم عن التعليم الجامعي بسبب سياسات القبول المخططة، وهم من أبعد أبناؤهم عن التوظيف بسبب توقف التنمية وهي أي هذه الشرائح التي ستطرد الآن من العمل مقابل 75% من الراتب مع العلم أن 100% من الراتب والتعويضات لا تكفي لحياة لائقة باعتراف الجميع بمن فيهم السلطة التنفيذية والقيادات المختلفة، أي أن هؤلاء الثلاثمائة ألف عامل هم أكثر من تعرض للاضطهاد في تاريخ سورية الحديث، فلماذا هذا الموقف منهم؟

أما العامل الجديد الذي سيدخل للعمل فإنه سينال راتباً بعد التعيين أي نصف الراتب الذي كان يناله العامل المبعد عن العمل، هذا الراتب غير كاف لسد أي حاجة من حاجاته الأساسية، وهكذا فإن المبعدين عن العمل سيتراجع وضعهم المعاشي المتراجع أصلاً. والداخلون الجدد سينالون رواتب غير كافية لبناء أو استئجار غرفة سكن بالقطاع الخاص….إلخ.

ومقابل هذا الواقع السيئ الذي سيعيش فيه 500 ألف عامل ستدفع الدولة 23 مليار ليرة سورية سنوياً. وهذه المليارات التي ستدفعها مؤسسة التأمينات الاجتماعية بحيث تصبح عاجزة عن تنفيذ أي زيادة للرواتب التي وعدت بها الحكومة والرئاسة لتخفيف الهوة بين الأجور والأسعار، وبذلك ستظهر مشكلة جديدة، حيث ستصبح رواتب المتقاعدين غير كافية مطلقاً للحياة، ولشراء اللباس والأدوية، إن هنالك كارثة اجتماعية أخرى تشمل حوالي 700 إلى 800 ألف متقاعد.

عبر هذا التصور، وهو واقعي إلى حد كبير لنتائج القرار. لذلك علينا أن نبحث لماذا هذا القرار، وعلى أي مرتكز يستند وما هي البدائل؟

هذا القرار هو جزء من نسيج قرارات أخرى متسرعة فرضتها عقلية موجودة في الدولة، تحاول الخروج المؤقت من الواقع القائم دون النظر في تأثيراته اللاحقة، وهي تنفرد في إصداره، أي لا يناقش على المستوى الوطني، ولا تقدم  الأفكار البديلة، لمناقشة الأفضل وهذا ما لاحظناه في المرسوم رقم 6 الذي ابعد عن التوظيف. والاجتماعات التي جرت ضده، وأيضاً قرار العطلة الأسبوعية بيومين دون البحث بالشكل الأنجح لتنفيذه مما أوقع الجميع في إرباك كان من الممكن تفاديه وغيرها من القرارات المعروفة لدينا جميعاً.

وهو يستند إلى عقلية رأسمالية، أي أنه لا يبحث في النتائج الاجتماعية الكارثية الناجمة عن تنفيذ مثل هذه القرارات، وهو بذلك يتناقض بين القطاع العام والتوجه الحكومي المضاد لهذا القطاع كبنية اجتماعية لها معان وتوجهات وأهمية، وهل هناك بدائل؟ نزعم أن هناك بدائل، أهمها العودة للتنمية، فإن أحد أسباب الزيادة الكارثية في نسبة البطالة هو توقف الدولة عن التنمية، أولا أن والتوقف عن بناء مؤسسات إنتاجية مختلفة، وحصر هذا العمل بيد القطاع الخاص عبر القانون رقم 10 الذي لم يؤد إلا إلى زيادة النهب، ولم يستطع أن يتابع التنمية ولا أن يمتص جزءاً من البطالة الموجودة. والحل إذن في قوة الدولة للتنمية بمشاركة وطنية شاملة، أي أن يعاد البحث في بناء مشاريع متوسطة ومربحة على أن يشارك في هذا العمل الحكومة والنقابات المختلفة والمصارف الحكومية والمؤسسات المختلفة وتشجيع الأهالي على المشاركة مقابل ضمان الدولة لهم بنسبة ربح مغر وهذا ممكن.

فإذا اعتبرنا أن تشغيل العامل يتطلب 20 ألف ليرة سورية، فإننا نقول أن 23 مليار سورية الكمية التي ستذهب كرواتب غير كافية للعمال المبعدين عن العمل تحت اسم التقاعد المبكر، تؤمن ثلاثة وعشرين ألف فرصة عمل. وسمعنا أن صراعاً حاداً دار في مؤتمر المهندسين حول تنفيذ فندق سياحي بكلفة ثلاثة عشر مليار ليرة سورية بسبب استفادة أحد المتنفذين، وإذا  عدنا للأموال المجمدة في باقي النقابات المهنية والعمالية نرى أن أموالاً هائلة يمكن أن تستثمر وتنعكس أرباحاً كبيرة وعائدات إ ضافية  للنقابات، ولو أننا استثمرنا ـ وهذا ممكن أن يتم  اليوم ـ الأرصدة المجمدة لدى البنوك لبناء مشاريع إنتاجية لتحسنت عائدات هذه البنوك وإذا أشركنا المواطنين بمشاريع  مشتركة مع الدولة فسنجد أننا قادرون على استيعاب مابين (150 إلى 200 ألف) يد عاملة جديدة سنوياً، وقادرون على تأمين زيادات جدية للعاملين بدلاً من أن تهرب هذه الأموال إلى الخارج أو البنوك بسبب تخفيض الفائدة العقارية كما جرى لمليارات الليرات السورية التي سحبت من البنوك بسبب تخفيض الفائدة إلى نسب غير مقبولة.

السؤال: هل هناك معامل رابحة، ومنشآت مضمونة؟ نعتقد أن الجواب الأكيد هو نعم بشرط تأمين الأجواء الديمقراطية القادرة على الحد من الفساد والنهب وتأمين إدارات جدية ونظيفة ومتطورة، ومنح النقابات الحرية الكاملة في العمل، وشمول هذه المؤسسات في القانون رقم 10، وهذا كله ممكن الآن.

وإذا كان هذا البديل هو الأول والأهم فعلينا أن نتحدث عن بدائل أخرى أهمها:

تأمين كافة الضرائب المترتبة على كبار المستثمرين خصوصاً، فقد أعلن وزير المالية: أن قيمة التهرب الضريبي يقدر بـ200 مليار ليرة سورية سنوياً. هذه الأموال كافية لتأمين زيادات في الأجور وتنفيذ مشاريع تنموية قادرة على امتصاص نسبة جدية من اليد العاملة الموجودة في البطالة سنوياً، وإذا أضفنا الأموال المهربة من سورية والتي تستثمر في الخارج والمقدرة بـ 150 مليار دولار حسب تصريح وزير المالية أيضاً لأكدنا أن سبب البطالة والضائقة الاقتصادية والهوة بين الأجور والأسعار وتوقف التنمية يعود لحالة النهب التي يتعرض له اقتصادنا من قبل فئة صغيرة من اللصوص، هم من منتجات البيروقراطية السائدة.

 

إن إيقاف تهريب الأموال إلى الخارج وإعادة الأموال المنهوبة سيؤدي إلى نهضة اجتماعية كبرى في بلادنا. وهذا مانطالب به بدلاً من الحلول السريعة التي لا تزيد الوضع إلا تأزماً.